سجون الجمر والرصاص في رسائل فنية بالمغرب

افتتحت فرقة “النورس” من مدينة سلا قائمة العروض المسرحية التي تخوض سباق المنافسة على الجوائز الكبرى للمهرجان الوطني للمسرح المغربي. العرض الذي شاهده المئات من عشاق المسرح في تطوان، السبت، تحوّلت فيه خشبة المركز الثقافي بالمدينة إلى زنزانة تجري فيها وقائع مسرحية “كرنفال” التي تحكي تجربة متخيلة من تجارب الاعتقال السياسي في المغرب زمن سنوات الجمر والرصاص في سبعينات القرن الماضي.

لا يزال المبدعون المغاربة يستلهمون أعمالا أدبية وفنية جديدة من محكيات سنوات الجمر والرصاص، ومن تجارب الاعتقال السياسي التي كابد فيها المغاربة صنوفا من التعذيب والوأد الجماعي. وعلى غرار النصوص الروائية والسير الذاتية التي دونها المعتقلون ضحايا هذه المرحلة، وفي مقدمتهم عبداللطيف اللعبي وصلاح الوديع وعبدالقادر الشاوي وفاطنة البيه وخديجة مروازي والطاهر بنجلون ومحمد الرايس وجواد مديديش وأحمد المرزوقي، اشتغل عدد من المسرحيين على هذه التجارب، على غرار ما فعل المخرجون السينمائيون المغاربة، ومن ذلك تجربة “جوهرة بنت الحبس” لسعد الشرايبي، و“علي ربيعة والآخرون” لأحمد بولان، و“طيف نزار” لكمال كمال، و“منى صابر” لعبدالحي العراقي، و“ذاكرة معتقلة” لجيلالي فرحاتي و“نصف سماء” لعبدالقادر لقطع.

هذا، دون أن ننسى، بعض الأعمال التشكيلية التي أنجزت في غياهب السجون، ومنها أعمال مغربية رائدة في فن “الأشرطة المرسومة” للمعتقل السياسي والفنان عبدالعزيز مريد.

وبينما حاولت المؤسسات الرسمية “طي صفحة الماضي”، عبر عمليات جبر الضرر وتعويض ضحايا هذه السنوات المعتّمة القاتمة، ضمن هيئة الإنصاف والمصالحة، بما هي نموذج مغربي من نماذج العدالة الانتقالية، لا يزال الفنانون المغاربة يستلهمون هذه التجارب الفردية والجماعية القاسية.

“كرنفال” تجدد طرق استلهام المحكي السجني في المغرب، وتعيد طرح السردية السجنية بشكل مسرحي معاصر ومغاير

أما في مجال المسرح، فيمكن أن نتحدث عن مسرحية “الساروت” للحسين الشعبي، ومسرحية “شجرمر” لعبدالمجيد الهواس، ثم مسرحية “كرنفال”، لمحمد أمين بنيوب، التي أدتها فرقة مسرح القصبة سنة 2005، وبعدها بعشر سنوات، اشتغلت فرقة “مناجم جرادة” على هذا العمل. وها هي فرقة “النورس” من مدينة سلا تصرّ على إحياء جراح الماضي، والعودة إلى هذا العمل المسرحي، إذ لا جدوى من طي صفحة الأمس، ما دامت بقع الدم قد تسرّبت إلى باقي الصفحات.

الراوي والممثل

مسرحية كرنفال تعود إلى الماضي القاسي وسنوات الرصاص

تستلهم مسرحية “كرنفال” شخصية الراوي في الثقافة المغربية قبل الدراسات السردية، حين يروي لنا الممثل نورالدين سعدان، أو أيوب حكاية المسرحية، على غرار رواة الحكاية في ساحة جامع الفنا المراكشية. وهو يذكرنا بتجربة الاعتقال السياسي التي حكمت عليه بعشرين عاما، عاصر فيها عددا من المعتقلين، آخرهم يوسف، الذي سيشنق نفسه داخل الزنزانة. وقد أدّى هذا الدور بقوة كبيرة الممثل عصام الدين محريم.

بعد عرض الحكاية، يأتي عرض المسرحية، ما دامت الحكاية أعظم السرديات البسيطة، بعبارة الألماني أندري ياوس. ثم يعود البطل والراوي، ليختم الحكاية. لكنها مسرحية من شأنها أن تلهم، هي الأخرى، المسرحيين المغاربة القادمين، لتخليد أعمال جديدة فوق الخشبة المغربية، ولتجديد طرق استلهام المحكي السجني في المغرب، وطرح السردية السجنية بشكل فني ومسرحي معاصر ومغاير.

في هذا “الإرشاد المسرحي” المختلف، يحكي لنا بطل المسرحية المنهزم عن عشرين عاما من الحياة، وأخرى قضاها في السجن، منذ أواخر السبعينات إلى أواخر التسعينات، حين التقى بيوسف، فكانت أحداث المسرحية. وتجري أطوار المسرحية ما بين شخصيتين أيوب ويوسف، لتكون بمثابة ديودراما صريحة، برغم حضور شخصية ثالثة رشيدة نايت بلعيد، التي أدت أدوار العروس ثم السجان ثم الأم في نهاية العمل. وقد اقتصدت المسرحية في كل عناصر ومكونات العرض، من ممثلين وديكور، ما دام الأمر يتعلق بفضاء الزنزانة، حيث لجأ المخرج محمد صوفي إلى تقنية “المشهد البسيط”.

كما ظلت الإضاءة خافتة في سائر أطوار المسرحية، لتكشف لنا أو تكاد لا تكشف عن وجهين شاحبين لمعتقليْن سياسييْن يعيشان أقصى وأقسى درجات العزلة. بينما اختار المخرج أن تكون الموسيقى حية ومباشرة، من خلال حضور عازف القيثارة عثمان آيت بلاوشو على يسار الخشبة. وكأننا بهذه المسرحية تستعيد دور “الجوقة” في المسرح الإغريقي، يوم “لم تكن التراجيديا سوى الجوقة، ولا شيء غيرها”، حسب المقولة الشهيرة لنيتشه.

ومسرحية “كرنفال” بقدر ما تنتقد مرحلة سنوات الرصاص في المغرب بقدر ما تواصل نقد الوضع الإنساني في المغرب الراهن، وفي عالم اليوم. وقد اختار الحوار، وهو حوار رمزي أكثر منه مباشرا، تلخيص معاناة السجينين في محنة غاليلو، ومقولة أن “الأرض تدور”، وأن “الإنسان مركز العالم”، في إشارة إلى الحركة والحرية والتغيير، وإعادة الاعتبار للإنسان، بما هو مطلب لكل المعتقلين السياسيين في مختلف سنوات وفضاءات الجمر والرصاص عبر العالم.

وبينما يتحدّث يوسف وأيوب عن ذهاب باقي السجناء المعتقلين إلى الموت، فإنهما ينتظران دورهما باطمئنان، وهما يلزمان سريرين قاسييْن. لكن يوسف يصرّ على أن يدفن بطريقة مشرفة على الأقل.

وتواصل المسرحية اقتصادها، حين يتحوّل السريران إلى مقصلة، حيث شنق يوسف نفسه. لكن يوسف، صاحب الرقم 18 في عداد الموتى، عليه الانتظار، لأن موعد دفنه لم يحن بعد، ولأن القبر المتوفّر الآن خاص بالرقم 17.

تنتهي حكاية يوسف، ويظهر أيوب من جديد، كما ظهر في بداية المسرحية، ليروي لنا تراجيديا سنوات الرصاص. كان أيوب يحمل حقيبة، تأذن بالرحيل. لكنه سيحدثنا عن رسالة كان يوسف قد وجّهها إلى أمه من داخل السجن.

رسالة مسرحية

جراح الماضي لم تندمل 

يختفي أيوب لتظهر شخصية الأم، وهي تحمل رسالة أيوب، لتتلوها علينا. والحق أنها كانت تحمل رسائل وأوراقا كثيرة بين يديها. رسالة مكتوبة بشاعرية دافقة، وبأفكار قلقة، كما تعرفنا إلى يوسف في المسرحية. رسالة أوحت للأم بأن ابنها لم يعد على قيد الحياة، وأنه ميت لا محالة.

وقدّمت الأم مشهد قراءة الرسالة وهي تذرع خشبة المسرح من أولها إلى آخرها، لتؤطر هذا العمل المسرحي برسالته الفنية. تلقي الأم بالرسائل المتبقية في الفراغ وتنسحب، ثم يمتلئ فضاء الخشبة بالعديد من الرسائل التي يُلقى بها من الكواليس ذات اليمين وذات اليسار.. لتذكرنا المسرحية، عبر تقنية “الرسالة” بالكثير من رسائل السجن، التي كانت مرجعا بالنسبة إلى المعتقلين لكتابة سيرهم، ومن ذلك النص الأثير لعبداللطيف اللعبي “يوميات قلعة المنفى: رسائل السجن”.

ومن هناك اقترحت مسرحية “كرنفال” نهاية مفتوحة، إلى حين قراءة هذه الرسائل. وكأنها تذكرنا، هنا، بما قاله أناتولى فاسيليف في رسالته بمناسبة اليوم العالمي للمسرح، قبل ثلاث سنوات، معلنا أن “المسرح يستطيع أن يحكي لنا كل شيء، كيف هي الآلهة في الأعالي، وكيف يذوي المحبوسون في كهوف منسية تحت الأرض”.

هكذا، توجه المسرحية رسائلها، بجمالية مكثفة، وبساطة صعبة، وهي تدور حول الإنسان مركز العالم، كما تدور حول الأرض، التي لم يجد فيها يوسف قبرا يليق به. ومع ذلك، فهي تدور.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: