التحديات السياسية المغربية لكسب نزاع الصحراء

ليس ثمة من شك أن المغرب يواجه تحديات كثيرة على مستوى سياساته الخارجية لكسب نزاع الصحراء، ففي الوقت الذي تظهر مؤشرات إيجابية بخصوص الدول التي سحبت الاعتراف بالبوليساريو، أو إحراز اختراقات مهمة في التحالفات التقليدية لجبهة البوليساريو(أمريكا اللاتينية)، أو فشل رهانات البوليساريو على مستوى أممي، تظهر مؤشرات مقابلة، تجعل مهمة حسم النزاع بالدبلوماسية النشطة أمرا صعبا. فإسبانيا، التي دخلت في سنوات طويلة من الحياد الإيجابي لصالح المغرب في قضية الصحراء، تعرف تحولات سياسية عميقة، لجهة سيطرة اليسار وصعود لافت لليمين المتطرف، بينما لا تخلو العلاقات المغربية الفرنسية نفسها من توترات خفية غير معلنة.
من المؤكد أن المغرب عانى كثيرا من الدور الخليجي المستفز إعلاميا لقضيته الوطنية، فحاول مقاومتها بخطوات جد حذرة، لكن بعد هجمات الحوثيين على «أرامكو» أعادت السعودية صياغة دبلوماسيتها من جديد لجهة تخفيف الأبعاد الإقليمية الممتدة، كما أعادت صياغة العلاقات السعودية المغربية لجهة العودة للمواقف السابقة الداعمة للوحدة الترابية.
وقد حرص المغرب في هذه الظرفية الحساسة أن يجنب دبلوماسيته بعض الأخطاء، من ذلك وقوفه على خط الحياد وعدم التدخل في الشأن الداخلي الجزائري، ويمكن أن نقرأ بلاغ وزارة الخارجية والتعاون ضد تصريحات الوزير السابق في الخارجية صلاح الدين مزوار، مع أنه كان يعبر عن موقف غير رسمي، على أساس أنه محاولة لإبعاد أي سوء فهم من قبل السلطة الجزائرية.
بالأمس القريب، كانت للمغرب استراتيجيتان، الأولى تعتمد على الخيارات القانونية الدولية في تفسير مفهوم تقرير المصير بتجارب الحكم الذاتي، مع تقوية هذه الاستراتيجية بمعادلة تعزيز تمثيلية الساكنة، وتنمية المنطقة، لإثبات مصداقية المقترح المغربي.
لكن رغم حجم التأييد الدولي للمقترح المغربي، وسحب عدد من الدول لاعترافها بالبوليساريو، إلا أن هذه الاستراتيجية أصبحت في خضم الديناميات الدبلوماسية والسياسية شبيهة بأطروحة مغربية الصحراء التي تبناها المغرب طويلا قبل النزول عند خيار الاستفتاء.
في خضم التدافع الاستراتيجي والتكتيكي، وبعد أن نجح المغرب في إثبات لا واقعية خيار الاستفتاء وعدم قابليته للتطبيق، برزت على هامش رؤيته استراتيجية مكملة استفادت من تحولات السياسة الدولية والإقليمية، وتعاظم التحديات الأمنية في منطقة الساحل جنوب الصحراء، إذ حاول المغرب اقتناع المنتظم الدولي بأن مواجهة التحديات الإرهابية والأمنية، لا يمكن أن يمر من غير حل قضية الصحراء وتجسير العلاقة بين المغرب والجزائر.

حل الصحراء يكمن في تبني سياسة مغربية ممتدة في العمق الإفريقي، ومن ثم روجع الموقف بقرار المغرب العودة إلى الاتحاد الإفريقي، وتجسير العلاقات الاقتصادية والتجارية مع عدد دول غرب إفريقيا ووسطها وشرقها وأيضا جنوبها

المغرب كان المستفيد الوحيد من هذا التقييم، بحكم أنه هو الدولة الوحيدة التي تمتلك جيشا قويا يسيطر على كامل حدوده، وتبدي مؤسساته العسكرية و الأمنية قابلية للتعاون الإقليمي والدولي بخلاف الجزائر التي لا تسيطر على كامل حدودها، وتعتبر مسؤولة إلى حدود بعيدة عن إنتاج الظاهرة الإرهابية في الساحل جنوب الصحراء، ولا تقدم نفس التعاون الإقليمي والدولي.
حاولت أطروحة المغرب التي نشأت على هامش الاستراتيجية الأصلية، بالإضافة إلى تأكيد مخاطر بناء دويلة هشة في جنوبه، إثبات الصلة العضوية بين البوليساريو وبين الشبكات الإرهابية، بينما استثمرت الجزائر في تعزيز القناعة بأن تبني تقرير المصير سيدفع هؤلاء إلى الارتماء في شبكات الإرهاب تحت واقع غياب الأفق. في خضم تصارع هذه الاستراتيجيات، وبسبب من الرهانات الاقتصادية العالمية على إفريقيا، تكيفت الاستراتيجية المغربية، وبدأت تطرح خريطة طريق جديدة، ترى أن حل الصحراء يكمن في تبني سياسة مغربية ممتدة في العمق الإفريقي، ومن ثم روجع الموقف بقرار المغرب العودة إلى الاتحاد الإفريقي، وتجسير العلاقات الاقتصادية والتجارية مع عدد دول غرب إفريقيا ووسطها وشرقها وأيضا جنوبها.
لكن، التكتيكات المقابلة، كانت حاضرة، إذ حاولت أن تمنع المغرب من تحقيق اختراقات في المحور الجزائري النيجيري الجنوب أفريقي، لكن دون الوصول إلى تعطيل فعاليته ومنعه من تحقيق مكاسب مهمة.
واضح أن التحولات الجارية أعادت جزءا من التوازن لاستراتيجية المغرب في التمدد الإفريقي، فمنذ سنوات قليلة، عبر الملك محمد السادس أن قضية الصحراء ستصير مفتاحا أساسيا لسياسا المغرب الخارجية. ومن ثمة، برزت مفردات هذه الاستراتيجية، في التوجه للعمق الإفريقي، واستثمار رغبة القوى الدولية في الاستثمار في إفريقيا للتحول ليس فقط إلى منصة لوجستية لعبور هذه الاستثمارات، بل إلى شريك استراتيجي في هذه المهمة.
مضمون هذه الشراكة، كما كانت في المتخيل السياسي والدبلوماسي المغربي، أن المنطقة المتنازع حولها في الصحراء ستصبح بفضل الفرص التجارية المتاحة جنة خضراء، وأن ذلك سيدفع ساكنة المنطقة إلى الانحياز للوحدة الترابية.
خطاب الملك محمد السادس بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء، حمل رؤية جديدة، إن لم نقل حمل تقييما ضمنيا لمفردات الاستراتيجية المغربية السابقة، فبعد أن بهت بشكل كبير حضور العمق الإفريقي في خطاباته السابقة، تكثف هذا الحضور في خطاب المسيرة، بشكل واستعادت استراتيجية التمدد في العمق الإفريقي عافيتها، لكن ضمن تركيبة جديدة اقترحت خيارات لإصلاح أعطاب الاستراتيجية السابقة.
والحقيقة أن التركيب الجديد بقي محافظا على تعداد مكاسب الدبلوماسية المغربية النشطة، سواء من زاوية الدول التي سحبت الاعتراف، أو العلاقات التي نجح المغرب في بنائها أو ترميمها مع الدول التي كانت تمثل الدعامة الاستراتيجية لجبهة البوليساريو.
الجديد في الاستراتيجية، شيئان، أولهما استراتيجي، يتعلق بتحويل منطقة سوس إلى رئة غذائية تتنفس بها إفريقيا، وثانيهما لوجستي، يتعلق بإحداث خط سكة حديدية، يربط مراكش بأكادير، في أفق تمديده إلى مدينة العيون.
لا يهم تقييم أثر هذين الرهانين، والمدى الزمني الذي ستأخذه مثل هذه المشاريع، لكن المهم أن المغرب تفطن لعطب أساسي في استراتيجيته السابقة، إذ لا يمكن بناء خطوط استراتيجية كبيرة في ظل ضعف الإمكانات اللوجستية لتحقيق عائداتها، كما لا يمكن ضمان ثقة الفاعل الدولي في شراكة مغربية تجاه إفريقيا في ظل ترهل التجهيزات اللوجستية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: