«الرواية والبلاغة» للأكاديمي المغربي محمد مشبال .. من بلاغة الجملة إلى بلاغة الخطاب

تسعى هذه (المقالة) إلى قراءة مقدمة كتاب «الرواية والبلاغة: نحو مقاربة بلاغيّة موسّعة للرواية العربيّة» لمؤلّفه محمد مشبال الصادر عن مؤسّسة (كتارا) في قطر 2019، بوصفها خطابا يتقدّم متن الكتاب، ولها ضرورة ملزمة في الدراسات البلاغيّة النقديّة، فهي أولُ مفتتح حقيقيّ يحيط بوجود الكتاب، وشكلٌ من أشكال الخطاب المقصود المنفتح على المتن، وفيها يميط المؤلّف اللثام عن خبايا مؤلّفه. ومقدمة الكتاب – أيّ كتاب – عتبةٌ مستقلةٌ عن المتن تحمل أكثر من إشارة دالّة على عنوان الكتاب وأهميّته ومنهج تأليفه ومشكلة البحث فيه، وهو ما بدا واضحا في مقدمة مشبال التي انشغلت بالمساعدة في فكّ اشتباك دلالة البلاغة مع الرواية.

الرواية والبلاغة

ومقدمة «الرواية والبلاغة» ارتضت لنفسها أن تقدّم الرواية على البلاغة، أي تقدّيم فنّ لمّا يزل في طور النمو، والسعي نحو تأكيد ذاته على علم وفنّ له أصولٌ راسخةٌ في تأريخ الأدب العربي، وهذا ما لم يرتض به العنوان الموازي (نحو مقاربة بلاغيّة موسعة للرواية العربيّة) الذي كان بنية علاميّة لها سمة الشرح، والتوضيح للعنوان الرئيس، ولكن من دون تقديم الرواية على البلاغة، وهذا ما تلافاه المؤلّف في استهلال المقدمة حين ذكر: (ينبغي القول منذ البداية إنّ العلاقة بين البلاغة والرواية…)، فقد قدّم البلاغة التي من حقها التقديم، وأخّر الرواية التي من حقها التأخير، جريا مع منطق منهجيّ معروف، ترى ِبمَ نفسّر هذا التغاير الشكلي في العنوانين؟ لا شكّ في أنّ رغبة المؤلّف في تقديم الرواية كانت بوحي من ثقافته المعاصرة، التي تميل إلى تقديم ما هو معاصر لغرض إثبات وجوده، والإشارة إلى أهميته وحسب. لقد عكست مقدمة محمد مشبال طبيعة الحرص البلاغي الذي جمعه مع غيره من مؤلفي البلاغة التقليديّة والحديثة، فقد جعل لها متنا ليس بالقصير، كي يعكس مضمونها على المتن، وهي تنفتح على النقاط الآتية:

الاقتباس

تم تصدير المقدمة من خلال اقتباسين مهمين الأول لهنريش بليت، الذي رأى فيه كلّ نصّ هو – بشكل ما- بلاغة، أي إنّه يمتلك وظيفة تأثيريّة، وبهذا الاعتبار فالبلاغة تمثّل منهجا للفهم النصيّ، مرجعه التأثير. والآخر لميشيل مايير وقد رأى فيه، لا يمكن أن يوجد الأدب من دون أيديولوجيّات تنشئ نمطا فريدا من الخطاب، يتمثّل في التخييل، ويتّضح للقارئ أنّ هذين الاقتباسين يعدّان استعارة منهجيّة، تمّ نقلها من مكانها الحقيقي الأول إلى مقدمة الكتاب لاعتمادها أيديولوجيّا، وتبني دلالتها، فالاقتباسان يتوافقان تماما وأيديولوجيا المؤلّف، ولهذا صارا جزءا من المقدمة نظرا إلى عمليّة التماهي بينهما وبين فكر المؤلّف.
الافتراض
افترض المؤلف أنّ البلاغة في توجهها الأدبي عانت اختزالا وتقليصا، حتى أصبحت نظريّة في الاستعارة، مع أنّها نشأت في ظلّ أجناس أدبيّة وخطابيّة مختلفة، وقد وجدت نفسها مطالبة بتوسيع نشاطها، وهو هنا يحيل على البلاغة الغربيّة، كي يسوّغ لبحثه مشروعيّة الانتماء إلى الحقيقة، وهو يتّجه نحو البلاغة العربيّة التي عانت من الإهمال نفسه، ولكن بشكل آخر لعلّه يتمثّل في عزوفها عن ملاحقة النثر بأنماطه وأشكاله، ولاسيّما السرديّ منه.

يرى المؤلّف أنّ كتابه جزءٌ من مشروع إعادة صياغة البلاغة واستثمارها الذي بدأه أواسط الثمانينيّات من القرن المنصرم، وهو يقوم على مرتكزات إعادة بناء البلاغة على أساس تحويلها إلى حقل يُعنى بوصف النصوص وتأويلها

الاعتراف

اعترف مشبال في استهلال المقدمة بأنّ العلاقة بين البلاغة والرواية ليست موضع اتفاق، لأنّ إسناد البلاغة إلى النصوص السرديّة أمرٌ لا يخلو من التباس كي يعطي مسوّغا للبحث عن مواطن الاتفاق بينهما مع أنّ مفهوم البلاغة عنده مقرّر، وثابت، فهي في وظيفتها الأساسيّة تجعل الخطاب ممتعا، ويكون مفهومها مساويا للوجوه الأسلوبيّة التي تحيل على الوظيفة الجماليّة، وهذه الوجوه تقع بحسب رأيه خارج دائرة الحجاج، وأنّ عنوان الكتاب يمثّل في رأيه (مفارقة) لأنّ البلاغة تحيل على قائمة من الوجوه الأسلوبيّة، والجماليّة التي تشير إلى التطابق؛ تطابق الكلام مع مقتضى الحال، في حين تحيل الرواية على الفن والتخييل؛ أي إلى ما هو فرديّ وذاتيّ، واختلافيّ، وعلى الرغم من هذا فإنّ (المؤلف) لا يمانع في توسيع عناية البلاغة المعاصرة ضمن بلاغات خاصّة بالأجناس الأدبيّة التي لها القدرة على إرساء منظور بلاغيّ موسّع لمقاربة الرواية، وغيرها من الأنواع السرديّة؛ لأنّ البلاغة من وجهة نظره الصحيحة ِعلمٌ كليٌّ ينظر في الخطابين التخييلي والإقناعي معا، ومن هنا أتفهم سعي المؤلّف الحثيث لفكّ الاشتباك السابق، إيذانا بإدماج مصطلحين يمكن التصالح بينهما.
ويعترف (المؤلف) ثانية بأنّ الاطلاع على إنجازات النقد الروائي المعاصر، يعني الغربيّ المرتبط بنظريّة الأدب الخاصّة بالسرد، يكشف عن عجز البلاغة العربيّة المهول عن اقتحام دائرة السرديّات، ومن هنا وجد نفسه في حالة الاقتراح والسعي نحو إيجاد متن يُعنى ببلاغة السرد، فضلا عن اعترافه بأنّ المقاربة البلاغيّة، التي هو في صدد البحث فيها ليست من عندياته، بل هي استثمار لاجتهادات غيره من الباحثين، وهذا الاعتراف دليل نبله الأخلاقي والعلمي، وسمو إرادته الفاعلة، ويعترف المؤلف مرّة أخرى بأنّ البلاغة لا تملك ما تقدّمه لقارئ الرواية من مفاتيح، وأدوات لكنّ هذا يمكن تجاوزه متى ما نُقلت من دائرة البنية اللغويّة للجملة إلى دائرة البنية السرديّة، أي من النظر الجزئيّ إلى الكليّ، فضلا عن نقلها من المفهوم المدرسي إلى الانفتاح الكلي على الخطابات، الذي يسهم فيه بلاغيون عرب وآخرون، بعد أن أدرك عن قرب أنّ البلاغيّ المعاصر محاصرٌ بنصوص ترغمه على إعادة التفكير في ذاته، ومنهجه وأدواته، وهذا اعتراف آخر للمؤلف لا يمكن تجاوزه.

الأسئلة

عدة أسئلة كرّر المؤلّف إثارتها في المقدمة، وخلف أنساقها تكمن إجابات مغيّبة لها إيقاعها الخاص في وعي البلاغة المعاصرة، فضلا عن إجابات تناثرت في متون الفصول لتكون دليل المؤّلف في إحكام شكل الكتاب، فكان أول سؤال له: ماذا يمكن أن تقدّم البلاغة لجنس أدبيّ أحدثت نصوصه ثورة أسلوبيّة تعجز أدواتها العتيقة عن وصف طبيعتها وضبط إمكاناتها؟ ثمّ أتى بسؤاله الثاني: ما عسى أن تصنع البلاغة في سياق حلّت به تنظيرات جديدة، كشفت عن أساليب لم تكن تخطر في بال البلاغيين؟ ثم كان سؤاله المركزي: ما المانع من جعل البلاغة تستوعب مظاهر يعتقد أنّها مجال اختصاص حقول أخرى؟ وما المقصود ببلاغة النص؟ تلك الأسئلة يتابع القارئ إجاباتها في المقدمة نفسها، والفصول.

الاقتراحات

اشتملت المقدمة اقتراحات تظهر من خلالها رغبة المؤلف في التحديث المنهجي والإجرائي للبلاغة القديمة، فكان أن اقترح أن يكون للبلاغة المعاصرة نزوعٌ إلى الممارسة، ورصد الخطط التعبيريّة للخطابات، وتحليلها تحليلا دقيقا من خلال الالتباس بالشعريّة، وتحليل الخطاب والنقد، وهذا الالتباس الذي اسميه (تداخلا) يفتح المجال أمام البلاغي لتدبّر بلاغة النص، بعيدا عن العناية بالبلاغة بوصفها علما، أي أنّ البلاغي يستمد العون من الحقول، والمناهج المجاورة كي تسعفه في إغناء نقده وممارساته، ثم يقترح المؤلف التخلّص من المفهومات الجماليّة في نقد الرواية، باللجوء إلى استيعاب البنية اللغويّة على أساس وظيفيّ نصيّ، وذلك بالبحث عن اختيارات الروائي التي يقتضيها التخييل.

الأهداف

يرى المؤلّف أنّ كتابه جزءٌ من مشروع إعادة صياغة البلاغة واستثمارها الذي بدأه أواسط الثمانينيّات من القرن المنصرم، وهو يقوم على مرتكزات إعادة بناء البلاغة على أساس تحويلها إلى حقل يُعنى بوصف النصوص وتأويلها، والعناية ببلاغة الخطاب بدلا من بلاغة الجملة، وعدّ الرواية بنية بلاغيّة، أو خطابا بلاغيّا.
وفي الأخير .. فقد اثْقلت المقدمة بمجموعة من الإحالات التي تتّصل بهوامش اعتمد عليها المؤلّف للتوضيح، والتفسيــــر، والإشارة إلى مرجعيّاته الفكــــريّة أو البلاغيّة أو الثقــــافيّة، فالمقدمة – أي مقدمة – يجب أن تخلو من الإحالات، لأنّها من كدّ عقل المؤلّف الذي يمارس فيها أقصى حالات الحريّة في التبني الفكري، والنقدي، والرفض أيضا، والإحالة من دون هوامش، على أنّنا يجب أن لا ننسى أن المقدمة أشارت إلى كتاب يستحقّ القراءة والتحليل.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: