لا انتصار على الأفكار المتطرفة دون إدماج أصحابها بنجاعة في المجتمع

المغرب يضع خطة لتشجيع السجناء على القيام بمراجعات فكرية للتصالح مع ذاتهم وتحصينهم من عدوى التطرف أثناء الاعتقال وبعده.

لا يزال المغرب مستمرا في خطته لإعادة تأهيل السجناء المدانين على خلفية قضايا الإرهاب والتطرف، وذلك من خلال برنامج التدريب على خطاب التسامح ومحاربة الفكر المتطرف، الذي أطلقته المندوبية العامة للسجون وإعادة الإدماج، منذ سنة 2016، ويهدف البرنامج إلى إبراز القدرات المعرفية والمؤهلات الفكرية للسجناء، فضلا عن منحهم فرصا إضافية للتحصيل والتثقيف لتحقيق اندماجهم في المجتمع بعد الإفراج.

 قالت المندوبية العامة للسجون وإعادة الإدماج، في تقارير مقدمة للبرلمان في إطار مناقشة مشروع قانون المالية 2020، إن برنامج التدريب على خطاب التسامح ومحاربة الفكر المتطرف، الذي أطلقته منذ سنة 2016، خصصت نسخته الخامسة هذا العام للسجينات.

ويرى خبراء قضايا الجماعات الاسلامية، أن هذه الفئة من المعتقلين على خلفية ارهابية، لا تشكل عددا كبيرا مقارنة بفئة الذكور، لكن استهدافها ببرنامج تأهيلي يوضح اهتمام الدولة بإعادة إدماجها في المجتمع.

وفي هذا الصدد قامت عناصر المكتب المركزي للأبحاث القضائية في أكتوبر 2016 بتفكيك خلية “نسائية إرهابية”، تضم 10 نساء، بينهن 7 قاصرات، ينحدرن من ثماني مدن مغربية. وقالت المصالح الأمنية إن الخلية كانت تستعد لتنفيذ مشروع إرهابي، يتصل بأجندة ‏تنظيم “داعش”.

ووفق إحصائية لمندوبية السجون غطت حتى مايو 2018، يوجد في المغرب 77 سجنا تضم نحو 80 ألف سجين، 2.41 بالمئة منهم نساء.

المصالحة في السجون

أكدت تقارير المندوبية، المقدمة للبرلمان في إطار مناقشة مشروع قانون المالية 2020، على مواصلة تفعيل الخطة المتعلقة بترويج خطاب التسامح ومحاربة الفكر المتطرف بالسجون، حيث تم تدريب 70 مكونا من بين السجناء، الذين أشرفوا بدورهم على تحسيس 10 آلاف سجين آخر، خلال هذا العام.

واستفاد أزيد من 26 ألف سجين منذ إطلاق برنامج المصالحة الذي تنفذه المندوبية العامة لإدارة السجون، بالتعاون مع الرابطة المحمدية للعلماء والمجلس الوطني لحقوق الإنسان وخبراء متخصصين، حيث جرى تطبيق نسخته الأولى بين 29 مايو و25 يوليو 2016.

وأشرف على عمليات التكوين والتأهيل طاقم من خبراء في علوم النفس والدين وإدارة الأزمات، في مقدمتهم الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، أحمد عبادي، والخبير المغربي في الشؤون الإستراتيجية وتدبير الأزمات ورئيس المرصد المغربي حول التطرف والعنف، مصطفى الرزرازي.

محمد مصباح: الحوار في ذاته مهم، لكنه ليس كافيا، إذا لم يتبع بسياسة إدماج متكاملة ومندمجة، تراعي الجوانب الاقتصادية والاجتماعية
محمد مصباح: الحوار في ذاته مهم، لكنه ليس كافيا، إذا لم يتبع بسياسة إدماج متكاملة ومندمجة، تراعي الجوانب الاقتصادية والاجتماعية 

ويرى مصطفى الرزرازي، رئيس المرصد المغربي حول التطرف والعنف، أن تجربة المغرب بإحداث برنامج “مصالحة” الذي خصص لسجناء الإرهاب والتطرف، تروم تشجيع هؤلاء على القيام بمراجعات فكرية، للتصالح مع ذاتهم، وكذلك تحصينهم من عدوى التطرف أثناء الاعتقال وبعده.

ويشمل البرنامج تكوينا للنزلاء في عدة جوانب، منها فكرية، سيكولوجية، حقوقية واجتماعية، بالإضافة إلى تتويج النزلاء بشهادات تخولهم الاندماج في المجتمع بعد خروجهم، لكن ورغم ذلك تعترضه صعوبات تقف حجر عثرة أمام المستفيدين منه، وهي حسب الرزرازي، ذات طبيعة قانونية ومجتمعية بالإضافة إلى اقتصادية (تعيشها أغلب الحالات).

ويقوم البرنامج الذي يحظى بدعم الأمم المتحدة (برنامج الأمم المتحدة للتنمية)، على ثلاثة محاور أساسية، هي المصالحة مع الذات ومع النص الديني ومع المجتمع، ويستهدف البرنامج السجناء المدانين في قضايا الإرهاب والتطرف، وينفذ بشراكة مع الحكومة اليابانية.

وكما جاء في تقرير المندوبية العامة للسجون، نظمت هذه السنة 2019، 8 ورشات تدريبية في إطار برنامج التثقيف بالنظير، كما تم تنفيذ برنامج المحاضرات العلمية في نسخته الثانية، بمشاركة نزلاء الحق العام، إلى جانب سجناء قضايا التطرف والإرهاب.

ويرى خبراء في الجماعات الإسلامية والفكر الديني، أن الدولة كانت تتردد في إجراء مصالحة مع المدانين بقضايا الإرهاب، بعدما رصدت عودة معتقلين استفادوا من العفو الملكي إلى الانخراط في خلايا إرهابية، وتحذير البعض من هؤلاء الذين سرعان ما يعودون إلى سابق عهدهم بالتطرف العنيف.

وردا على بعض الآراء التي تقول بتوقف هذا البرنامج بشكل مفاجئ، قالت المندوبية إنه سيطلق بداية العام 2020، ببرامج أخرى جديدة “تثمن طاقات وإبداعات السجناء وتبرز الأهمية التي تكتسيها تنمية مواهبهم ومهاراتهم”.

وذهب باحثون في السياسات الأمنية إلى اعتبار هذا البرنامج خطوة مهمة في طريق التعاطي المزدوج مع المعتقلين على خلفية قضايا التطرف على مستوى الضبط الأمني والحوار والإقناع الفكري، مشيرين إلى أن تقييم البرنامج كميا وإحصائيا وعلى مستوى النتائج المرجوة منه يحتاج إلى وقت أطول، خصوصا إذا تم ربط محددات البرنامج مع معالجة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية لهؤلاء.

كما تؤكد مندوبية إدارة السجون، يتميز برنامج “مصالحة” عن برامج المراجعات والحوارات الفكرية التي تم اعتمادها وطنيا وإقليميا في مراحل سابقة، وفي نهاية النسخة الأولى من البرنامج جرى تنظيم مناظرة للمستفيدين منه، بعنوان “تفكيك الخطاب الديني المتطرف”، وكانت بمثابة تمرين لاستيعاب ما تلقوه من معرفة في البرنامج، كما يستفيدون من متابعة نفسية حتى بعد الإفراج عنهم.

وقد تقدم معتقلو السلفية الجهادية بطلبات إلى إدارة السجون من أجل الخضوع إلى هذا البرنامج، مباشرة بعد إجرائهم لمراجعات فكرية واسعة داخل السجون، كشفوا من خلالها عن قناعة كبيرة بمؤسسات الدولة وبإمارة المؤمنين.

وحظي 22 سلفيا جهاديا أدينوا في ملفات محاربة الإرهاب والتطرف، بالعفو الملكي في عام 2018، وحصل 37 معتقلا على العفو الملكي في العام 2016، و14 معتقلا في 2017، ووصفت اللجنة المشتركة

للدفاع عن المعتقلين الإسلاميين الخطوة بالإيجابية وفي الاتجاه الصحيح، داعية الجهات الوصية على الملف إلى اتخاذ خطوات أكثر جرأة، كمّا ونوعا وتوقيتا، في أفق الحل النهائي لهذا الملف.

وكشف تقرير المندوبية العامة للسجون في أنشطته لسنة 2017، أن “بعض المعتقلين المدانين في إطار القضايا المتعلقة بالتطرف والإرهاب استفادوا من برنامج المصالحة، بعدما تراجعوا عن  أفكارهم المتطرفة وأبانوا عن رغبة عميقة في التغيير والإصلاح”، مشيرة إلى أهمية تعميم هذا البرنامج، بفضل “النتائج الإيجابية” التي تحققت في النسخة الأولى، أمام ارتفاع عدد المعتقلين في قضايا التطرف والإرهاب، الذي بلغ عام 2016 ألف معتقل، مقارنة بـ723 معتقلا في 2015.

أكد محمد مصباح، باحث مغربي مشارك في معهد “شاتام هاوس” بلندن، أنه “من المبكر جدا تقييم البرنامج والحديث عن تأثيره في مكافحة التطرف، لكنه في حد ذاته يعتبر خطوة مهمة، وإن كانت متأخرة”. وتابع مصباح أن “الدولة المغربية انتبهت متأخرة إلى أهمية الحوار مع المعتقلين السلفيين، مقارنة مع دول عربية أقل ديمقراطية أطلقت برامج مماثلة منذ عهد طويل”.

ورأى أن “الحوار في ذاته مهم، لكنه ليس كافيا، إذا لم يتبع بسياسة إدماج متكاملة ومندمجة، تراعي الجوانب الاقتصادية والاجتماعية”.

وتقول الباحثة المغربية في علم الاجتماع خديجة الكور إنه “بالرغم من تميز التجربة المغربية في مجال مكافحة الإرهاب التي تزاوج بين المقاربة الأمنية وبين سياسة تأهيل الحقلين الديني والتربوي وبين مكافحة الفقر وبين إشاعة ثقافة حقوق الإنسان والتي مكنت المؤسسات الأمنية من تدمير العديد من شبكات التطرف وتفكيك الخلايا الإرهابية وجعل بلدنا في السنوات الأخيرة في مأمن من عمليات إرهابية مدمرة، فإن هذه الجهود، مهما بلغت نجاعتها، تبقى غير كافية لوحدها لمحاصرة ظاهرة التطرف التي تنبني على مرتكزات فكرية وثقافية تهدد نظام القيم وأنماط السلوك داخل المجتمع”.

ويسعى المغرب إلى اعتماد سياسة شاملة للتصدي للتطرف العنفي ليس فقط عبر درء الهجمات الإرهابية إنما أيضا عبر معالجة الأسباب العميقة للتشدد، مثل غياب المساواة الاقتصادية والاجتماعية، والسرديات الدينية المتطرفة. بالفعل، معظم الخلايا التي جرى اكتشافها في الأعوام القليلة الماضية هي خلايا صغيرة، مؤلّفة من خمسة إلى خمسة عشر شخصا، ما يُشير إلى أن السياسات الرسمية نجحت فعليا في منع الجهاديين من التنظّم في مجموعات أكبر، لكن على الرغم من الجهود المتقطعة التي تبذلها الرباط لدفع الجهاديين إلى نبذ التشدد أثناء وجودهم في السجن، إلا أن هذه السياسة تبقى عاجزة عن إعادة إدماجهم بعد إخلاء سبيلهم.

ووفق مراقبين، الأهم من البرنامج، أنه لا يشتمل على أي إعادة إدماج اقتصادية واجتماعية للجهاديين بعد خروجهم من السجن. فقد أشار أحد المشاركين السابقين في برنامج المصالحة إلى أنه شعر بأنه تعرّض للخداع بسبب “الوعود” التي أطلقها قادة البرنامج عن إعادة الإدماج من دون الوفاء بها “قيل لنا إنهم سيهتمون بنا بعد الخروج من السجن، إنما لم يتحقق شيء”.

وتؤمّن مؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء بعض برامج الرعاية اللاحقة المحدودة للسجناء السابقين بصورة عامة، مثل منحهم هبات صغيرة لمساعدتهم على تأسيس عمل ما، لكنها لم تُعِد برنامجا خاصا للجهاديين السابقين الذين يشتكون من أن الاحتياجات الأكثر إلحاحا بالنسبة إليهم، هي الحد من الوصم التي تُلصَق بهم في مجتمعاتهم، وتقديم الاستشارة النفسية لهم، وفوق ذلك إدماجهم اقتصاديا واجتماعيا.

بدلا من ذلك، تعتمد السلطات، بصورة أساسية، على المراقبة الأمنية الروتينية. ويضم برنامج مكافحة تطرف شامل خدمات من قبيل الدعم الأسري، الاستشارة النفسية، التدريب المهني ومنتديات للاستمرار في النقاش الديني مع علماء دين ذوي مصداقية.

ويعد غياب دور المجتمع المدني في جهود مكافحة التطرف والوقاية منه واحدا من الأسباب وراء فشل الإدماج بعد الخروج من السجن، فالمقاربة الأمنية الطابع التي تنتهجها الدولة لا تُتيح للمجتمع المدني العمل في هذا المضمار، ولا يُقبَل بهم إلا عندما يعملون بالتعاون مع السلطات.

في هذا الصدد، تخشى المنظمات المدنية أن يُعرِّضها العمل على مسائل مرتبطة بمكافحة التشدد، لزيادة إجراءات مراقبتها من السلطات. فعلى سبيل المثال، شنّ وزير الداخلية السابق محمد حصّاد، في كلمة ألقاها أمام مجلس النواب في يوليو 2014، هجوما على الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وهي منظمة حقوقية علمانية، متهما إياها بتقويض الجهود الحكومية الهادفة إلى مكافحة الإرهاب وبإيجاد مبررات وأعذار للتشدد، وغالب الظن أن كلامه هذا جاء ردا على الانتقادات المتكررة التي توجّهها الجمعية إلى الدولة. وقد دفعت هذه الحادثة بمنظمات مستقلة أخرى إلى إبداء حذرها من العمل على مسائل متعلقة بالتطرف خشية منح الحكومة ذريعة تستخدمها لشن هجمات كلامية مماثلة أو حتى الحد من أنشطتها.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: