مغربية مغتربة في مونولوج داخلي
بريستيج الحياة يفرض علي أن أكون هاته السيدة الراقية، بكعبها العالي وبأناقتها وبدلالها، تحت الأضواء في إحدى حفلات زواج أوروبي من الطراز العالي، أو إحدى حفلات العشاء الرسمية،وكحال حفلة الليلة،كل شيء بروتوكول أكل بالشوكة والسكين، كلام بالميزان كما لو أننا نزن غرامات من الدهب، ابتسامات مصطنعة تملأ الأفواه تماما كالإبتسامات المزيفة لمضيفات الطائرات، وهن يقدمن الخدمة، عطور تملأ المكان، امتزجت الأنثوية منها بالرجالية، وان لم يخب ظني منها الباريزية ومنها الإيطالية، وموسيقى هادئة أضواء خافتة، أجواء رومنسية، كل شيء يوحي بالحب والدلال، وذالك الماكت أمامي بهيئته الرجولية دون رجولة، يركز شال الحرير على كتفي سيدته، يوهمها ويوهم نفسه أنهما ينسجان حكاية أسطورية للغرام، وتلك الأواني المتلألئة على الطاولات والتي بريقها يخطف الأبصار ، وأنا شاردة الفكر في الاستفسار عما عساهم سيناقشون الليلة، طبعا كنت أستفسر ذاتي، وهل هم أيضا يستفسرون ذواتهم مثلي؟! ظللت في حيرة من أمري، فدنوت قليلا من رفيقتي طبعا كانت إيطالية، وخفتت صوتي الذي هو بأصله خافت، مستفسرة عن محور نقاشنا لهذه الأمسية، فخانتني أحبالي الصوتية، فخرج الكلام كطفل لم يتعلم بعد لغة الكلام، وكان لزاما عني أن أتحدث بصوت أكثر قوة، وكان كذلك وتبسمت رفيقتي التي كانت تتتقن دور المهرجة بتصنع، دونما أن تجيبني عن تساؤلي، ظللت صامتة أرقب المكان والأعين والحركات والإشارات، كل شيء يوحي بعالم من الترف والفن والحب والانسجام، وهاهي المهرجة الثانية تبدأ الحديث، طبعا ببساطته حديث عن المقبلات وكم هي مستمتعة بها، وتواصل حديثها مع كل أكلة، ثم يشاركها الحضور في نفس الموضوع، ثم ينتقلون للحديث عن الحب و الصداقات والعلاقات الاباحية وكل شيء دونما قيود، وأنا شاردة رغم أن المواضيع ليست جديدة عني، فقد عهدتها بطيلة السبعة عشر سنة من مكوتي هنا رغم أنني أشهد نفسي أنني مندمجة في هذه الثقافة، وأعلل رأيي أنني كلما زرت بلدي الأم أستشعر بغربة لم أعهدها وأنا هنا، اللغز ظل يحيرني كل مرة حضرت لحفل ما كنت أظن أن مواضيعهم ستتغير، وستأخذ طابع المواضيع الثقيلة، التي شغلت الأمم أو المفكرين او الفلاسفة او الأطباء، وأذكر تماما كل مراحل دراستي في السنوات الأولى من عمري، وكم كان المعلمون يتقنون فن إستشعار الأطفال بالنضج المبكر، وكم كان المعلمون يقسون على كل من أبدى تصرفه كطفل متجاهلين بذلك المرحلة العمرية وماتوحي به من براءة، في طفولةالجيل الذي أنتمي إليه، كانت البراءة تطمس وكانت الأنفة توأد، وكان الطفل يخضع لنظام عسكري يفقده الإحساس بطفولته، وحتى الآباء لم يكونو يظهرون حبهم القوي لأبنائهم، حتى يصنعون منهم جيلا قويا، أذكر تماما ذات مرة في طفولتي وبينما التقطت مسامعي حديث امرأتين عن كيفية تلقين النضج المبكر للأطفال، وسمعت احداهما تقول للاخرى أنها خلصت أن الأم يجب أن تعتني بطفلها، بتوفير المأكل والمشرب والضروريات، أما الكماليات فليس دائما، وتقبيل الأطفال مرفوض من قاموسهن، بتلك الطريقة تكون اهتمات الأطفال كبيرة. في النهاية دائما الحديث عن الحب والأكل هو محور كل الأحاديث، وأنا مبتسمة مثلهم في دور المهرجة، كل شيء يوحي بالجمال كلوحة فنية أبدعتها يد بيكاسو، الا انا لم أكن أنا، فالطفلة البسيطة القروية التي لازالت لم تتبنى تغييري أبت أن تفارقني، تسكنني منذ البدء ، لازلت أذكر تماما أنها ينال اعجابها طابق أكل بسيط وكانت تركض برفقة الأطفال للشاطيء المحادي لبيتها لشراء مثلجات بدرهم، وكانت تفرح حينما كانت تخيط لها أمها قطعة من قماش صانعة لها ملابس بيتية واسعة فضفاضة بحكم ثقافتا، فالبنات يلبسن الطويل والفضفاض، وكانت تفرح حينما تصنع رغيفا ويأكل منه كل الأهل والجيران، هذه الطفلة البسيطة تمنعني من أن أكون السيدة ذات الكعب العالي الأنيقة المهرجة ذات البريستيج العالي.
أعوذ ادراج بيتي تحضنني الطفلة البسيطة بداخلي، أرمي الحذاء العالي وأرتدي نعل مبسط قديم بعمر جدتي، وأرتدي قميصا فضفاضا لا شيء فيه يوحي بالجمال، لكني أشتم فيه بساطة السنين، وهو أيضا بعمر أمي، وألف رأسي بشال صوفي به بقايا رائحة الحناء والأعشاب التي تضعها أمي على رأسها بين الفينة والأخرى، أشتم رائحة الصدق ورائحة الحب ورائحة البساطة والطفولة والأمان، أحضن الطفلة بداخلي وننام سويا كطفلين لم يتعلما بعد لغة الحياة.
بقلم حسناء مندريس