الظالم و المظلوم في مأزق الجريمة الإلكترونية

الارتفاع المتنامي لجرائم الإنترنت، يهدد بالانتشار على شكل أعمال عنف في العالم الحقيقي، ويبدو أن التفكير في تطوير أدوات لرفع الوعي الاجتماعي بمخاطر التوظيف السيء لوسائل التكنولوجيا، والنظر أيضا في الديناميات الثقافية والاجتماعية والسياسية الأساسية، التي تجعل هذا العالم يتسم بالخطورة الشديدة، يمثلان خطوة مهمة في طريق الحد من مخاطر الجرائم المعلوماتية.

تواجه المجتمعات العربية ارتفاعا ملحوظا في عدد الجرائم المعلوماتية، التي لم تعد مقتصرة على عمليات القرصنة الإلكترونية واختراق أجهزة الكمبيوتر أو الاحتيال عبر المواقع المزيفة، بل تعددت بالتوازي مع تطور وسائل التكنولوجيا، والانتشار الواسع لتقنيات المعلومات في كل مناحي حياة الناس.

وتتنوع هذه الجرائم بين التحريض على الكراهية والتنمّر والتعليقات الجارحة وبيانات التشهير أو المحتويات المضللة، وقد يستخدم الناس أيضا الشتائم والألفاظ البذيئة للتعبير عن آرائهم في قضايا اجتماعية وسياسية مختلفة، من دون أن يدركوا أنهم ارتكبوا جرائم يعاقب عليها القانون، ونوايا معظمهم تميل إلى التهكم والمزاح وليس إلى الإضرار بالأمن العام.

ويمكن أن يقع الملايين ضحايا لمثل هذه الجرائم، التي قد يعتبرها البعض أحداثا عابرة، فلا يقومون برفع شكاوى ضد مرتكبيها، غير أن عددا كبيرا من الأبحاث، أثبتت أن معظمها يمكن أن يؤثر على الصحة النفسية والحياة العملية وحتى العلاقات الاجتماعية، فضلا عن أن الشباب والأطفال الذين يتعرضون على سبيل المثال، للتنمّر عبر الإنترنت قد يكونون أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب، وتزيد احتمالات إقدامهم على إيذاء أنفسهم والانتحار بمقدار الضعف، مقارنة بغيرهم.

المجال المخيف

يرى الخبراء أن انتشار الهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي أفسحت المجال لظهور وانتشار أنواع عديدة من الجرائم المعلوماتية، وأن الخطر الحقيقي يكمن في سوء استخدام التكنولوجيا وتوظيفها لأغراض إجرامية.

سامي نصر: الإعلام البديل الذي تم توظيفه في الثورات العربية أصبح اليوم إعلام شيطنة

وشدّد سامي نصر، المختص في علم الاجتماع، على انتشار الجرائم الإلكترونية بشكل كبير في السنوات الأخيرة، مقسما تلك الجرائم إلى صنفين، وهي: جرائم التحيّل والجرائم المتعلّقة بحرية الرأي والتعبير.

وقال نصر لـ”أخبارنا الجالية ” إن “جرائم التحيّل تعد من اخطر الجرائم الإلكترونية ونذكر منها على سبيل المثال، المشاريع الوهمية وإنشاء الشركات الافتراضية التي تتحيّل على المواطنين”، مشيرا إلى أن “سيكولوجيا المتحيّل” قد أصبحت اختصاصا يدرس في جامعات مصر ويرتكز أساسا على شرح كيفية اصطياد المتحيّل لفريسته واستغلاله لسذاجته.

أما في ما يتعلق بجرائم حرية التعبير فقد أكد نصر على أنها أصبحت منتشرة بصفة ملفتة للنظر في الآونة الأخيرة، ومنها ظاهرة “الشيطنة” و”الشيطنة المضادة” عبر استغلال الفضاءات الإلكترونية.

وقال نصر “الإعلام البديل الذي تم توظيفه أثناء الحراك الاجتماعي في تونس وفي البلدان العربية أصبح الآن إعلام شيطنة”.

وأضاف “لا توجد قوانين منظمة لهذا المجال، فعملية صياغة القوانين تبدو معقّدة لأن الفضاء الإلكتروني فضاء عام”، داعيا الحكومات العربية إلى إيلاء أهمية أكبر لهذا الفضاء السيبراني، وصياغة قوانين تنظمه وتواكب التطورات التكنولوجية المتسارعة من أجل الحد من التهديدات والمخاطر المحتملة، التي يرى أنها تختلف الآن عمّا كانت عليه قبل أعوام قليلة.

كما نبّه بعض الخبراء إلى أن معظم الجرائم التي ترتكب في الفضاءات الإلكترونية يصعب إثباتها قانونيا، خاصة إذا ما انعدم الشهود الذين يؤيدون الضحية، مما يجعل الجناة يفلتون في الغالب من العقاب، لكن غالبا ما تؤدي هذه الجرائم إلى تهديدات أكثر خطورة من المتوقع.

ورغم صعوبة تحديد حجم خسائر الجرائم المعلوماتية، إلا أن التقديرات، كشفت أن الخسائر العالمية لجرائم الإنترنت قد بلغ نحو 445 مليار دولار سنوياً، ولكن تقديرها بشكل دقيق يبدو أمرا عسيرا كونها لا تسجل جميعها.

وبيّنت دراسة لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) أن الأضرار التي لحقت بقطاع الأعمال نتيجة سرقة الملكية الفكرية تتسبب بخسارة الأفراد لحوالي 160 مليار دولار.

وذكرت الدراسة أن الجريمة الإلكترونية تعتبر صناعة نامية تضرّ بالتجارة والقدرة التنافسية والابتكار.

وتشير التقديرات الخاصة بالدراسة التي أشرفت عليها شركة البرمجيات الأمنية “مكافي” إلى أن الخسائر وصلت إلى 375 مليار دولار، في حين أن الحد الأقصى لتقديرات الخسائر قد يبلغ 575 مليار دولار.

غير أن أضرار الجرائم الإلكترونية لا تقتصر على الخسائر الاقتصادية فحسب، بل يمكن أن تؤثّر أيضا على الجانبين النفسي والاجتماعي للناس الذين يقعون ضحايا للترهيب والابتزاز الجنسي، وقد يؤدي ذلك في بعض الأحيان إلى انتحار العديد من الأشخاص لعدم قدرتهن على مواجهة العواقب المدمرة للإهانة أو وصمة العار.

وقالت فتاة فضّلت عدم ذكر اسمها “سرقة هويتي يقلقني فعلا، وأخشى أن ينتحل أحدهم شخصيتي وينشر تعليقات مخجلة أو معلومات ذات طابع حساس، فأصبح متهمة وضحية في نفس الوقت”.

وتأمل هذه الفتاة أن تقوم الحكومات وشركات الإعلام على حد سواء بعلاج هذه المشكلة وتأثيرها السلبي على حياة مستخدمي الإنترنت، وصياغة قوانين تخفف من المخاطر من دون انتهاك لأي حق من حقوق الإنسان على الإنترنت.

وكشف تقرير عالمي صادر عن شركة متخصصة في أمن وحماية المعلومات، أن نحو 67 بالمئة من مستخدمي الإنترنت في الإمارات العربية المتحدة قد واجهوا نوعا ما من الجرائم الإلكترونية، كما صُنّفت الإمارات في عام 2014 كثاني دولة في الشرق الأوسط من حيث عملية الاختراق الإلكتروني، والذي بلغ 4.3 مليون اختراق، وفقاً لشركة “كاسبرسكي” للأمن الإلكتروني.

وعلى مدى عقود تحاول الحكومات العربية وشركات التكنولوجيا الرقمية التغلّب على الأنشطة الإجرامية الإلكترونية ومواجهة التحديات السياسية والاجتماعية التي يفرضها تمازج الثقافات ومنابر التواصل الاجتماعي، وذلك عن طريق فرض قوانين للحدّ من انتشار القرصنة وبيع المخدرات والمواد الإباحية المتعلقة بالأطفال، والترويج للأعمال الإرهابية وخطابات الكراهية، وغيرها من الأفكار والنظريات التي تستخدم من قبل البعض لتبرير العنف.

وفي السنوات الأخيرة الماضية، تعرّضت شبكة الإنترنت للقطع الجزئي وحتى الحجب الكامل في كل من السودان وسوريا والعراق، فيما فرضت بعض دول الخليج قيودا أشد صرامة على الإنترنت، تراوحت بين منع الدخول لبعض المواقع والخدمات الأجنبية ووضع أنظمة وبرامج لمراقبة المحتوى الرقمي وحجب المسيء منها، وإقرار مجموعة من العقوبات الجزرية، تراوحت بين السجن والغرامة المالية وحتى حجب المواقع.

كسر الخطوط الحمراء

جرائم ترتكب بضغطة زر

لكن يبدو أن هذه القوانين ليست حلاّ سحريا يقضي على المشكلة الأساسية، التي تكمن في أن لكل مستخدم للإنترنت مفهومه الخاص عن المحتوى الذي ينشره على الشبكة العنكبوتية، وفي ظل التأثير الهائل للثقافة الشعبية الحديثة لوسائل التواصل الاجتماعي، فإن هناك فرصا لا حصر لها لكي يكسر البعض الخطوط الحمراء المفروضة على النشاطات المحظورة على شبكة الإنترنت.

وتزداد في غضون ذلك الأدلة التي تشير إلى أن هذه النشاطات تنحى نحو الجريمة وليس نحو حرية التعبير فقط.

وكشفت دراسة كويتية أجرتها إدارة الإحصاء والبحوث في وزارة العدل عن تزايد الجرائم الإلكترونية في المجتمع الكويتي، مشيرة إلى أن نحو 75 بالمئة من المواطنين والمقيمين يستخدمون شبكة الإنترنت بصورة يومية، ولكن الأخطر أن نحو 32 بالمئة منهم يجهلون العقوبات المترتبة عن الجرائم الإلكترونية التي قد يرتكبونها.

وتشير الدراسة إلى أن الجرائم الإلكترونية قد قفزت من 20 بالمئة إلى 170 بالمئة خلال الفترة من 2014 – 2016.

وأظهرت الدراسة أن أكثرية قضايا الجرائم الإلكترونية المسجّلة خلال الفترة من 2010 حتى 2016 تتمحور حول جرائم معيّنة، وسببها سوء استخدام الهاتف ومجال المحتوى التقني، وتتعلق معظم الجرائم بالسب والقذف، والمتاجرة بالبشر والتهديد بالقتل، وهتك الأعراض، وتعنيف الأطفال أو التغرير بهم.

القوانين لا تكفي

بالرغم من أن تكنولوجيا الاتصال والمعلومات ظهرت لتلعب دورا مركزيا وضروريا جدا في حياة الناس، وفي مجموعة واسعة من الاستراتيجيات على المستويين التقني والإنساني، لكن يبدو من السهل نسبيا أن يستغل البعض التكنولوجيا ووسائطها المتعددة بطرق غير قانونية، إما عن حسن نية وإما بشكل متعمّد، وخصوصا في ظل جهلهم بأعراف التعامل مع الفضاءات الإلكترونية.

مختار الجماعي: مستعملو المواقع الاجتماعية غير واعين بخطورة ما يرتكبون من جرائم

ويرى المحامي التونسي مختار الجماعي أن الجريمة الإلكترونية، لم تكن نتيجة حتمية للتطور العلمي، مؤكدا على أن مجتمع الإنترنت لا يمتلك فهما واضحا لكيفية عمل بعض البرمجيات، ما يجعل تأمين الفضاء الإلكتروني مهمة صعبة في الوقت الحالي.

وقال الجماعي لـ”أخبارنا الجالية ”، “الإنترنت مجال قديم؛ والجريمة التي كانت لها علاقة به لا تزيد عن جرائم قرصنة البرمجيات الإلكترونية أو الاستيلاء على الأموال بتحويلها من حساب إلى آخر أو عمليات الغش في استعمال بطاقات الائتمان البنكي؛ وهذه الجرائم معقدة ولكنها تتميّز بخاصيتين أولاهما قلّة عددها، وثانيهما إخضاعهما لقواعد القانون الجنائي التقليدي كالتحيّل والتدليس والتزوير ونحو ذلك؛ لذا قلنا إن التطور التكنولوجي لم يكن السبب المباشر لطفرة الجريمة الإلكترونية في الوقت الحاضر”.

وأضاف مستدركا “لكن مع تطور البرمجيات وظهور البرمجيات الجديدة المسمّاة اصطلاحا مواقع التواصل الاجتماعي التي تعتبر تطويرا ملحوظا لغرف الدردشة المغلقة وتحويلها إلى فضاء علني مكشوف، وسهل الاستعمال ومجاني التوظيف، وأهم هذه المواقع الفيسبوك وتويتر وبدرجة موالية نظرائهما واتساب وأم.أس.أن وسكايب..؛ فرغم أن مختلف هذه المواقع جعلت (الإنترنت خبزا على كل مائدة) إلا أنها طورت الجريمة الإلكترونية ورفعت عددها ووسّعت دائرة المتضررين منها”.

وشدد الجماعي على أنّ عدم وعي مستعملي هذه المواقع الاجتماعية بخطورة ما يرتكبون من جرائم، سهّل عملية ارتكاب الجريمة التي أصبحت تتحقق بمجرد الضغط على زر المشاركة أو الإرسال ومن يدركون في بعض الأحيان فداحة الضرر الناتج عن ذلك.

ولاحظ الجماعي أن أكثر الجرائم شيوعا تتراوح بين المخالفات البسيطة من قبيل القذف العلني والاعتداء على الأخلاق الحميدة، مرورا بالجنح والمتمثّلة في التحيّل والابتزاز، وقد تبلغ هذه الجرائم مداها فتهدد الأمن العام وأمن الدولة، مثل إشاعة الأخبار الزائفة وحثّ الناس على مهاجمة بعضهم بعضا.

وتابع الجماعي حديثه موضحا “يبدو أن بساطة ارتكاب الجريمة زادت في انتشارها؛ فضلا عن أن صبغتها العلمية التقنية تحول دون دقة إثباتها ونسبتها لمرتكبها في ظل تعدد الحسابات الوهمية؛ وسرعة حذفها”.

وأضاف “التشريع التونسي مثلا، حاول الحد من الجرائم المعلوماتية بإضفاء خصوصيات في تتبعها، من ذلك أنه أصدر قانون الاتصالات الذي يجرّم المخالفات الاتصالية، وأسند لإدارة الاتصالات سلطات مراقبة ومعاينة وتتبع الجريمة الاتصالية؛ إلا أن النيابة العمومية العدلية انفردت بتتبع تلك الجرائم بما أدّى إلى إبطال أعمال التتبع في أكثر الجرائم الاتصالية”.

علي عزيز المياحي: السبب الرئيسي في كثرة الجرائم الافتراضية ناتج عن عدم خبرة المستخدمين بهذا المجال

من جانبه أكد المحامي العراقي علي عزيز المياحي أن معظم التكنولوجيات الحديثة، أثارت موجة من الحماسة في البداية طغت على المخاطر المحتملة التي قد تفرضها.

وقال المياحي لـ”أخبارنا الجالية ”، “وسائل التكنولوجيا الحديثة بكافة أشكالها أصبحت تشكّل خطرا كبيرا على المجتمعات وخصوصا في الدول العربية المحافظة، ولنأخذ على سبيل المثال المجتمع العراقي الذي يعتبر حديث التعامل مع الإنترنت، وذلك لأن النظام الحاكم الذي كان سائدا قبل العام 2003 حظر الإنترنت فكنّا شبه معزولين عن العالم”. وأضاف “لعلّ السبب الرئيسي في كثرة المشاكل والجرائم التي تُرتكب في الفضاءات الافتراضية وتحت مختلف المسميات، ناتج عن قلة خبرة المستخدمين العراقيين بهذا المجال الشاسع والمجهول، إضافة إلى انعدام القوانين الرادعة التي تنظم هذا الفضاء وتعاقب مرتكبي الجرائم”.

وتابع “من الضروري تشريع قوانين صارمة تحدّ من هذه الجرائم، وقد شرّعت الحكومة العراقية في عام 2014 قانون الجرائم والابتزاز الإلكتروني، لكن الأمر يحتاج إلى أكثر من سنّ القوانين”.

ويرى المياحي أن الأسر العربية اليوم مطالبة أكثر من أي وقت مضى بالتعامل بقدر كبير من الجدية مع المخاطر التي تفرضها وسائل التكنولوجيا الحديثة، وتكون مثالا جيدا يقتدي به الأجيال في هذا المجال عن طريق ممارسة نوع من الرقابة الذاتية للأنشطة التي تقوم بها على فضاء الإنترنت والترفّع عن لغة الحوار المتشنجة وتعبيرات الازدراء والعنف ضد الآخرين.

ودعا المياحي في خاتمة حديثه إلى ضرورة إدراج حملات تحسيسية في المؤسسات التعليمية وبرامج توعوية في المناهج الدراسية لترشيد الطلبة إلى كيفية التوظيف الواعي لهذه الفضاءات التكنولوجية، بهدف الاستفادة أكثر من منافعها والحدّ من مخاطرها.

وتبدو شركات التكنولوجيا الكبرى المسؤولة الرئيسية عن المشكلة الأكبر، والمتمثّلة في المعادلات التي تستخدمها من أجل زيادة الفترات التي يقضّيها المستخدمون في مواقعها، حتى وإن تطلّب الأمر تعريضهم للمحتويات المؤذية وحثّهم على متابعتها

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: