ثورة تقنية تذهب بالتغيير في إعادة تشكيل العقل البشري إلى أفق مجهول.

ما بين انبهار شديد بالآفاق التي تفتحها الخوارزميات الجديدة في التنبؤ بالمستقبل، واتهامها بالرجم بالغيب، لا يدرك الكثير من رواد التواصل الاجتماعي ومحركات البحث بأنها هي من تقرر لهم نوع ما يقرؤونه من مقالات، وما يرونه من صور، وما يطلعون عليه من إعلانات تظهر لهم بمجرد فتح أو تصفح أي موقع من المواقع، وفي كل الأحوال فإن الزائر يقف عاجزا ومستسلما أمامها، فهي التي تقرر عرض أي شيء، وهي التي تحدد أيضا ما تريد أن تحجبه.

تعتبر علاقة الحواسيب، والهواتف الذكية، وأجهزة الاستشعار، ومنصات التواصل الاجتماعي بالخوارزميات أكثر من مجرد كونها أدوات تقنية نستخدمها، إذ أصبح يُعتمد عليها للتنبؤ بمسار الأحداث، ودرء الأخطار، وتوجيه سلوك الأفراد والجماعات بسبب قدرتها على الاستقراء وفقا لمعلومات سابقة تحصّلت عليها، كما أصبحت حاسمة في فرض ممارسات وقرارات، وتغيير التصرفات.

هذه ثورة جديدة تعيد تشكيل العالم من حولنا ولغتنا بتكوين أفعال جديدة بناء على قواعد نحوية مختلفة، يُغذيها في ذلك تلقيم مستمر من الاستعلامات التاريخية عن الأشخاص، مما يستدعي النبش في آثار الخوارزميات الجديدة في السياسات العامة والقضايا الاجتماعية الشائكة، فهي غامضة ومثيرة للاختلافات في التنبؤ بالسلوك البشري ووسائل تقديرها الإحصائية للسلوكيات المحملة برموز ثقافية.

لذلك لا بد من تثقيف علمي يساعد على فهم أهداف الجمهور لها وإلى أين ستذهب بالتغيير في إعادة تشكيل العقل البشري؟ وربما يكون من المفيد الجمع بين الوعي والشفافية لمحو أميتها في عالم من المستحيل أن نتجنب فيه الخوارزميات تماما بالرغم من أن الأبحاث حول آثارها لا تزال في المهد.

خوارزميات بملامح بشرية

كان أبوعبدالله بن موسى الخوارزمي أول من بحث في اتجاه إيجاد حلول رياضية للمعادلات الخطية والجمع والتفريق في الحساب عبر عمليات ثلاث: التسلسل، والاختيار، والتكرار.

ثم أصبحت للخوارزميات أهمية كبيرة في علم الحوسبة وإجراء العمليات الحسابية فيه عبر هذه العمليات الثلاث، ونتيجة لذلك لقب الخوارزمي بـ”أبوالحاسوب”. وانتشرت خوارزمياته في الغرب باللوغاريتم، ثم تطور الأمر مع العالم البريطاني الفذ آلان تورينغ عندما وضع فكرة آلة شاملة قادرة على أداء جميع العمليات الحسابية، أي أنها تضمنت ببساطة المفهوم الأساسي لهذا العلم. ومن ثم، ربط العمليات الحسابية بتطبيقات لحل معضلة اتخاذ القرار، حيث بتنا اليوم ليس فقط أمام برمجيات رياضية قادرة على الذكاء والتكيف والتعلم ومحاكاة السلوكيات الحيوية وحساب التوقعات لكي تنافس الذكاء البشري، بل التمييز بين الحقيقة والكذب والجمع بين الخبرات السابقة والسيناريوهات الجديدة.

أجهزة الكمبيوتر الرقمية المتصلة بالشبكة غيرت الطريقة التي نعيش بها تفاصيل حياتنا اليومية، وهذه ثورة لا يمكن أن نعرف بدقة تداعياتها في المستقبل القريب

على أساس هذه المعادلة، أصبح بحوزة خوارزميات تقنيات التعلم الآلي في نسخه المتعددة كالتعرف على الصور والكلام بكل دقة، ومن المنتظر أن تستغل بيانات إنترنت الأشياء لكي تتعمم في جميع المجالات. وبالطبع لو سألنا تويتر وفيسبوك وغوغل وسنابشات ويوتوب وفليكر وواتساب… عن طريقة عمل خوارزمياتهم وبرمجياتها سنجابه بصمت كامل وعدم الإجابة، فلكل منها طريقتها الخاصة في العمل، وهي منتجات لعمليات معقدة بغض النظر عمّا إذا كانت تنحو منحى موضوعيا أو عكس ذلك في مجالات المجتمع والسياسة، ونحن اليوم لا نستطيع معرفة أي شيء من أهدافها إلا إذا عرفنا نص البرمجية المعتمدة بدقة بالغة، لكن الشركات الكبرى تريد إخفاء كل شيء عنها أو تقريبا.

ولذا، تركز كل منها على السرية التامة في كيفية اختيار المنشورات التي تظهر في الصفحة الرئيسية للمستخدم، فذلك يعدّ سرا من الأسرار التي تحرص على عدم إذاعتها، فيما جانب الشفافية يظل ضعيفا للغاية، وتتعلل دائما محركات البحث والمواقع بأنها تستهلك لحسابها الخاص كميات هائلة من البيانات التي ينتجها المستخدمون كي ترفع من مستوى خدماتها لهم في النهاية.

لكن من شأن هذا أن يجعل الخوارزميات الجديدة سلاحا كبيرا في حرب الأفكار وهو سلاح أكبر من حرب الجيوش، فهي تتكيف مع جميع الحالات باستخدام إجراء من إجراءات التعليم المنطقية من الناحية الرياضية لسلوكنا ومواقفنا واتصالاتنا. وهذا يؤدي إلى تأثيرات كبيرة سواء كانت جيدة أم سيئة بخاصة عندما يتم التعامل مع المسائل السياسية أو الاجتماعية والاقتصادية والمالية.

أبجدية جديدة

لذلك فالخوارزميات الجديدة عبارة عن عالم من السحر والرعب في آن، فهي بمثابة صندوق سحري يقول لك “إذا حدث كذا، ثم كذا، فلتفعل كذا”. لكن لا يمكن لأحد السيطرة على ما يمكن أن يحدث إذا خرج ذلك عن السيطرة البشرية، بحيث نتذكر مثلا ما وقع في عام 2008 في مصر عبر ما سمي آنذاك بمضاربة الصندوق الأسود أو الخوارزميات بمعاشات الملايين من الأشخاص والرهن العقاري، إذ اختفت المليارات فجأة في ظرف قياسي.

وإلى يومنا هذا لا يوجد إجماع على ما جرى آنذاك بالضبط؟ فمن جهة لم يقم أحدٌ بإعطاء أوامر للقيام بعمليات مالية بنفسه حتى يحاسب عليها، بحيث قامت خوارزميات صندوق المضاربة بذلك، وبالتالي لم تكن لأحد سيطرة على ما كان يحدث فعليا. وكل ما كان لدى المضاربين والعاملين في البورصات مؤشرات أرقام تتحرك في لمح البصر وشاشات عرض بيانية أمامهم، والتي أظهرت لهم فجأة أرقاما كارثية، وكان ليس لهم ما يمكن القيام به إلّا اللطم أو إغلاق التداول. وهذا بسبب أننا صمّمنا وكتبنا خوارزميات بالغة التعقيد لا نستطيع قراءتها، ولفهمها لجأنا إلى شيء غير مقروء، فقدنا على إثره الإحساس بالأبجدية، وارتكنا إلى الحوسبة البرمجية كقاضية في هذه العملية.

لا يمكن حصر العمليات التي تقوم بها الخوارزميات بدقة
لا يمكن حصر العمليات التي تقوم بها الخوارزميات بدقة

على النقيض من ذلك، لا ينكر أحد في نفس الوقت أنه بفضل الخوارزميات الجديدة صرنا نستطيع الاطلاع على ما هو جيد ومفيد عند اتخاذ قرارات مثل السفر مع طيران معين، أو المبيت في فندق ما، أو حتى السماع إلى موسيقى حالمة أو صاخبة بحسب الاختيار. بمعنى أنه إذا كانت الأبعاد الاجتماعية تؤثر إلى حد كبير في ميولاتنا وأذواقنا إلى أمد قريب، باتت الخوارزميات هي التي تشكله وتتحكم فيه اليوم، بل هي التي تسهر على ترتيبه بشكل دقيق.

ووفقا لهذا المنطق، فإن مصطلح “خوارزمية” يحيل إلى أي برمجية حاسوبية تنفذ مجموعة من التعليمات. ومن ثم، تعالج الخوارزميات على المستوى النظري إجراءات مصاغة في جمع بيانات ومعالجتها بعمليات حسابية محددة، وهي تتكون من سلسلة تضمن

من وراء تنفيذها إيجاد حل لمشكلة ما، تماما كوصفات إعداد وطهي وجبة طعام، حيث تأخذ الخوارزميات مُكونات الوجبة أو مدخلاتها، وتُفصل مهام الطهي والإعداد إلى أجزاء متجانسة، ثم تقبل على تنفيذها بشكل تسلسلي (الواحد تلو الآخر)، حتى تستطيع بالمحصلة أن تضع أمامنا النتائج أو المُخرجات (طبق كسكس، مثلا).

وبالتالي، نحن أمام طريقة أداء تتخذ قرارات وتتصرف فيها ثم تنفذها نيابة عن بشر، بخاصة في مجال المضاربات المالية مرشدة الأقوياء إلى أين يتجهون باستثماراتهم أو أين يتفادون وضع أموالهم، كما أن البعض يتحدث اليوم عن خوارزميات قصصية بوسعها إخبار المنتجين والفنانين مسبقا على أفلام ناجحة باستخدام لغات التسويق القصوى.

على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، لا يمكن بطبيعة الحال حصر هذا النوع من العمليات بدقة وتأمين عدم انحيازها أو حدوث الخطأ فيها، فهي مثلا جد خطيرة عندما يتعلق الأمر باتخاذ قرارات حاسمة، فأدواتها غير مهتمة بالنوازع الأخلاقية ولا تعترف بأي دور لها، بحيث ليس هناك أي مكان للعاطفة أو لأي منظومة أخلاقية لدى الخوارزميات الجديدة، فسلوكها لا تحدده سببيا الإرادة والعاطفة البشرية، مما قد يؤدي في بعض الأحيان إلى قرارات غير منصفة أو خطيرة وحتى لو كانت في غاية الدقة. فهي تستفيد من سلوك البشر وحساب بياناتهم فقط، ومن ثم تنتقل إلى عرض وتحديد سلوك الاستخدام النموذجي لكي يصب في الأخير في صالح الجهة الراعية له.

الخوارزميات تعرف كل شيء عن عادات المواطنين
الخوارزميات كل شيء عن عادات المواطنين

كذلك، إنها تعتمد سببية واستقراء مطلَقيْن لكي تصل إلى نتائج حتمية ومطلقة، وهو ما يشير إليه الفيلسوف برتراند راسل عندما يتساءل عن مغزى جمع كل البيانات وتصنيفها ومعالجتها لتحديد سيناريوهات جديدة بناء على سلوكيات اجتماعية قديمة ما دام الماضي قد انعدم، والمستقبل في طور العدم، بحيث نصبح في نهاية هذه العملية أشبه بتلك الدجاجة التي تعلمت التعرف على المُزارع بكونه هو السبب في حصولها على وجباتها اليومية، وذلك بناء على تكرار الفعل الذي يقوم به لفائدتها، لكن هذه العملية المتكررة بانتظام لا تتيح للدجاجة أي سبب منطقي كي تتوقع أن ذلك المزارع سيكون سبب موتها في النهاية لإعداد وجبة من الطعام.

برامج تهديد أو عمليات إنقاذ

في بريطانيا مثلا، تجري عملية تنقيط للمواطنين اعتمادا على بيانات تم جمعها من مؤسسات عمومية (أمن، صحة، وزارة العمل والتقاعد، والبلديات)، والهدف هو التنبؤ بسلوك أفراد يمكن أن يتعرضوا لمشكلات اجتماعية، أما في مجالات أخرى، فيتم اللجوء إليها للتعرف على متهمين يمكنهم إعادة ارتكاب جنح أو حتى في حالة مرضى يستحقون الحصول على المزيد من الرعاية لحالاتهم الخاصة، لكن هذه الخوارزميات هي أبعد عن الموضوعية، وهي في أغلب الأحيان تخدم أهداف واضعيها.

وتعرف هذه الخوارزميات كل شيء عن عادات المواطنين: من يعمل ومن يعيش على حساب المساعدات الاجتماعية، ومن يدرس من الأطفال ومن لا يدرس، وكيف يقضون أوقاتهم، ومن منهم قد يرتكب مخالفات أو جنحا في هذا العمر، بحيث تحلل الخوارزميات كل هذه المعلومات في هذه الوضعية، لكن المعنيين لا يعلمون شيئا عن تلك النتائج المحصلة، ومن ثم يمكن أيضا استخدام هذه المعطيات في تقدير حالات استعجالية وتوجيه اهتمام مضاعف للحالات الإنسانية العاجلة ومحاربة العنف الاجتماعي والتسرب المدرسي ومحاربة الغش أو حتى ترشيد النفقات.

غير أنه بالرغم من كل ذلك، تظل هذه الأنظمة غامضة، وقد تستغلها الشركات القيمة عليها في تنقيط المواطنين ومنح درجات لهم تتدخل لاحقا في الحصول على فرص من عدمها في التوظيف والائتمان الصحي. يضاف إلى ذلك، أن التوقعات غالبا ما تسفر عن نتائج خاطئة في رسم مسار حياة أشخاص، ربما عانوا أو وقعوا في مشاكل سابقة، مما يجعلنا أمام السؤال التالي: هل يمكن لهذه الخوارزميات الجديدة في اعتمادها على جمع بيانات الشخص أن تثمر عن سلوك محايد في الخوارزميات نفسها، وهل من ضمان كي لا تتحايل على كل الضمانات القانونية الخاص باحترام خصوصيات الأفراد واطلاع شركاتها على بيانات شخصية حساسة رغبة منها في زيادة قوة أساليب الاستقراء والاستنباط.

تفوق ذكاء الآلات على ذكاء الإنسان
تفوق ذكاء الآلات على ذكاء الإنسان

إجمالا، تسيطر الخوارزميات الجديدة على تدفق المعلومات وتوجيهها، وبذلك تجبرك في عرضها أو حجبها عنك على تنفيذ إرادتها وقد تختار منها لك ما تريد، بحيث تعمل على توظيف التدخل الإنساني والآلي على حد سواء، كما استخدام الشائعات والقصص عارضة إياها بشكل تكراري منتظم، وبلغات متعددة حتى تصبح في واجهة الوكالات والصحف والمواقع. إذ لها أكثر من سيناريو للتدخل وبحسب ظروف كل شخص، ما يجعل منها نمطا جديدا يضاعف من وظيفة الوسيط القائم بالاتصال وهي قادرة على حجب هوية المخطط الرئيسي للرسائل الإعلامية والصور والإعلانات والأخبار التي يتم بثها في فضاء الإنترنت، ويجعل منها سلاحا رئيسيا في حرب الأفكار، وفي تغيير عقائد المجتمع وتوجهاته بترسيخ أفكار ونبذ أخرى، بالإضافة إلى اللعب بعقول المواطنين.

وهنا مكمن الخطورة، فالخوارزميات الجديدة اقتحمت دفعة واحدة عالم الذكاء الاصطناعي والمعالجات الوراثية، ما يمكن الإنسان من توسيع إمكانياته العقلية والذهنية بدرجة مذهلة. لكن الخوارزميات تظل عصية، لا يستطيع الأفراد من الخارج في الأغلب أن يفهموا بالضرورة آلياتها الداخلية، فهي كما غيرها في النهاية، لها قيمها، وانحيازاتها، بحيث تنذر هذه التقنية الهائلة بأننا بتنا قريبين من قطيعة تصل معها الآلات الذكية إلى نقطة الخصوصية المعروفة في الرياضيات أو الفيزياء، والتي تدل على بلوغ نقطة قطيعة مفصلية في أداء وظيفة، أو الاقتراب من ثقب أسود في فضاء، أما إذا طبقناها على التطور الإنساني، فسنجد أنها تشير إلى تلك اللحظة الذي يتفوق فيه ذكاء الآلات على ذكاء الإنسان، أي تلك اللحظة التي يمكن أن يتضاعف فيه الذكاء البشري مليار مرة إذا اندمج مع الذكاء الاصطناعي.

أما إذا اكتفينا بوضعها في الظرف الحالي، فبإمكان الآلة أن تتعلم لوحدها، وهزيمة بطل عالمي في الشطرنج أو أي طبيب في تشخيص أمراض مستعصية بفضل هذه القدرة الجبارة في إجراء عمليات حسابية معقدة وجمع بيانات ضخمة.

الحواسيب غيرت الطريقة التي نعيش بها تفاصيل حياتنا اليومية، وهذه ثورة لا يمكن أن نعرف بدقة تداعياتها في المستقبل القريب. هذا في الوقت الذي يستعد فيه العالم تطوير قانون غوردون مور الخاص بسرعة المعالجة، وسعة الذاكرة، والحسابات وحتى عدد وحجم البكسل في الكاميرات الرقمية عند الأداء الحاسوبي، حيث يشرح الكمبيوتر نتائج كل خطوة ندرسها، موضحا نتائجها المحتملة والأخرى التي قد نغفل عنها. إن انتباه الآلات الحاد يوفر لنا وقتا أكثر للتخطيط الاستراتيجي بدلا من ضياعه في الحسابات. في هذه الحالة، لا يزال الإبداع البشري مهمّا مرة أخرى.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: