الهجرة الغير الشرعية ، تجريد الشخص من حقوقه

لفترات التحولات والأزمات الدولية والإقليمية والحروب الأهلية ضريبة بشرية تتمثل في الهجرات القسرية، وهي مؤقتة غالبا؛ لارتباطها بظروف قاهرة تجبر مجموعات بشرية على التماس الأمن والعدل في كسب علم أو تأمين عيش. ولم يحدث إلا في السنوات الأخيرة أن وصفت هذه الهجرات بأنها «غير مشروعة»، ولعله وصف استعلائي غير عادل، فالحدود لا تزال مفتوحة في اتجاه واحد، تتدفق عبره البضائع الأوروبية إلى دول جنوبية يراد لها أن تظل سوقا استهلاكية، ولكن الحدود تغلق في وجه أبناء هذا الجنوب، إذا فكروا في الصعود شمالا.

الهجرة السرية تسلل غير قانوني بوثائق مزورة، ولا تخضع للقوانين المنظمة للسفر، وإنما لتحايلات على دولتيْ الانطلاق والوصول. وكانت السينما أوفر حظا بمعالجة قضايا الهجرة السرية، في أفلام روائية وتسجيلية لمخرجين عرب وأفارقة وأوروبيين. ويشكّل العرب وبخاصة السوريين عنوانا لهذه المأساة التي لم تخضع لدراسات كافية، وربما كانت الترتيبات الأمنية والإجراءات الوقائية وقوانين ومواثيق الهجرة الأوروبية أكثر عددا من الكتب العربية المهمومة بهذه القضية. من هذه الكتب «الهجرة غير المشروعة.. دراسة تحليلية تأصيلية مقارنة» للكاتب المصري نزيه محمد عبدالغني القلاوي الذي بحث الظاهرة، ومراوحتها بين قانون دولي يحمي الحقوق والحريات الأساسية للإنسان، وتشريعات محلية تضبط بها الدول حدودها، وتحمي نفسها من «أخطار» تتوقعها من متسللين تخشى أن يكونوا هاربين من القانون، أو جواسيس يختبئون خلف أقنعة الضحايا. وتجادل بأنهم عرضة للاستغلال والتجنيد للقيام بأعمال تخريبية، وأن تزايد أعدادهم يؤدي إلى تكوين أقليات ترفض الاندماج وتعطيها إقامتها غير المشروعة سندا للمطالبة بحقوق لن تتخلى عنها مستقبلا.

تنص المادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، عام 1948، على «حق أي شخص في اختيار مكان إقامته وحرية التنقل داخل أي بلد يشاء»، وأن «لكل شخص الحق في مغادرة أي بلد والعودة إلى بلده الأصلي».

الأمم المتحدة تقدر عدد المهاجرين الدوليين المقيمين خارج أوطانهم بأكثر من 190 مليون مهاجر

ويسجل الكتاب أن معاهدات الأمم المتحدة أكثر رحمة بالمهاجرين، مثل اتفاقية 1990 التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، الخاصة بحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأسَرهم، «وهي الصك الوحيد المتعلق بحقوق المهاجرين»، لكنها لم تدخل حيّز التنفيذ إلا عام 2003، ووقعت عليها نحو 40 دولة معظمها من الدول الطاردة، «في حين لم تصادق ولم توقع عليها دول الاستقبال التي تستقطب أغلب العمال المهاجرين سواء بأوروبا أو أميركا الشمالية، أو في دول أخرى كاليابان وأستراليا ودول الخليج».

يبدأ الكتاب، الذي أصدرته الهيئة المصرية العامة للكتاب، في سلسلة «موسوعة الثقافة القانونية» (2019)، بفصل تمهيدي عن ماهية الهجرة ودوافعها وآثارها، ويليه فصل عن ظاهرة الهجرة غير المشروعة وعلاقتها بالجريمة المنظمة، ويختتم بفصل عن التعاون الدولي لمواجهة ظاهرة تترتب عليها أحيانا جريمة منظمة، بقيام تنظيمات وعصابات إجرامية باستغلال ضحايا الهجرة غير المشروعة، باستدراجهم وإغرائهم وتوجيههم من بلد إلى آخر، وتستطيع هذه التنظيمات توريط العمال المهاجرين في عمليات تهريب مختلفة، «والأخطر من ذلك نجد أن كثيرا من العناصر المهاجرة لها صلة قوية ببعض الجماعات الإرهابية أو العصابات الإجرامية المنظمة، التي تدير الأعمال غير المشروعة مثل الاتجار في المخدرات، وغيرها من الأعمال مثل غسل الأموال والاتجار في البشر».

ولكن في اتفاقية الأمم المتحدة «لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية»، التي أقرت في نوفمبر 2000، بروتوكولا ملحقا خاصا بمكافحة تهريب المهاجرين برا وبحرا جوا، «يوجب عدم ملاحقة المهاجرين غير الشرعيين جنائيا»، ويقول إنه «لا يجوز أن يصبح المهاجرون عرضة للملاحقة الجنائية»؛ لأنهم ضحايا، وسائل وأدوات استخدمتها الجماعات الإجرامية المنظمة، وهي المتهم الذي يحصل من المجني عليهم على أموال طائلة.

وفي استعراضه لتطور محطات الهجرة غير المشروعة، يقرن القلاوي هذه الظاهرة بالحراك السكاني، منذ فجر التاريخ، نتيجة الظروف الطبيعية والأمراض والأزمات الاقتصادية والحروب الدولية والأهلية، وجاءت المحطة الأكثر بروزا بعد الثورات العربية عام 2011. وإذا كان المهاجرون يلتمسون الأمن، فهناك دول تراهم تهديدا لأمنها، لارتباط الهجرة السرية بتزوير الوثائق وجوازات السفر والزواج المؤقت بهدف الحصول على الإقامة. ويختلف المهاجر السري إلى البلاد الغنية عن اللاجئ الملاحق لأسباب سياسية، وتتعرض حياته وأمنه للخطر في وطنه.

ويرى الباحث أن الهجرة السرية تنطوي على قضايا معقدة ومتشابكة، فمن منظور الأمن الداخلي لها مخاطر في الدول المصدرة والمستقبلة، ورفعت معدلات الجريمة المرتبطة بها مثل «التهريب، التزوير، النصب، العنف والسرقة». وهناك أيضا مخاطر اجتماعية في تغييرها للتركيبة الاجتماعية في كلا الطرفين، المصدّر والمستقبل، نتيجة «الانتقاء الهجري»، بانتقال العناصر الشابة إلى دول المهجر، والفقدان المنظم لذوي الكفاءات والمواهب ممن يجدون في المجتمع الجديد تقديرا وتدريبا وحظوة؛ فلديهم «رأسمال ذهني عال»، ولهذا السبب ولغيره أثر نفسي في التكيف الاجتماعي.

وبعيدا عن تأثير الهجرة على الفرد والمجتمع والدولة المصدّرة والمستقبلة يعالج القلاوي تأثير الهجرة غير المشروعة على المجتمع الدولي، فيذكر أن الأمم المتحدة تقدر عدد المهاجرين الدوليين المقيمين خارج أوطانهم بأكثر من 190 مليونا. وأدى تدفق الملايين من المهاجرين السريين إلى مشكلات دولية كتجارة المخدرات القادمة من أفغانستان وشرقي أوروبا ودول أفريقية ولاتينية باتجاه أوروبا الغربية التي انتشرت فيها «شبكات التجارة بالبشر والدعارة». ويمارس محترفو الجريمة المنظمة والتشكيلات الإجرامية أعمالا إجرامية «تتمثل في تهريب الأسلحة والمتفجرات للدول المهاجر إليها لزعزعة أمنها، فضلا عن إمكانية ظهور الأفكار المتطرفة وانتشارها»، وساعد على ذلك عولمة التواصل الإنساني لسهولة استخدام وسائل الاتصالات الحديثة، وظهرت «الجريمة المنظمة العابرة للحدود» التي أبرمت لمكافحتها اتفاقيات دولية.

Thumbnail

ونظرا لحداثة مصطلح «الجريمة المنظمة» يقدم الباحث تعريفات له. فالمؤتمر السادس عشر للجمعية الدولية لقانون العقوبات، بودابست سبتمبر 1999، يقول إن «الجريمة المنظمة تتمثل في أنشطة مرتكبة بواسطة منظمات محترفة ومهيكلة بصورة صارمة. وهذه المنظمات تميل إلى الإجرام، ولا ينطبق النموذج العادي على أعضائها وهي ترتكب جرائم جسيمة كوسيلة للحصول على الربح المالي». وفي عام 2000 عرفتها اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة بأنها جماعة إجرامية «ذات هيكل تنظيمي مؤلفة من ثلاثة أشخاص أو أكثر موجودة لفترة من الزمن، وتعمل بصورة متضافرة بهدف ارتكاب واحدة أو أكثر من الجرائم الخطيرة».

على مستوى نظري، فإن المهاجر السري مكفول بحماية مزدوجة: من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) بمنحها الفرد حق الهجرة والتنقل، ومن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة (2000) باعتبارها المهاجر السري ضحية لعصابات التهريب، وعلى الرغم من ذلك يجري تلخيص الهجرة غير المشروعة باعتبارها «إحدى صور الجريمة المنظمة عبر الوطنية».

وتشمل قضايا الهجرة غير المشروعة أيضا النساء والأطفال الذين يجدون أنفسهم ضحايا لصور من الاتجار والعبودية والاستغلال الجنسي والخدمات القسرية والاسترقاق ونزع الأعضاء، ولهذا السبب ترى الأمم المتحدة جريمة الاتجار في البشر «كارثة إنسانية، وشكلا من أشكال العبودية». ويورد الكتاب قول وليام لاسي سوينج، رئيس المنظمة الدولية للهجرة، في مايو 2017، إن «مهربي البشر يكسبون نحو 35 مليار دولار سنويا على مستوى العالم»، ومع استمرار الصراعات والأزمات الإنسانية تتزايد المخاطر، أثناء عبورهم إلى أوروبا عن طريق ليبيا، بتشجيع من محترفي التهريب، بعد أن صارت «جريمة تهريب البشر الآن ثالث أكبر نشاط إجرامي عالمي بعد تهريب السلاح والمخدرات».

يخلص مؤلف الكتاب إلى أن الهجرة غير المشروعة والاتجار بالبشر هما أكثر تمثيلات «أشكال انتهاك حقوق الإنسان؛ حيث يتم تجريد الفرد من كافة حقوقه»، بداية من حق الحياة لامتلاك هؤلاء قرار إلقاء المهاجر في البحر، وصولا إلى الحق في الكرامة. ويقترح آليات وقائية وأمنية أولها اهتمام الدول الطاردة بزيادة معدلات التنمية، وأن تسهم الدول المستقبلة بتخصيص جزء من أموال مكافحة الهجرة السرية في التنمية الاقتصادية، وإقامة مشروعات استثمارات تحقق الفائدة للطرفين.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: