مظاهر الحداثة عند بدو الصحراء بالمغرب

تحظى الإبل عند بدو الصحراء في المغرب بمكانة خاصة، وتحيطها عاداتهم، وطقوسهم الاجتماعية بهالة من التقدير والاعتزاز، فليست هي الراحلة التي تنقل عليها المؤن، أو يستخدمها الناس في حلهم وترحالهم فقط، بل إن بدو الصحراء يرون في الإبل، رمزا للمفاخرة، ودليلا على علو المكانة داخل القبيلة، وقد زاد الاهتمام بهذه الراحلة الصديقة للصحراويين أن أدخلوا وسائل التكنولوجيا الحديثة كالجي.بي.إس والسيارات رباعية الدفع لرعيها ومتابعتها.

ما زال حبيب الله الدليمي يسير على خطى أجداده ويتنقل بين شعاب الصحراء المغربية، حيث يرعى قطيعا من الإبل يستغله في إنتاج الألبان واللحوم، وكذلك رياضة سباقات الجمال.

لكن مظاهر الحداثة اقتحمت حياة هذا الراعي المتحدر من قبيلة أولاد الدليم، فخلافا للأجداد، يستقر حبيب الله برفقة عائلته في مدينة الداخلة ولا يمارس الترحال إلا للرعي.

ويتعقب أثر قطيعه من خلال معطيات “جي.بي.إس” مرتبطة بهاتفه الذكي، متنقلا في سيارة رباعية الدفع.

ويأسف حبيب الله (59 عاما)، “لأن شباب اليوم يفضلون البقاء في المدن”، حيث يضطر للاستعانة برعاة يعملون لحسابه أغلبهم قدموا من الجارة موريتانيا، لكنهم أيضا “يطلبون العمل في مناطق مغطاة بشبكة الهاتف النقال”.

في المقابل، تستمر قطعان الإبل في ترحالها بكل حرّية كما اعتادت منذ القدم غير آبهة بوجود تغطية شبكة هاتف أم لا.

تربية الإبل من أجل إنتاج الألبان واللحوم تطورت في كل أنحاء العالم خاصة بالنسبة إلى عشاق المواد الغذائية الصحية

يكثر شرب لبن الناقة بكميات كبيرة عند أهل الصحراء وخصوصا في رمضان، يستخدمون أيضا شحوم الإبل في فصل الشتاء بكثرة، إذ يقومون بتذويبها وإضافة بعض الأعشاب لها، وتركها لتتجمد فيطلق عليها بعد هذه العملية (لُودكْ)، ويستعمل لودك لشفاء العديد من الأمراض في الثقافة الشعبية عند أهل صحراء المغرب، الذين يأكلون كبد الجمل نيئة دون طبخ لعلاج فقر الدم.

ويقول حبيب الله متحمسا، “عندما تتغذى الإبل على أعشاب برية وتمضي اليوم في التجوال يكون الحليب أجود”، شارحا فوائد حليب الناقة الذي يعتبر مصدر الحياة بالنسبة إلى الرحل.

ووفقا للعادات والأعراف المحلية أيضا، يرفض حبيب الله ذكر عدد قطيعه لأن ذلك “نذير شؤم”، مؤكدا أنه يعرف إبله واحدا واحدا تماما كما “يعرف الصحراء والصحراء تعرفه”.

يقول معبّرا عن عشقه لهذا الحيوان الذي يمتاز بالصبر حتى حمل لقب سفينة الصحراء، إنه “يستطيع تحمل كل شيء، الشمس والرياح والرمال ندرة المياه…”، معتقدا أنه “لو كان بإمكانه النطق لرأينا أنه فعلا الأكثر ذكاء” بين الحيوانات.

ولع قديم متجدد

زينة الصحراء ومفخرة البدو الرحل

يظهر ولع حبيب الله بالإبل حتى على صفحته في فيسبوك التي ينشر فيها كل ما يتعلق بتقنيات تربية الإبل ومستجدات الأبحاث العلمية حول الموضوع، فضلا عن أخبار رياضة سباقات الجمال.

لكنه بالمقابل يأسف لأن “تربية الإبل من أجل إنتاج الألبان واللحوم تطورت في كل أنحاء العالم إلا هنا”، رغم أن استهلاك حليب الناقة “بات توجها” بالنسبة إلى عشاق المواد الغذائية الصحية وأن “لحوم الجمال رائعة”.

وأجرت السلطات المغربية دراسات حول تربية الإبل التي تحظى بنجاح في بعض البلدان التي تتميز بمناخها الجاف مثل المملكة العربية السعودية، لكن هذا القطاع لا يحظى بعد بالأولوية.

وأسس حبيب الله جمعية ثقافية تسعى إلى “الحفاظ على الماضي من أجل المستقبل” ورعاية التقاليد الموروثة عن “زمن لم تكن فيه الحدود موجودة، حيث تتنقل العائلات تبعا لحركة القطعان وحركة السحب في السماء”.

وأصبح هذا النمط التقليدي جزءا من الماضي، حيث استقرت الكثير من العائلات الصحراوية في المراكز الحضرية مثل مدينة الداخلة عاصمة جهة وادي الذهب التي تضاعف عدد سكانها ثلاث مرات خلال 20 سنة ليقارب حاليا 100 ألف.

وتراهن السلطات المغربية على تطوير قطاعات الصيد البحرية والسياحة والزراعة داخل الحقول المغطاة في المنطقة.

وفي موازاة هذا التطور، توسع مجال تربية الإبل بعدما كان في الماضي مجرد نشاط معيشي بقطعان صغيرة، ليشمل حاليا 600 ألف مربٍ يملكون 105 آلاف رأس من الإبل و560 ألف رأس من الأغنام والماعز، بحسب أرقام مغربية رسمية.

وتحظى الإبل عند بدو الصحراء في المغرب بمكانة خاصة، وتعتبر رمزاً للتفاخر بين القبائل، وتقام من أجلها المواسم وسط مضمار صحراوي لتتبارى فرق القبائل بين بعضها البعض.

ويمثل امتلاك جمل في الصحراء استثمارا ثمينا وفقا للتقاليد المحلية، كما يوضح حبيب الله، مستشهدا بمثل شعبي يقول “من لا يملك جملا لا يملك شيئا”، فحياة قبائل بدو الصحراء، كما هو حال سائر قاطني أراضي الصحراء الأفريقية الكبرى ترتبط بشكل وثيق، بما تملكه القبيلة من عدد رؤوس النوق والبعير.

ويحب الصحراويون إبلهم بشكل طقوسي واسع، يعشقونها كعشقهم للمرأة والشاي والمكان، يتغنون بها ويمجدونها في أشعارهم ويهونون أنفسهم دفاعا عنها ويضربون بها الأمثال في الغيرة والثأر وعدم نسيان الإساءة والصبر والخبرة في الأرض والهداية للطريق.

يقول مدير مركز الدراسات والأبحاث الحسانية الطالب بويا لعتيك، “الجمل ظل رديفا للإنسان الصحراوي في جميع مراحل حياته حتى في مدنيته الحديثة، فهو لا يزال يستعمله في المهور وفي الولائم، وهذا يدل على ذلك الترابط المتين الذي يربط بينهما”.

وحول الإبل تدور عدد من القصص والأساطير القديمة، فبعض القبائل تعلق التمائم على أعناق النوق التي يعتقد أصحابها أنها ذات منظر بهي، حفظاً لها من كل سوء ومن عيون الحاسدين.

وفي مواسم الأعراس تهدى الإبل مهورا للنساء، حيث تعتليها العروس مرفوقة بالزغاريد، والرقصات الشعبية الصحراوية في مقدمتها “رقصة الكدرة”، وتحضر الإبل أيضا في عقيقة المولود وتعد فدية لتعويض المتضررين.

وحين يبدأ البدو في إشعال النار بالقرب من خيامهم وتعود الإبل إلى مباركها (مكان نومها)، يتسامر الشعراء الصحراويون في نظم أبيات الشعر التي لا تخلو من مدح للإبل والتغني بها. ويقول حبيب الله ممازحا، “حتى أن البعض يعتقد أن الصحراويين مجانين إذ بمجرد أن يحصلوا على أموال يشترون بها هذه الدابة”.

مضمار جديد

للإبل عالم خاص

في عدد من مدن الصحراء بالمغرب، تقام مواسم خاصة تحتفي بالإبل، حيث تنظم مسابقات رسمية لها وسط مضمار صحراوي، كان لمئات السنين ملتقى التقاء القوافل التجارية، ومجمعا للقبائل تتداول فيه ما استجد من شؤونها، وتستقدم كل قبيلة أسرع إبلها، لتباري باقي فرق القبائل، ومتى ظفرت إحداها بلقب السباق، زاد ذلك من حظوتها بين نظيرتها، فالإبل وسيلة يثبت بها الصحراوي قدراته، ويفرض بها نفسه بين أقرانه.

وتعززت القيمة المادية للإبل في المنطقة منذ أن موّلت الإمارات العربية المتحدة بناء ميدان عصري لسباقات الإبل في مدينة طانطان (نحو 900 كيلومتر شمالا).

ووفق حبيب الله، “ارتفعت قيمة الإبل التي تمارس سباقات الجري وصارت تباع بأسعار تصل إلى 120 ألف درهم (حوالي 12 ألف دولار)”.

ويعد المضمار أولَ ميدانٍ لسباقات الهجن في إفريقيا، ويبلغُ طولُه أربعة كيلومتراتٍ بكافة التجهيزات الحديثة على مستوى عالمي يتضمن مقصورةً رئيسية للوفود الرسمية، وكبار الشخصيات، ومدرجاتٍ للجمهور، تتسع لألف شخص.

وينتقي حبيب الله الإبل المرشحة لممارسة هذه الرياضة من بين المواليد الجديدة ذكورا وإناثا، بناء على مؤهلاتها البدنية، ثم يدربها “عبر مطاردتها بسيارة رباعية الدفع في الصحراء، دون حاجة إلى إجراء أي تعديلات على جيناتها” كما يقول ممازحا.

ويشير بفخر إلى أنه فاز ثماني مرات ببطولات أقيمت في المغرب. وباع البطل الأفضل من بين إبله “بثمن جيد جدا”، لكنه لم يعد يرغب في الركض بمجرد أن تغيّر مالكه إذ أن الإبل عنيدة ووفية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: