صفقة القرن ، أم مشروع إحتلال القرن ؟

منذ أن أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن صفقة القرن بقي الحدث يثير ضجيجا ملتبسا ويسيل حبرا كثيرا، دون أن يصدر عن المنابر الرسمية، الإسرائيلية والعربية والدولية، أي موقف يفيد بحقيقة الخطة الأميركية لإرساء السلام في الشرق الأوسط، وموعد إطلاقها وتفاصيلها. لم يظهر من هذه الصفقة غير جانب اقتصادي بشّر به مستشار الرئيس الأميركي جاريد كوشنر واعتبره المراقبون “ترفا استثماريا” أكثر منه حلا لأزمة مقعدة، فيما يبقى الجانب السياسي مثار جدل وغموض، تزهر بعض تفاصيله من وقت لآخر في شكل تسريبات إعلامية أو تصريحات هي أقرب لجس نبض منه لحقائق.

أبوظبي- تكاد الخطة الأميركية لإرساء السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والتي تعرف بصفقة القرن أن تكون ذلك الغائب الذي قد يطل على المنطقة في أي لحظة وفق توقيتات وأجندات لا علاقة لها بيوميات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

تشغل هذه الصفقة، التي وعد بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، منذ أن كان مرشحا للرئاسة، الباحثين على قضايا السلم في الشرق الأوسط، لكونها المشروع الوحيد الذي تعمل الولايات المتحدة على التسويق له لدى دول المنطقة كما لدى العواصم الدولية المعنية بشؤون المنطقة.

طاهر المصري: صفقة القرن مازالت غير معروفة حتى الآن

وتكاد التطورات الدراماتيكية الراهنة في قطاع غزة أن تكون بعيدة عما تحيكه الغرف الكبرى لتمرير تلك الصفقة. كما أن دعوة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى إجراء انتخابات تشريعية، ومفاجأة قبول حركة حماس بها، لا يمكن بالضرورة وضعها داخل حسابات دعم أو معاندة الصفقة التي يشتغل عليها الفريق الأميركي برئاسة صهر ترامب ومستشاره جاريد كوشنر. وفيما تكتمت العواصم العربية عن مضمون ما حمله كوشنر لها، بقيت هذه الصفقة مجرد ضجيج يتم تسريب عناوينه الكبرى وكأنه بالون اختبار لتفقد مرونة النظامين السياسيين، العربي والفلسطيني، على القبول بأفكار أميركية تتحرى إقفال ملف هذا الصراع، والخروج بتسوية تاريخية تسجل لصالح دونالد ترامب في واشنطن.

وفي الجلسة التي ناقشت مسألة صفقة القرن في ملتقى أبوظبي الإستراتيجي السادس الذي أنهى أعماله قبل أيام، رأى طاهر المصري، رئيس الوزراء الأردني السابق، أن تلك “الصفقة غير معروفة حتى الآن”، مضيفا أن “ما نعرفه هو شيء واحد، هو أن الإدارة الأميركية، قبلت أن تكون القدس عاصمة لإسرائيل واعترفت علانية بذلك، وأن الكنيست الإسرائيلي اعتمد قانونا بذلك أصبح جزءا من القوانين الإسرائيلية”.

وعلى هذا يفصح المصري، وهو المطلع على الأقل على الموقف الأردني المتأسس على معطيات قدمها كوشنر لعمان خلال زيارات متعددة، عن أن الصفقة مازالت مجهولة، أو يتم تقديمها على نحو لا يمكن الركون إليه بصفتها مشروعا متكاملا جديا قابلا للنقاش.

واللافت أن العالم لم يعر جهود كوشنر وفريقه كثير اهتمام، وأن ما صدر عن الاتحاد الأوروبي مجتمعا كما عن العواصم الأوروبية المعنية بشؤون الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، كشف عن رفض لأي صفقة لا تأخذ بعين اعتبار حل الدولتين، وخصوصا إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967، كما احترام القرارات الدولية في هذا الشأن.

روبرت مالي: صفقة القرن ليست لها علاقة بأولويات الإدارة الأميركية الحالية

وإذا ما كانت المواقف الأوروبية من المسألة متأثرة أيضا بموقف معظم دول الاتحاد من سياسات الرئيس الأميركي في السياسة الخارجية، لاسيما تلك المتعلّقة بالمواقف العدائية التي اتخذها ضد أوروبا والحلف الأطلسي، فإن مواقف روسيا والصين جاءت رافضة للصفقة حتى قبل ولادتها، خصوصا إذا ما كانت أعراضها الأولى استندت على قرار ترامب تنفيذ قرار قديم للكونغرس بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية في إسرائيل إليها.

والظاهر أن عدم اهتمام المجتمع الدولي للورشة الأميركية لإنتاج هذه الصفقة ينسحب إلى الداخل الأميركي نفسه، بحيث ينظر إلى هذه الصفقة بصفتها مشروعا “عائليا” لترامب، وليست جزءا من التوجهات الاستراتيجية للدولة العميقة في الولايات المتحدة.

ويقول روبرت مالي، الرئيس التنفيذي لمجموعة الأزمات الدولية، إن “صفقة القرن برمّتها ليست لها علاقة بأولويات الإدارة الأميركية الحالية”. ويضيف أن من يهتم بها، “هم فقط من صاغوا هذه الصفقة ويعملون على الترويج لها”.

ومع هذا لا يسقط الباحثون أن الإدارة الحالية ارتكبت سوابق لم تجرؤ عليها الإدارات الرئاسية الأميركية، وأن محرمات قد ارتكبت من قبل واشنطن في مسائل هي مثار نزاع أصيل في الصراع العربي الإسرائيلي برمّته.

ويمثّل الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل كما الاعتراف بهضبة الجولان السورية كجزء من الأراضي الإسرائيلية، انصياعا أميركيا كاملا للرواية الإسرائيلية للصراع، بحيث تنفّذ واشنطن ما يتم سنّه من قوانين إسرائيلية داخل الكنيست من تشريعات.

ويقول شبلي تلحمي، وهو أستاذ كرسي أنور السادات للسلام والتنمية بجامعة ميريلاند، إن “إدارة ترامب هي الإدارة الأميركية الأولى التي تتصرّف بشكل استباقي لدعم موقف إسرائيل”. ويضيف أن “موقف ترامب وإدارته من موضوع القدس واضح، وهي الإدارة الأولى التي تزيل الإشارة إلى مرجعيات الحل المرحلي المعترف بها دوليا، كقرارات الأمم المتحدة والاتفاقات السابقة”. ويرى تلحمي أن واشنطن، ومن خلال موقف إدارتها الحالية، باتت “تعتقد أن هناك وضعا على الأرض تتسيد فيه إسرائيل، وأن على الفلسطينيين القبول بهذا الوضع”.

ديفيد ماكوفسكي: هذا الصراع التاريخي لا يمكن أن يحل بالمال فقط

ووفق ما سبق لكوشنر الإفصاح عنه، فإن صفقة القرن تستند على محرك اقتصادي ضخم من شأنه إقناع أطراف الصراع كما بقية دول المنطقة، لاسيما منها تلك التي تؤثر وتتأثر بأي تسوية داخل هذا الملف، بالانخراط داخل تسوية تاريخية ستغير من وجه المنطقة من خلال تغيير وجه الصراع.

ويقول ديفيد ماكوفسكي، وهو زميل زيغلر المتميز ومدير مشروع العلاقات العربية الإسرائيلية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، إن “في الجانب الاقتصادي لخطة صفقة القرن امتيازات جيدة للغاية. ومع ذلك يعترف الباحث السياسي الأميركي بأن هذا الصراع التاريخي لا يمكن أن يحلّ بالمال فقط دون أن تصاحب المغريات الاقتصادية أخرى سياسية مقنعة.

ويرى ماكوفسكي أن “المشكلة تكمن في الشق السياسي للخطة نفسها، حيث حاولت إدارة ترامب تقديم حزمة اقتصادية متكاملة لدعم الفلسطينيين، لكنها قدّمت خطتها في صيغة إما يربح الجميع وإما لا يربح أحد”. ويخلص إلى أن الخطة، وإن حققت مراحل مهمة، إلا أنها تحتاج إلى مداخل سياسية جديدة أكثر جدية ودراية بحساسيات صراع يجري بين شعوب.

يطرح البحث حول صفقة القرن أسئلة حول مصير تلك الورشة الأميركية الشرق أوسطية إذا ما غاب دونالد ترامب عن البيت الأبيض. كما تطرح أسئلة أخرى عن الكيفية التي ستذهب إليها الإدارة الأميركية إذا ما أعيد انتخاب ترامب رئيسا في انتخابات خريف عام 2020، لاسيما حول قدرة ترامب، المتحرر في ولايته الثانية من أي ضغوط انتخابية، على فرض رؤية فريق كوشنر كما هي أو معدّلة على المنطقة كما على الفلسطينيين والإسرائيليين.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: