شعارات الألتراس المغربي.. تداخل حذر بين السياسي والرياضي في شكل نقد للواقع المعيش.
شكلت أناشيد وشعارات الألتراس المغربي في السنوات الأخيرة مجالا خصبا لاهتمام الرأي العام وعامة الناس وكذلك للملاحظة السوسيولوجية والمواكبة الإعلامية والمراقبة الأمنية، نظرا لما ينتج عنها من تعبيرات وسلوكيات اعتبرها البعض تجاوزت ملاعب كرة القدم إلى خطوط التعبير عن الوعي السياسي والمعيش اليومي، وقد ظهر هذا الأمر جليا مؤخرا عندما رفعت جماهير الرجاء الرياضي “تيفو الغرفة 101” في المدرجات ما أثار جدلا كبيرا لما يحمله من دلالات تتفوق على المستوى التعليمي لهؤلاء.
أعطت معاني التيفو الأخير الألتراس لفريق الرجاء للكثيرين الحق في تأويلات تحمل جرعات أكبر مما هو رياضي نحو السياسي ولم لا تحريضي، وهو ما يفسره بعض الباحثين بأن تراجع الأحزاب والنقابات عن أدوارها في التأطير والتنظيم والتثقيف السياسي، جعل الملاعب ساحة لرفع شعارات وترديد أغان فيها حمولة سياسية، وإن أراد أصحابها تغليفها بالمتعة الرياضية والتنافس بين الفرق ومشجعيها.
الألتراس تعبير عن فئة من مشجعي الفرق الرياضية معروفين بانتمائهم وولائهم الشديد لفرقهم في ملاعب ومدارج كرة القدم بشكل احترافي، وتستخدم مفردات متعارفا عليها في مجموعاتهم يتواصلون بواسطتها، ودائما مع أصحاب توجه الألتراس إلى التعبيرات السياسية في شعاراتهم وأغانيهم، ولا بد من التذكير بمشجعي فريق “الجيش” عندما أدوا أغنية “القيلولة في البرلمان”، وصولا إلى أغنية “في بلادي ظلموني” لألتراس الرجاء، التي لاقت انتشارا واسعا داخل وخارج المغرب تعبيرا عن واقع مفتوح على هويات متعددة في بلدان وثقافات أخرى.
في السابق كانت الجماهير الرياضية ترفع لافتات ضد المؤسسات الرياضية، واليوم أصبحت المضامين ذات الحقينة السياسية هي الطاغية في الشعارات داخل الملاعب، كما يرى سعيد بنيس الباحث في علم الاجتماع، مضيفا أنه مع تراجع الوساطة المدنية والسياسية أضحت الملاعب تشكل تعويضا لمواقع الاحتجاج الكلاسيكية (أمام ساحات المؤسسات الحكومية أو في مدينتي الرباط والدار البيضاء)، بل في مواقع تتم من خلالها التنشئة السياسية الفردية والجماعية وتقمص هويات “نضالية” ظرفية.
أكثر من السياسية
لا شك أن الحمولة السياسية التي شحنها جورج أورويل في “الغرفة 101” تختزل عوالم من الفساد والدكتاتورية والقمع، فهل رافعو هذا العنوان كانوا واعين بما يختزنه من مفردات ومعان سياسية عميقة ومفتوحة على واقع غير محدود بالتاريخ والثقافة والجغرافيا المتعددة؟ سؤال لن يلغي التفاعل الجدي مع تيفو الملاعب.
ويقول لحسن تفروت، بالرغم من أن أغلب أسماء جماعات الألتراس المغربي تفضل علامات إسمية ورموزا تدل على الرجولة والفحولة والقوة والحرب والانتصار والمواجهة، إلا أن السمة الغالبة لجماعات الألتراس هي أنها جماعات لا سياسية، من ناحية أن هذه الجماعات لا تتبنى أيديولوجيا حزبية معينة، كأن تنتمي لأحزاب بعينها.
وانتشار أغنية “في بلادي ظلموني” غطى على صاحب الكلمات الذي ربما يكون شخصا واحدا أو أكثر لكن يبدو أنه يعرف هدفه جيدا، ليطرح أحد الباحثين أسئلة تحتاج إلى أجوبة معمقة حول من أوحى بمعاني الأغنية وبفكرة الغرفة 101 ومن عمل على إخراج وتدريب حامليه، ومن هي الجهة أو الجهات التي تمول هذه التيفوات، وما علاقة نادي روطاري أو بعض أعضائه بما يقع داخل الملاعب؟
وبالعودة إلى تيفو الزنزانة 101 الذي رفعته جماهير نادي الرجاء الرياضي في لقائه مع نادي الوداد الرياضي برسم كأس محمد السادس الذي يشرف عليه الاتحاد العربي لكرة القدم، تبقى تلك التساؤلات حسب نفس الباحث، مطروحة بشدة حتى لا تتحول السياسة من إطاراتها الدستورية إلى الملاعب الرياضية حيث يصعب ضبط جمهورها حينما يندفع إلى خارج الملعب ويأتي على الأخضر واليابس في طريقه.
المتن الاحتجاجي لم يعد مقتصرا على شباب أو ألتراس فريق معين، بل صار مشتركا رمزيا يتحدى الحدود السياسية من خلال تفاعلات رمزية متحضرة تشكل فيها بلاغة
إن جل من يشجع نادي الرجاء مراهقون وشباب مستواهم التعليمي متوسط لا يرقى إلى ما أراده أرويل في روايته. ولا مجال هنا للمهاترات في من له الحق في التعبير عن فئات عريضة من المجتمع، خصوصا وأن النخب السياسية فاحت رائحة فسادها حتى أزكمت الأنوف، وخطاب جل هؤلاء لم يعد يغري الشباب فارتموا في أحضان كلمات بسيطة تعبر عن جزء من اهتماماتهم ومعاناتهم وعن شكل من أشكال تطلعاتهم.
ولاحظ الأستاذ الجامعي سعيد بنيس أنه بعد شهر مارس 2018، صارت الشعارات الخطابية والمغناة والمكتوبة متضمنة لمنسوب عال من الاحتجاج والمطالب الاجتماعية والسياسية لتحسين أوضاع الشباب المغربي وتتم بلورتها وترجمتها داخل الفضاء الافتراضي.
وقد أثار “التيفو” الرجاوي الغرفة 101 في اللقاء الأخير نقاشا واسعا خصوصا وأنه مقتبس من رواية جورج أورويل، حيث ميز المؤلف الغرفة 101 كمكان للقهر والتعذيب، إذ كان يعذب فيها الناس بالأشياء التي كانوا يخافون منها بشدة.
وردا على تعليقات سياسيين وفاعلين حقوقيين حول تيفو الرجاء، انتقد ألتراس الرجاء البيضاوي بشدة كل محاولات تسييس “التيفوهات” التي رفعتها “الألتراس”، إذ حاولت بعض الجهات تقديمها على أنها وعي سياسي بالتعذيب الجماعي، في إشارة إلى “تيفو الغرفة 101” لصاحبها الكاتب البريطاني جورج أورويل.
التيفو العابر للرياضة
حسب لحسن تفروت، أستاذ علوم التربية والسوسيولوجيا بالمدرسة العليا للأساتذة التابعة لجامعة القاضي عياض بمراكش، أضحت “التيفوات” و”الفلام”، المحرك الأساسي للمتعة والفرجة الكروية، بفضل ما تقدمه من صور إبداعية، والتي تتفنن في إنجازها لدرجة أوصلتها إلى العالمية، حيث احتل مثلا ألتراس “وينرز” المرتبة السابعة في الترتيب العالمي، فيما جاء ألتراس “غرين بويز” في المرتبة الحادية عشرة عالميا بل وأصبحت للألتراس عامة قوة تخوّل له التحكم في زمام الأمور، حيث أضحى قوة ضاربة، يصل مداها إلى أبعد ما يمكن تصوره، وبإمكانه تغيير رئيس الفريق، إذا لم يرق لهم أدائه.
وبلا شك فإن تيفو الغرفة 101، الذي رفعه فصيلا “ألتراس” الرجاء البيضاوي “إيغلز 06” و“غرين بويز” في ديربي المغرب بين الوداد والرجاء في إياب ثمن نهائي دوري أبطال العرب التي جرت السبت الثالث والعشرين من أكتوبر، يحمل بين طياته رسائل سياسية رغم أنه موجه إلى غريمه الوداد البيضاوي، والذي يمكن إضافته إلى أغاني الرجاء التي أصبحت لها شهرة عالمية، كأغنيتي “رجاوي فلسطيني” و”في بلادي ظلموني”.
وفي ظل التغطية الإعلامية، طالب ألتراس الرجاء من “بعض الأقلام المأجورة التوقف عن بعض التأويلات السياسية الفارغة، كنا ومازلنا وسنظل مجموعات رياضية لا سياسية، فأعمالنا نابعة من إرادة تشريف الفريق ثم جمهوره، فريقنا هو الهدف من تواجدنا أصلا وليس حب الظهور ولا الانصياع لجماعات كيفما كانت صفتها”.
أما على مستوى التحليل الاجتماعي فالخطاب الاحتجاجي في الملاعب يمثل تحولا مجتمعيا على اعتبار أن التنافس الرياضي في ملاعب كرة القدم أصبح “ذريعة” لخلق موقع جديد ونوعي للفاعلية الاحتجاجية الشبابية، كما يرى السوسيولوجي المغربي سعيد بنيس، لافتا إلى أن هذا التحول يسائل طبيعة ونوعية الاحتجاج الذي يظهر في الملاعب وكيفية مقاربة هوية المحتجين الجدد (الألتراس) مع الأخذ بعين الاعتبار الدينامية السياسية لكل بلد على حدة والمحددات الاجتماعية والثقافية التي أدت إلى هذه الفاعلية الجديدة التي برزت داخل ملاعب كرة القدم وفهم مضمونها في سياق المواطنة الرقمية الجديدة.
تعبيرات فوق العادة
الفراغ الذي عبر عنه أكثر من باحث وردد صداه واقع سياسي يحتاج إلى نخب واعية بالواقع وتعيش بين ثناياه، ولن يعدم رواد الملاعب حيلا وتيفوهات أخرى للتعبير والتنفيس، فهناك تعبير “ما بغيتونا نقراو، ما بغيتونا نخدمو، ما بغيتونا نوعاو”، سكتونا بالفاليوم، جيناكم من لخر، الهدرة طلعت في راسي وغير فهموني”، هذا التعبير الاحتجاجي الجديد يعكس، حسب سعيد بنيس، التداخل بين الشعور بالانتماء إلى المجتمع المغربي وسلوك الفاعلية والرغبة في الانخراط في الدينامية المجتمعية والتأثير في السياسة العامة للبلاد.
ومن جانبها، تساءلت رقية اشمال الباحثة في قضايا الشباب، هل كانت العبارات التي ترفعها الألتراس توجه لجمهور الملاعب أم تبتغي اسماعها لخارج أسوار الملاعب؟ لتجيب أن التيفو لم يكن ها هنا إلا أكثر مهارة ابتكارية استباقية لرسم معالم النموذج التنموي الجديد، ويبتغي نقل الحقيقة بكل شجاعة لما عليه نبض المجتمع، وإن كانت مؤلمة وقاسية، كما هي دون زيف أو خداع، مضيفة أن الجمهور الرجاوي لم يكن إلا لجنة بكل المواصفات المحددة المطلوبة لأجل صياغة معالم هذا النموذج، متحليا بالحياد والابتكار.
وتقول رقية الشمال، لعل هذه الجرأة من الجمهور الرياضي تهمس أيضا برفع الإيقاع عند الجمهور السياسي والثقافي والاقتصادي والمجتمعي في عمومه، لأن ينقل الحقائق بكل موضوعية مبتكرا البدائل الجديدة بما يضمن له جاذبية التأثير والتفاعل، مشيرة إلى أن الجرأة التي بدت هنا تعتبر جرس يقظة لمن يهمه الأمر قبل أن تؤول آخر بدائل جبر الضرر للسقوط وفك كل حبال الثقة نحو المؤسسات القائمة.
بعد شهر مارس 2018، صارت الشعارات الخطابية والمغناة والمكتوبة متضمنة لمنسوب عال من الاحتجاج والمطالب الاجتماعية والسياسية لتحسين أوضاع الشباب
وتفاعلا مع ما يحدث في ملاعب المغرب من شعارات وتعابير، دعا حزب الاستقلال المعارض إلى القيام بقراءة عميقة وواعية لهذه التعبيرات، معتبرا أن اللحظة المجتمعية تتطلب من مختلف الفاعلين والقوى الحية تتبع هذه الظواهر الشبابية بيقظة ومواطنة وحس عال بالمسؤولية، من أجل انتشالها من الانهزامية المستشرية، ومواكبتها بالاحتضان والتأطير الملائم والمسؤول، والتعجيل بصياغة الاختيارات التنموية الكفيلة بضمان الكرامة والأمل في نفوس الشباب.
ولم يتخلف زميله في المعارضة التقدم والاشتراكية عندما دعا إلى “الانتباه إلى هذه التعبيرات، والتقاط ما يقتضيه الوضعُ من إعادةِ الاعتبار للفعل السياسي الجاد وللوسائط المجتمعية والمؤسساتية، بما يضمن تملك القدرة على احتضان الحركية الطبيعية والصحية للمجتمع واستيعاب مختلف تعبيراتها المشروعة، في ظل الإطار الدستوري والقانوني والمؤسساتي، وبأفق الإصلاح في كنف الاستقرار، وما تتطلبه اللحظة الوطنية أيضا من ضرورة الارتقاء بالأوضاع الاجتماعية لمختلف الفئات المحرومة بما يحرر على وجه الخصوص طاقات الشباب ويُطلقها في اتجاهات إيجابية وبناءة”.
إن لعبة جماهير الكرة أكثر خطورة لأنها لا تفاوض ولا تلين ولا تعرف حدودا يجب الوقوف عندها، والتعبيرات المتفاوتة القوة في الكلمة واللحن وطريقة الأداء لا تستوجب قراءتها فقط من الجانب الرياضي البريء بل يمكن إدخالها ضمن تصفية حسابات سياسية خصوصا بعد تبني مضامينها من طرف صفحات محسوبة على جماعة العدل والإحسان وبعض الحسابات الشخصية لشخصيات يسارية.
كما يرى أستاذ علم الاجتماع سعيد بنيس، أن كل هذا جعل المتن الاحتجاجي لم يعد مقتصرا على شباب أو جمهور أو ألتراس فريق معين أو محصورا في رقعة جغرافية بعينها، بل صار مشتركا رمزيّا يتحدى الحدود السياسية ويحيي تضامن شعوب المنطقة ويتحدى حسابات وتوافقات البنيات الرسمية والحكومية من خلال تفاعلات رمزية متحضرة تشكّل فيها بلاغة الخطابات الاحتجاجية سلاح التحدي والتغيير.