الجزائر المشغولة بمحاربة الفساد تلجأ إلى أبغض الحلول

في حين أن الدول المتقدمة تتعامل مع الفساد بمحاربته بأساليب متطورة قد تشمل أن يكون الداء نفسه هو الدواء والعلاج، نجد أن الجزائر مثلا تلجأ إلى أكثر الحلول أمانا في نظر مسؤوليها ونسبة المغامرة والمخاطرة فيها أقل. لكن ذلك يبعد كل البعد عن معالجة المشكلة من الجذور بل يزيدها تعمقا وامتدادا وهو ما تلخصه الإجراءات والقرارات المتخذة في سياق محاربة الفساد والتي قد تكون تداعياتها مكلفة أكثر حتى من الأعمال المرتكبة نفسها.

ماذا تفعل إن تمكّنت من الإمساك بمحتال استطاع، وهو في السادسة عشرة من العمر، خداع شركة طيران دولية لينضم إلى طاقم العمل فيها بصفة طيار، رغم أنه لم يتلق أي دروس في الطيران؟ ثم زور شهادات جامعية تثبت أنه طبيب أطفال، ليرأس قسم طب الأطفال في مستشفى كبير. نفس المحتال، انتحل شخصية مدّعي عام ومارس العمل في المحاكم، وقام بتزوير شيكات مصرفية سحب بواسطتها 2.5 مليون دولار من البنوك.

تخيل أنك ألقيت القبض على هذا المحتال، بعد معاناة كبيرة، حتما ستبذل كل ما بوسعك للإلقاء به في السجن أطول مدة ممكنة، وجيد ألا يخرج من هناك. جهاز الأف.بي.آي الأميركي له رأي آخر. بعد أن ألقى القبض عليه، عقد معه صفقة أخرج على إثرها من السجن، شرط أن يتعامل مع الجهاز على كشف عمليات احتيال وتزوير.

الاحتيال مهارة نادرة، وهي مثل السلاح الماضي، يمكن أن يستخدم في ارتكاب جريمة ويمكن أن يستخدم لمحاربة الجريمة.

في الجزائر اختاروا أن يواجهوا ظاهرة الاحتيال بطريقة أخرى هي الانتحار.. كيف؟

فقد الجزائريون نصف مليون وظيفة بعد توقف نشاط عدة شركات طالتها تحقيقات فساد يجريها القضاء الجزائري منذ أشهر.

وهذا ليس كل شيء، قطاع أعمال البناء والري في البلاد يشهد زلزالا حقيقيا؛ أكثر من 70 بالمئة من الناشطين فيه بصدد إغلاق مؤسساتهم. المؤشرات الاقتصادية كلها “باللون الأحمر”، وانتقلت من مرحلة التهديدات إلى مرحلة الأخطار. البلاد تواجه خطر الإفلاس في غضون عام، وما لم يتم تدارك الأمر، لن تجد الدولة ما تطعم به الشعب بحلول شهر ديسمبر 2020.

في واقع متردّ مثل هذا، ماذا يمكن لمحافظ بنك الجزائر الجديد، أيمن بن عبدالرحمن، أن يفعل؟ هل يستمر بتبنّي “أبغض الحلول”، ويلجأ إلى طباعة النقود، السياسة التي اعتمدتها الحكومة السابقة، من أجل التصدي للأزمة الاقتصادية بعد انهيار أسعار النفط في السوق الدولية، الأمر الذي نجم عنه ارتفاع التضخم، وانهيار القدرة الشرائية للجزائريين، وتوقيف منح القروض؛ خاصة أن المليارات من أموال القروض لم تسترجع من رجال الأعمال المحسوبين على الحكومة السابقة، والتي يقبع أصحابها في السجون.

عجز قاصم

مع اتجاه الدينار الجزائري نحو موجة انهيار ثانية، بداية من يناير القادم، ستواجه الحكومة الجديدة عجزا في تمويل مشاريعها. حيث تذهب المؤشرات إلى توقع تراجع سعر الصرف إلى 123 دينارا للدولار الواحد، بعدما كانت الحكومة قد اعتمدت سعرا مرجعيا بـ118 دينارا للدولار.

تخلت الجزائر عن كل شيء. ودخلت حالة هوس، أشبه ما تكون بحملة مطاردة الساحرات التي اجتاحت أوروبا في العصور الوسطى، وأصابتها بموجة رعب.‏ شنت على إثرها حملات واسعة لمطاردة السحرة والقضاء عليهم في ألمانيا‏ وإيطاليا وسويسرا‏ وفرنسا وبلجيكا‏‏ وهولندا.‏ حيث لقي عشرات الآلاف مصرعهم، وتعرض الملايين غيرهم للتعذيب والاعتقال والاستجواب والكراهية.

منذ أشهر يشهد القضاء الجزائري تحقيقات في قضايا فساد، طالت شخصيات مقربة من الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة. وأفضت إلى حبس رجال أعمال بينهم، علي حداد الرئيس السابق لمنتدى رؤساء المؤسسات الاقتصادية، ورجل الأعمال محيي الدين طحكوت. وشمل أمر الحبس ابن رجل الأعمال واثنين من إخوته، بتهمتي الفساد وغسيل الأموال. ويملك طحكوت خدمات النقل الجامعي، وكذلك مصانع لتركيب وتوزيع السيارات في البلاد.

الفساد ثقافة قبل أن يكون أي شيء آخر، من يرمي مخلفات في الشارع فاسد، ومن يستهزئ بقانون المرور فاسد، ومن يدفع رشوة حتى لو كانت 10 دنانير، لموظف حكومي فاسد

وتمت ملاحقة عدد من رموز النظام، أبرزهم السعيد بوتفليقة، والجنرال محمد مدين الشهير باسم الجنرال توفيق، والجنرال عثمان طرطاق، المعروف باسم البشير، بتهمة التآمر على سلطة الدولة والجيش، وكل من أحمد أويحيى وعبدالمالك سلال رئيسي الوزراء السابقين، وعدد من كبار المسؤولين، أودع عدد منهم قيد الحبس المؤقت في سجن “الحراش” بالجزائر العاصمة، فيما وضع آخرون قيد الرقابة القضائية.

وامتدت التحقيقات القضائية لتطال 14 واليا (محافظا)، شغلوا مناصب في مدن كبرى، ولم تسلم وزيرة الثقافة الجزائرية السابقة، خليدة تومي من الملاحقة في قضية تتعلق بتبديد أموال عمومية تخص تسيير موازنة تظاهرتي الجزائر عاصمة للثقافة الإسلامية العام 2011، والجزائر عاصمة للثقافة العربية عام 2015.

وشغلت تومي منصب وزيرة ثقافة بين عامي 2002 و2014، وهي قيادية سابقة عرفت بنضالها في صفوف جمعيات نسوية. وطالت حمّى المطاردة أيضا رئيس فريق وفاق سطيف السابق، حسان حمّار، بتهمة خيانة الأمانة والاحتيال والتزوير. وسبق لحسان التتويج مع الوفاق بالكثير من الألقاب المحلية والأفريقية، أهمها لقب دوري أبطال أفريقيا عام 2014، وكذلك السوبر الأفريقي عام 2015 على حساب الأهلي المصري، فضلا عن مشاركته في بطولة العالم للأندية بالمغرب نهاية العام 2014.

وفي مجال الاقتصاد، وضع ثلاثة رجال أعمال هم كريم ونوح طارق ورضا كونيناف، بالإضافة إلى يسعد ربراب، صاحب أكبر ثروة في البلاد، قيد الحبس المؤقت.

لكم أن تتخيلوا الحجم الهائل لقضايا الفساد المطروحة أمام وزارة العدل الجزائرية، التي تتجاوز قدرة القضاء في أكثر دول العالم تطورا، فما بالكم بالقضاء الجزائري، الذي يعاني من نقص في عدد القضاة والمحققين المختصين.

مشكلات نظامية معقدة

التحقيق القضائي والأمني، المتعلق بقضايا الفساد الكبيرة، يفرض مشكلات نظامية على قدر كبير من التعقيد، إذ تفرض الإجراءات المتبعة على المحققين الأمنيين والقضائيين التدقيق في كل المخالفات التي تم اقترافها من قبل المشتبه بهم، ويؤدي التدقيق في كل مخالفة، أو شبه مخالفة، إلى تمديد التحقيقات وإطالتها على مدى سنوات.

والنيابة العامة مجبرة قانونا على التحقيق في كل قضايا الفساد التي وقعت، وهذا ما سيجر القضاء الجزائري إلى سلسلة من التحقيقات والاستماع لعدد كبير من الشهود، في إجراءات تستغرق أعواما وقد تتجاوز كلفتها المبالغ المسروقة.

Thumbnail

القضاء الجزائري نفسه لم يسلم من تهمة الفساد. في أغسطس الماضي مثل وزير العدل الأسبق، الطيب لوح، أمام المستشار المحقق لدى المحكمة العليا، للتحقيق معه في قضايا فساد؛ تنفيذا لأمر أصدره وكيل الجمهورية، وقد أعلن حينها عن منعه من السفر.

تحولت حمى مطاردة الفساد إلى مجال للمنافسة بين الطامحين للوصول إلى منصب الرئاسة، وبدلا من تقديم حلول للوضع الاقتصادي، أصبح برنامج المرشحين مواصلة الحملة ضد “خلايا الفساد”، لتطال أسماء أخرى.

عملية التطهير ستتواصل ولمدة طويلة؛ لأن وضع رؤوس كبيرة في السجن لا يعني أن كل شيء انتهى، مازالت هناك بقايا مرتبطة بها وهي كثيرة.

هذه هي اللغة التي يتحدث بها المرشحون وتجد قبولا لدى الشارع الجزائري، خاصة عندما يجري الحديث عن استعادة “الأموال المنهوبة” والقروض البنكية الهائلة التي منحت لكبار رجال الأعمال، إلى جانب استعادة الأموال المنهوبة والتي حولت إلى الخارج.

ما هو الحل إذا؟

الفساد ثقافة قبل أن يكون أي شيء آخر، من يرمي مخلفات في الشارع فاسد، ومن يستهزئ بقانون المرور فاسد، ومن يبني عقارا دون ترخيص فاسد، ومن يدفع رشوة حتى لو كانت 10 دنانير، لموظف حكومي فاسد.

يقول الإنكليز إن وجدت نفسك في حفرة، أول ما يجب عليك فعله هو التوقف عن الحفر. الجزائر تعمل اليوم عكس النصيحة الإنكليزية، وتتفرغ كلية للحفر.

الحل هو المصالحة وإقفال ملفات الماضي.. والأهم، التوقف عن الحفر، والشروع بمحاربة ثقافة الفساد.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: