الجزائر: محاكمات صورية لامتصاص الغضب الشعبي
يبدو واضحا أن المحاكمات التي بدأت بعد إلغاء العهدة الخامسة وإجبار عبدالعزيز بوتفليقة على الاستقالة من منصبه الرئاسي تميزت بالطابع الانتقائي المكشوف، حيث أريد لها ألا توسّع نطاقها للكشف عن جذور شتّى أنماط الفساد المالي والسياسي والاجتماعي على الأقل في مرحلتي الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد والرئيس المتقاعد اليامين زروال، علما أنهما مرحلتان شهدتا أزمات كثيرة تتجلى في خلق معارك وهمية طاحنة حول الهوية الثقافية واللغوية الوطنية، وبسببها سجن مواطنون مخلصون كثيرون وقتل فيها العشرات من الأبرياء، وفكَكت النواة الأولى لمشروع الرعاية الاجتماعية في المجتمع الجزائري وهي الأمور التي مهدت جزئيا لانفجار العشرية الدموية وتحطيم الاقتصاد الوطني جراء النهج الرأسمالي الشللي الذي طبق في الجزائر.
في هذا السياق يمكن القول إن المحاكمات التي تمت شكليا في الماضي ضد المسؤولين الكبار قد نفّذت في الكواليس المعتمة بعيدا عن أعين الرقابة الشعبية والإعلام، ولم تؤدّ إلى أي تغيير إيجابي في سلوك المسؤولين الكبار وأعوانهم، والدليل على ذلك هو أن هؤلاء وغيرهم من أقطاب النظام الحاكم ما زالوا يعيثون في البلاد فسادا. وقد تعلم الجزائريون من محاكمة عبدالمؤمن الخليفة، والتستر على المتورطين في قتل ما لا يقل عن ربع مليون مواطن ومواطنة وتشريد واختطاف الآلاف طوال العشرية الدموية، وفي اغتيال الرئيس محمد بوضياف أمام الملأ وفي غير ذلك من التجارب، أن محاكم السلطة الجزائرية غير موثوق في أحكامها.
على ضوء هذا الإرث الثقيل يرى الملاحظون السياسيون أنّ حزمة الأحكام التي صدرت يوم الثلاثاء الماضي عن محكمة سيدي محمد بعاصمة الجزائر وتضمنت عقوبات بالسجن ضد عدد قليل من أفراد الشلة الفاسدة في النظام، وأبرزهم الوزيران الأوَلان الأسبقان أحمد أويحيى وعبدالمالك سلال ليست استثناء أو قطيعة.
ومن المنتظر أن تشهد الجزائر تداعيات معقدة جراء محاكمة جزء بسيط من رموز النظام الحاكم، وليس كل رموزه وعبر مراحل تسلط الحكم الفردي على المشهد السياسي الوطني. وفي هذا الخصوص طفحت إلى السطح ردود فعل الرأي العام الوطني وهناك شبه إجماع على أن هذه المحاكمة والمحاكمات التي سبقتها معدة فقط للاستهلاك السياسي، وهناك من نظر إليها كمجرد آلية توظف من طرف الجناح القوي داخل بنية النظام الحاكم الواحد لحساباته ضد الجناح الذي فقد السلطة بعد إجهاض العهدة الخامسة وإجبار بوتفليقة على الاستقالة من منصبه.
لا شك أيضا أن الهدف الآخر للنظام الحاكم من وراء مسرحية المحاكمات هو الظهور أمام الشعب بمظهر المحارب للفساد من أجل تمرير الانتخابات من جهة، وتشتيت الحراك الشعبي الذي يضمن للنظام الجزائري عدم تحوله إلى قوة سياسية موحدة ومنظمة لها قيادة وطنية منتخبة مشكلة مركزيا وعلى مستوى القواعد الشعبية في الجزائر.
وبالفعل فقد بدأ هذا التشتيت يتجسّد في أشكال مختلفة مثل كثرة بيانات الحراك المختلفة والمتضادة وحرب القوائم التي تصدر هنا وهناك وانقسام ممثلي الحراك الشعبي إلى ملل ونحل، فضلا عن اختراق النظام لشريحة من هذا الحراك مثلما حصل هذا الأسبوع عند الإعلان عن تشكيل المنتدى الوطني للحراك من بعض الحراس القدامى للنظام الحاكم إلى جانب أفراد آخرين دون أن يكون هذا المولود ناتجا عن مؤتمر شاركت فيه وفود مكونات الحراك الشعبي.
في هذا المناخ السلبي نجد الملاحظين السياسيين يستغربون اختزال النظام الجزائري لهذه المحاكمة التي جرت هذا الأسبوع في محاسبة قسم بسيط من جماعة بوتفليقة الذي لم تشمله هو بالذات باعتباره أحد رؤوس الحربة، ويتعجبون أيضا من استثناء جوقة الفاسدين المتواجدين حتى الآن على رأس مختلف أجهزة الدولة، وكذا المسؤولين الكبار الذين عاثوا فسادا في المؤسسات الكبرى مثل سوناطراك النفطية وإطاراتها المشرفة على صفقات النفط المشبوهة واستولوا من خلالها على أرزاق المواطنين الجزائريين.
وفي الحقيقة فإن ظاهرة الكيل بمكيالين لدى ما تبقى من فلول النظام واضحة للعيان، حيث يدرك الجزائريون أنّ مرحلة بوتفليقة والمراحل التي سبقته ومهدت للأزمة الجزائرية شهدتا تزوير الحقائق والتكريس المنهجي للحكم الفردي والشللي والجهوي المقيت، وإجهاض التنمية بكل أشكالها.
تدرك السلطات الحاكمة، كما يدرك الشعب الجزائري، أن وسائل الإعلام الجزائرية، لعبت أدوارا مركزية في تمرير خطابات العصابات الحاكمة وفي التغطية على تخريبها للبلاد، وتعلم أن مسؤولي هذه المؤسسات الإعلامية نهبوا أموال الشعب من خلال تلقيهم للتمويل بمليارات الدينارات برعاية المخابرات ووزارات السيادة ووكالات الإشهار التي لها ضلع في الفساد، ولكن المسؤولين في هذه المؤسسات ما زالوا طلقاء ويغدقون الأموال على مسؤولي فضائيات وصحف كانوا بالأمس الذراع الفولاذي لجنرالات الحديد والإسمنت ولبوتفليقة وبطانته الفاسدة.