الإيديولوجيا الفاشية بدول أوروبا

طوى اليمين المتطرف في إسبانيا الشهر الجاري عقودا من التهميش بحلوله ثالثا في الانتخابات المبكرة الإسبانية، في بلد طارد للتطرف منذ نهاية عهد الجنرال فرانكو. ويطرح اختراق الشعبويين لإسبانيا أكثر من سؤال بشأن ديناميكية المتغيرات الاجتماعية داخل مجتمع ظن سياسيوه أنه محصن ضد التشدد. فهل استفاد الشعبويون من زخم شعبية نظرائهم في البلدان المجاورة أم أنه لا عاصم من تسونامي الانعطاف إلى اليمين؟ ثم ما الذي يدفع بالشباب الإسبان، غير المعاصرين لحقبة الدكتاتورية، إلى تبني أفكار فاشية لم يعايشوها؟

o قبل عام واحد فقط لم يكن الإنجاز الذي حققه حزب فوكس الشعبوي أمرا يمكن التفكير فيه، ففي آخر انتخابات عامة في يونيو 2016، حصل الحزب على 0.2 بالمئة فقط من الأصوات، لكنه اليوم يحصد 10 بالمئة، إذن لقد وقعت الصدمة التي لم يكن أحد يترقبها.

وأنهى فوكس بذلك الاستثنائية الإسبانية التي كانت متمثلة في الحصانة المفترضة للبلاد من الأحزاب اليمينية المتطرفة التي توغلت في السياسة الأوروبية الرئيسية واستسلمت أخيرا للمد الشعبوي الذي ضرب سواحل إيطاليا وقلب باريس وأعاد إحياء جدار برلين.

وكانت إسبانيا في العقد الماضي تبدو محصنة ضد الانتشار الذي يحققه اليمين المتطرف في أنحاء القارة العجوز، ولم تكن الدكتاتورية العسكرية للجنرال الراحل فرانسيسكو فرانكو قد تلاشت بعدُ من أذهان الكثيرين، لكن ها هو حزب فوكس قد رسّخ موضع قدمه كقوة أساسية في مضمار السياسة الإسبانية.

والاشتراكيّون الذين كانوا يأملون في الحصول على غالبيّة واضحة لوضع حدّ للأزمة السياسيّة التي تشهدها البلاد منذ العام 2015 لم يحصلوا سوى على 120 مقعدا بعدما كانوا يشغلون 123، في وقت تقدّم فيه محافظو الحزب الشعبي من 66 إلى 88 مقعدا وفوكس من 24 إلى 52 مقعدا متقدِّما على حزب بوديموس (يسار راديكالي) الذي تراجع من 42 إلى 35 مقعدا.

واستفاد الحزب بشكل كبير من أزمة إقليم كتالونيا المتزايدة، بعد أن تعهد بتبني خط متشدد بشأن مساعي الإقليم للانفصال، كما يقود الحزب أيضا حملة ضدّ الهجرة، ويقيم صلة بين وصول المهاجرين الأفارقة وما يقول إنّه ارتفاع في نسب الجريمة بإسبانيا.

مهد القومية الإسبانية

أعلن عن ولادة حزب فوكس عام 2014 على يد عدد من الأعضاء السابقين في الحزب الشعبي المحافظ، يمين الوسط، الذين كانوا يشعرون بالسخط بسبب السياسات الاقتصادية الفاشلة للحزب وقتها والرد الضعيف على النزعة الانفصالية المتزايدة في إقليمي الباسك وكتالونيا.

وأطلق الحزب الذي رأى النور قبل سنوات قليلة أول حملة انتخابية من قرية كوفادونغا التي تقع في إقليم آستورياس شمالي إسبانيا والتي يسكنها بالكاد مئة شخص.

وترى أوساط اليمين المتطرف الإسباني أن القرية تمثل مهد القومية الإسبانية لأنها شهدت أول انتصار للمسيحيين الهسبان (الاسم القديم للإسبان) على المسلمين الذين كانوا يحكمون الأندلس إلى أن قُضي على الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبرية مع سقوط غرناطة عام 1492.

ويقول نائب رئيس الحزب للعلاقات الدولية إيفان أسبينوزا ديل مونتيروز إن القارة الأوروبية مدينة لإسبانيا لما هي عليها الآن “لأنها أوقفت منذ العصور الوسطى انتشار الإسلام وتوسعه”.

ولا يخفي الحزب عداءه الواضح للمسلمين كما المهاجرين، فقد جرى التحقيق مع الشخص الثاني في الحزب بتهمة نشر الكراهية الدينية عندما تحدث عما أسماه بــ”الغزو الإسلامي الذي يمثل عدو أوروبا”.

رئيس حزب فوكس سانتياغو أبسكال: نريد استعادة اسبانيا نحن حزب الضرورة وليس التطرف

وعلى الرغم من دعوات رئيس الحزب سانتياغو أبسكال لاستعادة إسبانيا فإن الحزب ليس له علاقة بالهجرة والحدود بقدر ما له علاقة أكبر بالسياسة الداخلية.

وتعرض الحزب للسخرية باعتباره حزبا يمينيا متطرفا وشعبويا، معارضا للمهاجرين، ومناوئا للإسلام، لكن زعيمه، يعتقد أن زيادة التأييد الذي حصل عليه في الفترة الأخيرة ترجع إلى أنه “يتماشى مع ما يفكر فيه ملايين الإسبان”.

ورفض زعيمه تصنيف الحزب باعتباره يمينيا متطرفا، قائلا إنه حزب “الضرورة القصوى”، وليس التطرف. وأضاف أن دعمه لعضوية إسبانيا في الاتحاد الأوروبي، تفرق بينه وبين الكثير من الأحزاب الشعبوية، والحركات اليمينية المتطرفة في أرجاء أوروبا.

وتربط بين قيادات اليمين المتطرف في أوروبا أهداف عقائدية عامة تتمثل في الحد من المسار الليبرالي الواضح الذي يسير فيه الاتحاد الأوروبي وإعادة زمام السلطة إلى عواصم الدول الأعضاء.

ورغم أوجه الشبه الواضحة، مثل التشكيك في جدوى أوروبا ومعاداة الإسلام، فإن وحدة الصف ليست بالأمر اليسير بين هذه الحركات. وحتى في سياسة الهجرة، ثمة انقسامات عميقة.ويدعو الحزب إلى “جعل إسبانيا عظيمة مرة أخرى”، ووصف منتقدون أيديولوجيته بأنها شعبوية وتشجع الردة إلى دكتاتورية فرانسيسكو فرانكو.

وعمدت زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا، مارين لوبان، إلى موقع تويتر لتهنئة حزب فوكس على ما أحرزه من انتصار كبير. كما أعرب الإيطالي ماتيو سالفيني من الحركة الشعبوية في بلاده عن سعادته جرّاء النجاح الذي حققه الحزب الإسباني.

وغرد سالفيني على تويتر قائلا “ليست عنصرية ولا فاشية نهائيا؛ في إيطاليا كما في إسبانيا، كل ما نريده هو أن نعيش بسلام في أوطاننا”.

انفصاليو كتالونيا والباسك

نجح حزب فوكس في استمالة الناخبين الإسبان الرافضين للنزعة الانفصالية لإقليم كتالونيا، حيث ساهمت مواقفه القومية في تحقيق الحزب لهذه النتائج الباهرة، إذ أن قبل نشأة الحزب لم يكن للأحزاب اليمينية المتطرفة أي وزن يذكر.

واستطاع أباسكال الذي يدين “خونة إسبانيا” و”اليمين الجبان”، في إنعاش هذا الحزب الذي أسسه قبل خمس سنوات مع عدد من الذين خاب أملهم من الحزب الشعبي اليميني المتهم “بخيانة قيمهم وأفكارهم”.

ويدعو إلى حظر الأحزاب الانفصالية وإلغاء القوانين التي تعاقب على العنف المرتبط بالتمييز حيال المرأة، ويدافع عن العائلة التقليدية مع أن أبناءه الأربعة ولدوا من زواجين مختلفين.

ويستمع الناشطون إلى أباسكال بكل شغف وهو يدين “الدكتاتورية اليسارية” و”أعداء إسبانيا” في إشارة إلى الانفصاليين الكتالونيين والباسك.

وأباسكال (43 عاما) الذي ترعرع بأموريو وهي قرية في منطقة الباسك كان جده رئيس بلديتها خلال حكم فرانكو، يروي أن والده الذي كان عضوا في المجلس البلدي عن الحزب الشعبي، نجا من ثلاث محاولات اغتيال قامت بها منظمة إيتا المطالبة بانفصال الباسك.

وقالت بياتيز أشا الخبيرة في الشؤون السياسية بجامعة نافارو العامة إن “تجربته السياسية في بلاد الباسك التي تمثلت بسنوات من التهديدات، أثرت بالتأكيد على أفكاره. لكن بالتأكيد لم يتبن كل الذين هددوا أيّ مواقف متطرفة إلى هذا الحد”، مضيفة “أعتقد أن التقاليد العقائدية لعائلته لعبت دورا أيضا”.

ولا يخفي الرجل أنه يمتلك مسدسا من نوع “سميث آند ويسون” وهو أمر نادر في بلد تفرض فيه القوانين قيودا صارمة على حيازة الأسلحة.

وإلى جانب الانتقادات لأفكاره، يذكر معارضوه بماضيه كمسؤول كان يحصل على راتب عال جدا في وكالات ومؤسسات عامة عندما كان عضوا في الحزب الشعبي، لكنه رد بالقول أن هذه المؤسسات “غير مجدية”.

عودة زمن فرانكو

حتى بعد موت فرانكو ودخول إسبانيا نادي الديمقراطيات الغربية ظلت أفكاره حية كأيديولوجيا لم تدفن قط

يتساءل مراقبون عن الدوافع التي أدت إلى انتعاش الأيديولوجيا الفاشية لدى شباب إسبانيين لم يعايشوا تلك الحقبة المظلمة لكنهم يدعمون نزعتها القومية المنغلقة، فهل للسياسات الاجتماعية والثغرات الديمقراطية الإسبانية الحديثة دور ما، يعتقد الكثيرون نعم ويذهب آخرون إلى القول إن تلك المسائل هي حجر الأساس.

على مدار عقود، كان موقع قبر الراحل الجنرال فرانسيسكو فرانكو محل جدل كبير. لكن الفصل الأخير في هذه القصة انتهى في 24 أكتوبر الماضي، إذ تم استخراج رفاته ونقله إلى مقبرة أخرى في العاصمة مدريد. فلم تصاعدت المطالب بنقل رفات فرانكو؟ ولم أثار الأمر كل هذا الجدل؟

حكم فرانكو إسبانيا منذ عام 1939، حتى وفاته عام 1975. ودُفن في ضريح ضخم يحمل اسم “وادي الشهداء”، في ضواحي مدريد، لكن موقع المقبرة تحول إلى قبلة لليمين المتطرف، وهو ما يرفضه الكثير من الإسبان.وحاولت أسرة

فرانكو واليمينيون المتشددون منع نقل الرفات، لكن محاولاتهم باءت بالفشل. غير أن عددا كبيرا من الإسبان يرون أن المكان تجسيد لانتصار القوات الموالية لفرانكو على معارضيه الجمهوريين. كما أن جزءا من الضريح بُني على يد السجناء السياسيين الذين استغلتهم حقبة فرانكو كعمالة إجبارية.

يعتبر اليمينيون المتشددون محل دفن فرانكو ضريحا، يزورونه كنوع من التقدير للجنرال الراحل. كما يجتمعون فيه لإحياء ذكرى وفاته، لكن الحكومة الاشتراكية المنتهية ولايتها والتي أتت للحكم في يونيو الماضي، جعلت نقل رفات فرانكو على رأس وعودها.

وتريد الحكومة أن يصبح وادي الشهداء “مكانا لإحياء ذكرى ضحايا الحرب وتقديرهم” وترى أن وجود رفات فرانكو في هذا الضريح إهانة للديمقراطية الناضجة. ويؤيد الكثير من أبناء ضحايا فرانكو قرار نقل رفاته. لكن الرأي العام الإسباني انقسم حول هذا الأمر.

حتى بعد موت فرانكو عام 1975، ودخول إسبانيا نادي الديمقراطيات الغربية الحديثة، ظلت أفكاره حية كأيديولوجيا وعقيدة لم تدفن قط في إسبانيا، فقد كان من بين أحد شروط التحول الديمقراطي في عدم إدانة الطبيعة والدكتاتورية للنظام الفاشي، والسماح لرموزه بالإفلات من العقاب.

ونجح اليمين الإسباني، الوريث الشرعي لهذا النظام في التمويه على طبيعته الإجرامية. لذلك لم يعد الإسبان الشبان يجدون أي حديثٍ في مناهجهم التربوية أو في إعلامهم عن الفاشية، وإنما أصبح الحديث فقط عن المرحلة الفاشية فقط من دون أيّ أوصاف أخرى، للتغطية على طبيعة ذلك النظام.

وفي المقابل، لم تمت هذه العقيدة، بل أصبح لها أنصار يجاهرون بها، حيث نجحوا في البداية في السيطرة على آليات التحول الديمقراطي. وبعد ذلك عملوا على التغلغل داخل القوى السياسية والمالية والإعلامية، بهدف الـتأثير فيها والسيطرة عليها وهو ما بدأ يتبلور على أرض الواقع مع صعود فوكس كقوة سياسية ثالثة في البلاد.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: