إنتاج الأدب العربي

بخلاف الانطباع الذي قد يوهم القارئ بأننا أمام جيش من الكتّاب المغاربة، يبدو مدهشا أن عدد الأدباء الذين صدرت لهم أعمال أدبية خلال قرن بكامله، وهو القرن العشرين، لم يتجاوزوا الستّ مئة أديب، تنحصر إصداراتهم في الألفي عنوان فقط.

وفوق ذلك، سيتأخر ظهور الأعمال الأدبية الأولى إلى نهاية عشرينات القرن الماضي، وذلك مع ظهور أنطولوجيا “الأدب العربي في المغرب الأقصى” لمحمد بن العباس القباج.

وستشكّل امتداداتُ هذا التأخر أحد الإكراهات الأساسية المحدِّدة، سواء، لحجم بنية منتجي الأدب، أو لمستوى إسهامهم طيلة لحظات طويلة من مسارات تطور المشهد الأدبي بالمغرب. إذ لم يتجاوز، مثلا، عددُ الأدباء الصادرة أعمالُهم خلال مرحلة الحماية، أربعة عشر أديبا فقط.

وارتبط تأخّر ظهور هذه البنية بامتدادات استمرار البنية التقليدية المحافظة. وهي البنية التي تقوم على حضور وظيفة الفقهاء والعلماء باعتبارها محدّدا أساسيا ضمن مسار إعادة إنتاج الثقافة الدينية المحافظة كمكوّن أساسي من مكونات الحياة الاجتماعية.

واستمدّ هذا الحضور خصوصيتَه من  طبيعة اشتغال الفقهاء والعلماء داخل مجال التعليم، حيث منحَ ذلك إمكانيةَ إعادة إنتاج البنية الثقافية التقليدية، وضمان استمرارها كمجال لتكريس الثقافة الدينية المحافظة، ولتثبيت المشروعية الرمزية للنظام.

وهو الأمر الذي تمّ، خصوصا، من خلال الإصلاحات التي عرفتها جامعةُ القرويين خلال أواخر القرن الثامن عشر، والمنبثقة عن المنشور الصادر من طرف السلطان محمد بن عبد الله.

وفي مقابل ذلك، ستفتح الشروطُ السياسية والسوسيوثقافية الجديدة المساوقة للحظة الاستعمار هامشا لتحول البنية التقليدية. وارتبط ذلك من جهة أولى، بانحصار سلطة العلماء بحكم تغيّر التراتبية الاجتماعية التي كانوا يشغلون ضمنها وضعا خاصا.

وارتبط نفس التحوّل بالتعارض القائم على اختلاف المرجعيات الثقافية والأصول الاجتماعية بين جيل المثقفين التقليدي، والجيل الإصلاحي السلفي، ثم الجيل المرتكز على أفكار الوطنية والحداثة. وهي تعارضاتٌ تجلت من خلال تباين التمثلات الثقافية للأجيال الثلاثة، وأشكال تصريفها على مستوى قنوات الاتصال والأشكال التعبيرية.

اختلاف يدفع إلى التحول (لوحة سعد يكن)

وفي خضم هذه التعارضات، عمل الجيل الأوّل على تكريس ثقافته التقليدية المحافظة كشكل من أشكال تبرير اندماجه في إطار سياسة الاستعمار، سواء من خلال إسهامه الفعلي في تثبيتها، أو من خلال صمته و“حياده”. وكان على رأس هذا الجيل محمد الحجوي، الذي راكم تجربة علمية ومهنية كبيرة.

وبمعزل عن هذه الحالة، سيلجأ الجيل التقليدي، على مستوى تصريف أفكاره وتبرير مواقفه، إلى الزوايا وإلى مجموعة من المؤسسات التعليمية كجامعة القرويين، وذلك بشكل ينسجم مع بنية ثقافته الشفوية ومع طبيعة ثقافة متلقيه. وإن كان آخرون اختاروا الارتماء، بشكل مجاني، في حضن الدعاية للاستعمار، حيث واظبت جريدة “السعادة”، وهي لسان الاستعمار الفرنسي، على نشر قصائد لشعراء مغاربة تحتفي بالاستعمار الفرنسي. ومن بينها، على سبيل المثال، قصيدة لمحمد بوجندار عن ترقية الجنرال ليوطي بعد الحرب العالمية الأولى!

وفي مقابل ذلك، تأسست تصورات الجيل الثاني، الذي يمثله على سبيل المثال، أبوشعيب الدكالي ومحمد بن العربي العلوي، على الدعوة إلى الإسلام الأصلي القائم على القرآن والحديث باعتباره لا يتعارض مع التطور.

بينما ارتكن الجيل الثالث إلى الوعي بأهمية تمثل ومعرفة الثقافة الغربية في إطار مسار مواجهة الاستعمار، سواء من خلال اللقاء المباشر بها، أو من خلال وساطة الثقافة المشرقية الجديدة.

وبذلك، سيحقق هذا الجيل هامشَ اختلافه من خلال استثمار مكونات بنية النشر والطباعة، وإمكانيات التداول المتوفرة من خلال الصحافة والمجلات، وذلك بالإضافة إلى قنوات التواصل التقليدية المتجلية في المؤسسات التعليمية والمجالس الأدبية. كما سيختار الجيل نفسه الكتابة الأدبية كشكل من أشكال تحقيق وطنيته.

وبذلك، سيشكل هذا الجيل النواة الأساسيةَ لحركة نشر الأدب بالمغرب حينها. وذلك من خلال توقيعه للأعمال الأدبية الأولى، مثل أنطولوجيا “الأدب العربي في المغرب الأقصى” لمحمد بن العباس القباج، وديوان “أحلام الفجر” لعبدالقادر حسن، وسيرة “الزاوية” للتهامي الوزاني، والمجموعة القصصية “وادي الدماء” لعبدالمجيد بنجلون، بالإضافة إلى مسرحية “على عاتق الشباب” للحسين أفيلال.

بينما سيمثل ثقل تأخر ظهور بنية منتجي الأدب المغربي الحديث محددا أساسيا لواقع المشهد الأدبي الراهن. ولعل من علامات ذلك انحصار إنتاج نصف عدد الأدباء المغاربة في الكتاب الواحد. وهو الأمر الذي ينتظم في إطار ظاهرة الانقطاع عن الكتابة، وذلك من خلال امتداداتها المتجلية، سواء في الانقطاع النهائي عن الكتابة، أو في الصمت العابر، أو في الانتقال إلى حقول معرفية أو علمية أخرى.

وبالطبع، ستجري مياه كثيرة تحت الجسر، وستعرف المراحل اللاحقة تطورات عميقة على مستوى الكتابة الأدبية بالمغرب، في إطار بحثها المستمر عن حداثة مفترضة. غير أن مفهوم الجيل، على الأقل كما نحته عالم الاجتماع الفرنسي روبير إسكاربيت، باعتباره يحيل على مجموع الكتاب ذوي الأعمار المختلفة، والذين يحتلون المشهدَ الأدبي خلال فترة معيّنة، سيصاب بالعطب مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعية، حيث صار المشهد الأدبي أزرق، فسيحا، يحتله من يشاء، كاتبا حقيقيا كان أو مزيفا.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: