ترامب ، يحمل هم العالم من بعده

فرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب، على الولايات المتحدة، وعلى العالم، مفهومه الشخصي المغاير على مستوى السياسة الداخلية كما الخارجية، والذي ساعدته وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي على الترويج له بشكل لافت ويتخذ الآن منحى تصعيديا في وقت يسعى فيه ترامب لتحقيق نجاحات مع اقتراب استحقاق 2020.

تختلف الروايات التي تحدد هوية الشخص الذي قال “أنا ومن بعدي الطوفان”. يسندها البعض إلى الملك الفرنسي لويس الخامس عشر. ورغم أن هذه النقطة تبقى غير واضحة، إلا أن التاريخ يحدد اندلاع الثورة الفرنسية بعد وقت قصير من وفاة هذا الملك.

يشهد العالم اليوم نسخة أميركية من لويس الخامس عشر، وتتجسد في دونالد الأول الذي يبدو غير قادر على تخيل عالم من بعده. ويحيط عدد من وسائل الإعلام “المزيفة” و”الفاسدة” بالحاكم الأميركي بطريقة لم يسبق لها مثيل تاريخيا.

لا يمكن لنا أن نقول إن الأمة لم تغرق بعد. بعبارات أخرى، جاء الطوفان بلونه البرتقالي وجسمه الضخم ووجهه العدواني الذي يذكّر بكل أب كان حيا في الخمسينات، بما في ذلك والدي والنائب الجمهوري جوزيف مكارثي (عضو في مجلس الشيوخ الأميركي في الفترة الممتدة بين سنتي 1947 و1957).

بالطبع، يجب أن تكون في سن معين لتتذكر ذلك السياسي الذي يشبه دونالد ترامب في بعض تصرفاته. فبنمط ترامبي مميز (على الرغم من غياب تويتر أثناء توليه لمنصبه)، اتهم وزير دفاع الرئيس هاري ترومان (في المنصب من 1945 إلى 1953) جورج مارشال، ووزير خارجيته دين أتشيسون، بأنهما من العملاء الروس.

وقال مكارثي في تلك الفترة “كيف يمكننا تحديد وضعنا الحالي إذا ما لم نصدق تعاون بعض الرجال في هذه الحكومة لدفعنا نحو كارثة؟”. ويقدم وجود مكارثي تذكيرا بأن الشخصيات ذات الطابع الترامبي لم تكن غائبة في تاريخنا.

تغريدات وإهانات

الرئيس الأميركي معك في كل مكان

بطبيعة الحال، تختلف نسختنا الحالية من لويس الخامس عشر عن كل تلك التي سبقتها. فهي تأتي مع مجموعة من التغريدات والإهانات، ومدح الذات، والأكاذيب والمزاعم، ومع عدد من الأعمال الغريبة التي تمتد على كل المستويات التي يمكن تصورها.

وبفضل وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح دونالد ترامب تجسيدا للطوفان. وأصبح الشعب الأميركي كما لو كان يعيش في البندقية التي غمرتها المياه، حتى وإن لم يدرك ذلك بعد.

وتتزداد الأمور غرابة مع تعامل وسائل الإعلام مع الرئيس وكأنها تغطي كارثة طبيعية. فهي تنقل لنا قصة ترامبيّة واحدة على الأقل كل يوم. لكي نكون واضحين، ارتبط وجود دونالد ترامب بالمنافذ الإعلامية منذ سنة 2016. وتتوسع هذه التغطية باستمرار بطريقة لم يسبق لها مثيل في التاريخ الممتد من عهد بخترشاه (نبوخذ نصر) الذي حكم بابل إلى حاضرنا اليوم.

أصبح ترامب في وجوهنا أكثر من أي ملك وإمبراطور ومستبدّ ورئيس وفنان. بالمقارنة مع حضوره الإعلامي، تتجاهل الميديا ما لا يرتبط بالرئيس من يوم إلى آخر، من أسبوع إلى أسبوع، من شهر إلى شهر، وللأسف من سنة إلى سنة. بعبارة أخرى، يبدو وجود ترامب أبديا. ويصعب على البعض تذكّر هياكل نشرات الأخبار قبل سنة 2016.

ليكن أحد الأيام الأخيرة نموذجا لما أريد أن أعبر عنه كلحظة نموذجية في حياتي خلال عصر ترامب. في طريقي إلى غرفة تغيير الملابس في إحدى الصالات الرياضية المحلية، توقفت لتناول شطيرة في قاعة توجد بها شاشة تلفزيون عملاقة مع عدد من الطاولات والكراسي.

يبقى التلفزيون مفتوحا لمن يريد أن يشاهد ما يجري، وضبط على مجموعة من القنوات الإخبارية مثل “سي.أن.أن” و” أم.أس.أن.بي.سي” و”فوكس نيوز”. وإذا لم يكن وجه الرئيس الغاضب على الشاشة، فستجد المقدمين والمحللين الذين يتجاذبون أطراف الحديث لمناقشته والتطرق إلى أي شيء يتعلق به.

يجب كتابة هذا التاريخ الفريد الذي أثبت فيه دونالد ترامب قدرته على جذب كل كاميرات العالم وعلى الاستيلاء على أهم جزء من اهتمام وسائل الإعلام

في ذلك اليوم بالذات، عندما جلست لآكل شطيرتي، كان التلفزيون يعرض برنامجا على “سي.أن.أن”، وكان يغطي الزيارة غير المجدولة التي نظمها الرئيس إلى مركز والتر ريد الطبي العسكري لإجراء “فحوصات وتحاليل سريعة”.

ادّعى البيت الأبيض أن ترامب كان يخضع إلى جزء من فحوصاته البدنية السنوية المبكرة لأن التاريخ صادف تمتعه بعطلة نهاية أسبوع دون مسؤوليات في واشنطن. لكن الزيارة كانت “غير مقررة” ولم يتوقعها الطاقم الطبي. وكانت التغطية كما لو لم يرتبط اسم دونالد ترامب بكل ما هو غير متوقع من قبل.

في الحقيقة، لم يكن لدى أي شخص ظهر على الشاشة الكثير ليقدمه حول ذلك الموضوع. إذ اقتصر الخبر الوحيد على الزيارة نفسها. ولم تتوفر معلومات غير التي نشرها البيت الأبيض، فتسابق الإعلاميون لإجراء مقابلات مع خبراء طبّيين. ومع انتهائي من الطعام وتوجهي إلى غرفة تغيير الملابس، تركت المحللين يتناقشون حول الموضوع الفارغ.

وعندما مررت بنفس القاعة في طريقي إلى الخارج بعد تمارين السباحة، رأيت مجموعة أخرى من المحللين الذين واصلوا مناقشة زيارة الرئيس إلى والتر ريد.

بعد عدة أيام، ومع شروعي في كتابة هذه المقالة، واصلت القضية احتلال أعمدة الجرائد وشاشات التلفزيون. وكما هو الحال مع الكثير من المواضيع الأخرى التي تحوم حول هذا الرئيس، تواصل “سيل التكهنات” حول هذه “الزيارة الغامضة وغير المعلنة للمستشفى” (حسب تعبير صحيفة نيويورك تايمز) لأيام.

يمكن تطبيق هذه الحالة على كل القصص التي تتعلق بدونالد ترامب. ويعدّ الأمر مزعجا لتكرر هذه السيناريوهات مع كل قصة مرتبطة بالرئيس، كما لو كان ترامب موضوع وسائل الإعلام الوحيد في الماضي والحاضر والمستقبل.

وتعدّ الطبيعة التاريخية لكل هذه الكتابات والمقابلات والتغريدات والمناقشات على مدار الساعة غير مسبوقة. وتبدو وكأن الرئيس جاء هدية من الله إلى الصحافة في سنة 2016. مع أنه من بعض الزوايا، تبدو بعض التحليلات والتقارير معقولة، وخاصة تلك المتعلقة بإجراءات عزل ترامب.

الضوء الأحمر

دونالد ترامب يملأ الشاشة، كامل اليوم

يخفي جسم ترامب (بفضل مجموعة من القرارات الإعلامية التي قررت ماهية الأخبار التي تلفت الانتباه) بقية العالم، وكل شيء لا يتعلق به، ويُبقي أي شخص ذي صلة به أو على استعداد لمهاجمته ونظامه الإمبراطوري الغريب في دائرة الضوء. بتصرفات وسائل الإعلام، تحول ترامب إلى ما يشبه قوة طبيعية، كإعصار من الفئة الخامسة (أو ربما السادسة). وترجع هذه الظاهرة إلى طرق تغطيته.

يجب كتابة هذا التاريخ الفريد الذي أثبت فيه “الملك دونالد الأول”، الذي ما زال “رئيسا” رسميا للولايات المتحدة (رغم أنه يتصرف كما لو كان يشغل منصبا أكبر من ذلك بكثير)، قدرته على جذب كل كاميرات العالم وعلى الاستيلاء على أهم جزء من اهتمام وسائل الإعلام.

نجح الرئيس في إبقاء “الضوء الأحمر” على الكاميرات نابضا منذ سنة 2016، وحقق نظير ذلك على وسائل التواصل الاجتماعي. إنه إنجاز سيذكر على مر العصور، ويبدو كمقامرة ناجحة غامر الصحافيون عند خوضها في عالم إعلامي وجد نفسه في صراع لجمع دولارات الإعلانات وتحقيق وجوده من خلال توجيه الأعين نحوه. ومكّن اهتمام العالم المتواصل من تبرير هذه القرارات التي حددت ما يعتبر خبرا في القرن الحادي والعشرين.

الآن، أصبح ترامب جوهر كل موضوع من الرياضة إلى الأفلام. قيل لنا إن الشتاء قادم. واكتشفنا أن الشتاء يتجلى في الرئيس ترامب.

في سجلّ الرؤساء الأميركيين، أتذكر المرة الأولى التي شهدت فيها هذا النوع من التغطية. وكان العالم حينها مختلفا تماما عن هذا الذي نعرفه اليوم. كان يوم الجمعة 22 نوفمبر 1963. في ذلك اليوم، أطلق أحدهم النار على الرئيس جون كينيدي. كنت أبلغ من العمر 19 سنة. وفي تلك الأيام التي لم يكن لدينا فيها شاشة في كل غرفة (أو كل يد). كنت في قبو مبنى السكن التابع للجامعة مع العديد من الطلاب الآخرين. جلسنا بالقرب من طاولة البلياردو لنشاهد شاشة التلفزيون الوحيدة الذي تمكنّا من الوصول إليها حينها.

خلال جنازة كينيدي يوم الاثنين، كانت 81 بالمئة من أجهزة التلفزيون في المنازل داخل الولايات المتحدة مفتوحة لمتابعة الحدث الوطني. ووفقا لتقرير شركة “نيلسن”، كان 93 بالمئة من الأميركيين يشاهدون ما يجري. وقضى أكثر من نصفهم مدة تتجاوز 13 ساعة في المتابعة. لكن التغطية الفريدة من نوعها انتهت وطويت الصفحة.

يعيش دونالد ترامب في عالم مختلف تماما عن ذلك الذي نتذكره في عهد كينيدي وأوجيه. أصبحنا نحمل الشاشة معنا أينما ذهبنا، ليلا ونهارا. وأصبح الرئيس الأميركي معك في كل مكان.

بسبب بعض القرارات الأساسية التي اتخذتها وسائل الإعلام لتحديد الأمور المهمة التي يجب التركيز عليها أصبحت نشرات الأخبار وكأنها لقطات قريبة لكل تحركات الرئيس. وأصبح ترامب يملأ الشاشة كامل اليوم

في الخامسة والسبعين من عمري، لم ترتبط حياتي بشاشة التلفزيون كثيرا. وما زلت أقرأ الصحف الحقيقية مثل نيويورك تايمز في إصداراتها المطبوعة. (لا أعلم إن كنت سأستطيع الاستمرار في ذلك لفترة طويلة مع تقلص أهمية الصحف الورقية في المنافذ الإعلامية).

تخلصت الصحيفة من عدد من المحررين القدامى (مما يظهر في الأخطاء المطبعية اليومية). وخصّصت عددا أكبر من المراسلين لتغطية ترامب ومن حوله. ويعدّ هذا العدد الأضخم بين كل الذين عيّنتهم في تاريخها لتغطية أي شخص أو حدث.

في بعض الأيام، كما هو الحال في الأسبوع الذي بدأت فيه جلسات الاستماع المرتبطة بعملية عزل الرئيس، أصبحنا نشهد ست صفحات داخلية على الأقل لتغطية “الأخبار” الترامبية. ونجد في ما يصل إلى 3 منها تكملة لما بدأه المحررون في الصفحة الأولى. ويشبّع هذا الهوس المقالات بالمواد المتكررة.

لنأخذ مثالا حديثا من تاريخ 21 نوفمبر، في صباح اليوم الذي تلا شهادة السفير الأميركي لدى الاتحاد الأوروبي غوردون سوندلاند. أبرزت 3 أعمدة من الأعمدة الستة التي تشكل الصفحة الأولى لصحيفة التايمز اقتباسات من شهادة السفير.

كانت الأعمدة الثلاثة الأخرى على رأس الصفحة مقالات عن نفس الموضوع، وكلها تحت عنوان كبير واحد، وهو اقتباس آخر من سوندلاند الذي قال “لقد اتبعنا أوامر الرئيس”. في أسفل الصفحة، كان هناك جزء يتحدّث عن نقاش الديمقراطيين تحت عنوان “الديمقراطيون يخففون من حدّة الخلافات بينهم ويزيدون من حدة الهجمات على ترامب”.

داخل الصحيفة، وجدت 5 صفحات ونصف من الأخبار التي تتحدث عما يحدث مع ترامب. وتطلبت تعبئة هذه الصفحات عمل 11 محررا آخرين. بمعنى آخر، تجاوز عدد الصحافيين الذين تحدثوا عن دونالد ترامب في اليوم الواحد عشرين شخصا. ومع ذلك، لا يمثل هذا النوع من التغطية بحد ذاته أخبارا تصلح بالصفحات الأولى رغم أن الأميركيين يتابعونها.

نهاية ثقافة النصر

في عصر آخر، وخلال تسعينات القرن الماضي في الفترة التي لحقت انتهاء الحرب الباردة، ألّفت كتابا عنوانه “نهاية ثقافة النصر”. تطرّق الكتاب إلى عدد من الفترات التاريخية الحاسمة في تاريخ الولايات المتحدة الحديث. وخلص إلى “موت ثقافة النصر في أميركا” في فترة ما بين سنتي 1945 و1975. وحاولت أن أدل قارئي إلى “مقبرتها” ليراها الجميع، وهي الحرب الكارثية في فيتنام.

في حقيقة الأمر، وعلى الرغم من أحلام النخبة السياسية في واشنطن في الفترة التي تلت الحرب الباردة مباشرة ومن آمال كبار المسؤولين في إدارة بوش في السنوات التي تلت هجمات 11 سبتمبر، أصبح “النصر” هدفا شبه مستحيل في أهم أمة في العالم (كما أوضحت حروبنا التي لا تنتهي خلال هذا القرن). وأصبحنا الآن في عالم أميركي تجاوز ثقافة الانتصار. ويعدّ تواجد دونالد ترامب في البيت الأبيض دليل على ذلك.

أريد أن أطرح سؤالا يجيب عنه شخص مستعد لكتابة كتاب جديد ولم يبلغ من العمر 75 عاما، وهو: ما هو الأمر الذي نعتبر أنفسنا في نهايته الآن؟ يجب أن تكون هناك إجابة واضحة، أليس كذلك؟ ما هو الشيء الذي تمثله “ظاهرة ترامب” حقا؟ والأهم من ذلك، ما الذي يكمن وراء كل الاهتمام الذي توجهه الميديا نحوه؟

بالنسبة لترامب، يعدّ كل ما يجري “مطاردة ساحرات”. وقد وصف تحقيق مولر بـ”أكبر عملية مطاردة ساحرات في تاريخنا السياسي”. كما وظّف نفس التعبير عند حديثه عن مساعي الديمقراطيين الذين بدأوا في اتباع إجراءات عزله. وكتب في حسابه على تويتر فور إعلان رئيسة مجلس النواب عن بدء النظر في المسألة “إنه يوم مهم في الأمم المتحدة مع الكثير من العمل والنجاح، وتعمّد الديمقراطيون تعكيره بمزيد من أخبار مطاردة الساحرات”.

بسبب بعض القرارات الأساسية التي اتخذتها وسائل الإعلام لتحديد الأمور المهمة التي يجب التركيز عليها لحشد المتابعين، أصبحت نشرات الأخبار وكأنها لقطات قريبة لكل تحركات الرئيس. وأصبح دونالد ترامب يملأ الشاشة، كل شاشة، كامل اليوم. وبسبب تركيز وسائل الإعلام عليه، أصبح الرئيس الأميركي الطرف الذي يعزلنا.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: