محمد سبيلا مفكر عقلاني يراهن على الحداثة لتطويق التخلف

أفكاره وآراؤه في الحداثة والتنوير مستجدة. فما تعرفه الساحة الثقافية المغربية من ترهل على مستوى الإنتاج الفكري الرصين، وتوسع قاعدة المتنمرين ضد الأصوات المنادية بالإصلاح، والترويج المستمر للفكر المتطرف وما يقابله من ضعف في البرامج التنويرية الجادة والقريبة من هموم المواطن، تجعل العودة الدائمة إلى الفكر الراسخ حاجة استراتيجية للمرور الآمن نحو المستقبل دون اصطدام قاتل بين التقليد والتحديث.

الفيلسوف محمد سبيلا، هواه السياسي يساري ومنهجه الفلسفي ديكارتي. ناضل سبيلا في صفوف الاتحاد العام لطلبة المغرب، ولم ينه علاقته مع عالم السياسة في جانبها المتعلق بمجاله البحثي حيث اهتم بالتحديث والعقلانية في نشاطه الفلسفي كمطلب عزيز للفكر الإنساني في زمن التحولات القيمية والتقنية.

مدارات الأصولية

راهن على الفكر الحداثي لتطويق الفكر التقليدي والنهوض بالمغرب ثقافيا ولفتح الأبواب أمامه كي يجد لنفسه مكانا في الحضارة الحديثة، فهو كما أكد محمد بن عيسى، أمين عام منتدى أصيلة، كان أحد السباقين إلى إدماج الفلسفة وإبراز أهميتها لفهم مكونات وإشكاليات المجتمع المغربي من الداخل، ما أفضى بهم إلى استيعاب وفهم طبيعة القيم التي تتحكم في مسار ينشد التقدم والتعاطي مع قضايا العصر.

كانت لديه الجرأة الفكرية الكافية للربط ما بين الثقافة في شموليتها والنضال من أجل التحرر من الخرافة والنكوص، معتمدا أبجديات التحديث والديمقراطية لأجل التقدم، لهذا يصعب عليك تصنيفه فهو الفيلسوف والمفكر والمثقف المنهمك في قضايا المجتمع، قد تدخل في متاهات التأويل غير الصحي إذا لم تكن ملما ببعض الأساسيات في فكر الرجل ومرجعيات مشروعه الحداثي التنويري، ولا يمكن حصر تفكيره في مفردة الحداثة منفصلة عن معيش الإنسان في بعده الأنطولوجي الدائم القلق والتساؤل.

الحداثة كما يفهمها المغاربة تأتي في قلب الإنتاج الذي هو استجابة مباشرة للتاريخ وللمتطلبات الصريحة في برنامج الحركة الوطنية بشقيها الكلاسيكي والتحديثي المرتبط بالقوى التقدمية أو اليسارية، حيث أصبح الاختيار التحديثي اختبارا وطنيا

لغة كتابات سبيلا مختارة بعناية تفصح عن المكنون في فكر الرجل بلا لبس لكنها حمالة أوجه وتأويلات كما حددها مهتمون بنتاجات سبيلا صاحب العديد من المؤلفات القيمة والذي نظر إلى الفلسفة كمختبر فكري ودلالي ولغوي حفر من خلالها طريقا نحو التنوير والحداثة والتطور، فأبدع “مدارات الحداثة”، و”الأصولية والحداثة”، و”دفاعاً عن العقل والحداثة”، و”مخاضات الحداثة”، ليكون العامل المشترك بين هذه الإصدارات هو مفهوم الحداثة وتطورها.

إذا تناولنا الفلسفة بكونها الباب المشرع نحو الحداثة، فهناك مدرستان فلسفيتان حداثيتان في العالم العربي، التونسية والمغربية، وما يميز كلتيهما حسب رأي سبيلا هو أن المدرسة الفلسفية التونسية متميزة بعطاءاتها وشموليتها وهي مرتبطة بمشروع التحديث الذي عاشته الدولة التونسية ورعته بشكل مباشر أو غير مباشر، أما المدرسة الفلسفية المغربية فعصامية وتكونت بمجهودات فردية وتلقائية.

فالحداثة كما فهمها المغاربة تأتي في قلب الإنتاج، الذي هو استجابة مباشرة للتاريخ وللمتطلبات الصريحة في برنامج الحركة الوطنية بشقيها الكلاسيكي والتحديثي المرتبط بالقوى التقدمية أو اليسارية، حيث أصبح الاختيار التحديثي اختبارا وطنيا. كما أنها تغتذي من العلوم الإنسانية ومن تحولاتها التي عرفتها هذه الأخيرة، ثم رغبة الفلسفة المغربية في السياقات الكونية، أي الالتحاق بالتاريخ الكوني، فالحداثة “المداهمة” لا تقدم نفسها كحزمة حلول وحقائب جاهزة، بل تطرح نفسها كإشكالية متعددة الجوانب، وتدخل مع التقليد في تنابذات وتصارعات.

ومنذ نشأتها ظلت الفلسفة المغربية تفكيرا في الواقع الحاضر، كما يقول سبيلا، أي في دينامية التاريخ، وهو تركيز لإكراه، يعكس سلطة الواقع وقوة الحاضر ومتطلباته وضروراته تستجيب لهذا الإكراه وتضعه تحت مجهر الفكر، و”يتابع” الانشغال بالفلسفة ومفاهيمها ليس كترف فكري، يجعلنا في أبراجنا العاجية كما يقال، بل كهم ومشغلة يومية، بما يجعلها تفكيراً في الواقع، متناغمة مع الفيلسوف الألماني هيغل في كون الفلسفة هي الصورة الفكرية عن الواقع واللحظة التاريخية.

وعلى هذا الأساس يذكّر الباحث في الفلسفة محمد الشيكر بالدور الذي لعبه سبيلا إلى جانب غيره من المفكرين، في توطيد ثقافة مغربية حداثية تستمد مقوماتها من الفلسفة الغربية، لكن دون أن تنتمي إلى أفقها.

بين التحديث والحداثة

سبيلا يرى أن الإرهاب ظاهرة سيكولوجية لا دين لها، وداعش أبرز أمثلتها أمامنا. لذلك كان ممن طالبوا بالبحث عن جذور الإرهاب العقدية والدينية

ظل الجدال قائما بين الحداثيين والمحافظين حول دور التراث في فرملة التقدم والتطور نحو آفاق أكثر رحابة في الفكر والسياسة والاجتماع، ويعتبر سبيلا من الحداثيين الواقعيين الذين لا يرفضون التراث جملة وتفصيلا ولا يقطع مع كل مكونات ذلك التراث. ورهانه على الحداثة مرتبط بثقافة المجتمع ولا نهضة دون تفكيك عناصر الموروث الثقافي وإعادة تركيبه بشكل متوازن.

وفي رأي سبيلا فإن المغاربة في تعاطيهم مع الحداثة تميزوا بالكثير من العقلانية وأحيانا بالراديكالية، وهو ما اختلفوا فيه عن الكثير من المحاولات في دول عربية أخرى. وثمة علاقة حذرة وملتبسة يقرها سبيلا، بين التحديث والحداثة كبنية فكرية جامعة للقسمات المشتركة في المعرفة، في فهم الإنسان، في تصور الطبيعة، وفي التاريخ، ومنظورا إليها من خلال منظور أقرب ما يكون إلى المنظور البنيوي، في حين يكتسي مفهوم التحديث مدلولا جدليا وتاريخيا منذ البداية من حيث إنه لا يشير إلى القسمات المشتركة بقدر مـا يشير إلى الدينامية التي تقتحم هذه المستويات، وإلى طابعها التحولي.

هناك سبب يجعلنا نستمرّ في الاعتقاد بأن السقوط في حفرة الماضي، سيجعلنا أسوأ، بالتالي فالصراع بين التقليد والحداثة في العالم العربي من الماء إلى الماء سيكون طويلا وحادا، والانتقال من الحالة الأولى إلى الأخرى لن يكون بذلك اليسر. وسبيلا يعي ذلك جيدا، كقارئ جيد للفلسفة السياسية، فطريق الانتقال مليء بالصدمات الكوسمولوجية، والجراح البيولوجية أو الخدوش السيكولوجية للإنسان، وأيضا بالتمزقات العقدية لأنه يمر عبر مطهر العقل الحديث والنقد الحديث.

يرى سبيلا أن كل مجتمع معرض طبعًا لآلية التطور والتحديث لكنه يفرز داخليًّا عوائق في طريقه، أو يبدي نوعًا من المقاومة، سواء كانت عوائق موضوعية خارجية ليست بإرادة الأفراد أو عوائق ذاتية تنحو نحو رفض التطور. وهو يدرك أن الحداثة ليس بمقدورها أن تمحو بجرة قلم ظلال الماضي وميتافيزيقا التراث، كما أن التقليد لا يستطيع صد جاذبية الحداثة وحركتها المتدفقة التي تغمر القيم والسلوك. فمنذ سبعينات القرن الماضي، وتحديدا منذ هزيمة 67 واندلاع الثورة الإيرانية دخل العرب في حركة غيبية تاريخية مناهضة لمرحلة الحداثة، فكأن هذه المجتمعات التقليدية وهذه الثقافات التقليدية بحسب رأي الفيلسوف المغربي، تدافع عن نفسها، وتنتقد الحداثة محاولة التأكيد بأنها ليست طريقا سالكا وأنها لا تقود إلى حل المشاكل.

سلطات متشابكة

كثيرا ما نسمعُ تلميحات عن قوة وسلطة التحديث في مجتمعات تعطي الأولوية لتمجيد مركز للتقليد والحنين إلى الماضي في الفهم والتحليل والقياس والاقتباس، لهذا فالسلطة عند سبيلا موسعة ومتشابكة ولا تقتصر فقط على السلطة السياسية في شقيها الدولاتي والمؤسسات الرديفة، بل تتشابك معها في الثقافة والفن والرياضة والسوق والمسجد وغيرها، سلط متعددة تتوحد لأجل مهمة الضبط والسيطرة والعقلنة والمراقبة وإعادة توزيع الثروة المادية والمعنوية.

خط مقاومة أخير 

فالواقعية التي تحدد الفهم والمعنى عند هذا الفيلسوف المغربي، دفعته إلى القول إن المجتمع هو مجال قوى وصراع وليس جنة قائمة على التوادد والتعاطف والتعاضد. إنه شبكة من القوى تتصارع حول السلطة والثروة والحظوة باستخدام جملة استراتيجيات. بالتالي فالسلطة سلسلة شبكات تخترق وتشكل الجسم الاجتماعي كله وتنتظم عبر محاور ونويات ومراكز معينة، وهي أيضا علاقات وإجراءات وممارسات وليست كيانا جوهريا ملموسا.

ينتعش التقليد ويدافع عن نفسه بل يقدم نفسه كخط مقاومة أخير ضد التطور الذي يقود إلى الاستلحاق والتفكك لدرجة تسمح بالقول إن المجتمعات العربية الإسلامية تعيش في

نفس الوقت ديناميتين تاريخيتين موضوعيتين وقويتين: دينامية التحديث ودينامية التقلدة. والأخيرة تعبر عن نفسها بشكل قوي في كلّ من المجال السياسي والسلوكي والأخلاقي والثقافي، لدرجة تسمح بالقول إنها تمثل سلطا مضادة لسلط التحديث بمؤسساته وقيمه، سلط هي اليوم من أقوى السلط في المجتمعات العربية، إنها سلط تخشاها الدولة والأحزاب العصرية ويخشاها المثقفون العصريون.

وإذا كان الالتقاء بين سلطتي التقليد والتحديث جد معقدة ويحتاج إلى تفكيك البنية المجتمعية على عدة مستويات، فالأمر عند سبيلا كثيرا ما يتلبس التقليد لبوس الحداثة ليتمكن من التكيف والاستمرار بينمـا تتلبس الحداثة بالتقليد أحيانا لتتمكن من أن تنفذ وتفرض نفسها. وذلك بين منظومتي القيم، وفي المستوى الإدراكي، والسلوك الفردي، في المعرفة، في الاقتصاد وفي السياسة.

وبالإمكان رصد ذلك التزاوج في المجال السياسي كون هذا الأخير قابلا للقياس الكمي والنوعي، وهنا يعطينا سبيلا مثالا على تمازج مصدري للشرعية السياسية: الشرعية التقليدية المستمدة من الماضي، والتراث والأجداد، وشرعية المؤسسة العصرية القائمة على أن الشعب هـو مصدر السلط، وهو على الرغم من كل مظاهر التعايـش تمازج صراعي في عمقه، فالصراع بين المنظومتين صراع معقد وشرس بل قاتل.

وككل قطبين متعارضين عندما تصطدم الحداثة بمنظومة تقليدية تتولد عنها تمزقات وتخلق تشوهات ذهنية ومعرفية وسلوكية ومؤسسية كبيرة، وتخلق حالة فصام وجداني ومعرفي ووجودي معمم، والسبب كما يراه محمد سبيلا، اختلاف وصلابة المنظومتين معا.

البنية المتحركة للتطرف

محمد بن عيسى أمين عام منتدى أصيلة يقول إن سبيلا كان أحد السباقين إلى إدماج الفلسفة وإبراز أهميتها لفهم مكونات وإشكاليات المجتمع المغربي من الداخل

للتقليد، حسب سبيلا، صلابته وأساليبه في المقاومة والصمود أمام الانتشار الكاسح للحداثة، وطرائقه في التكيف معها ومحاولة احتوائها، كما أن للحداثة قدراتـها الخاصة على اكتساح وتفكيك المنظومات التقليدية، وأساليبها في ترويض التقليد، ومحاولة احتوائه أو استدماجه أو إفراغه من محتواه. ومن هذه المنطلقات نفهم فلسفة محمد سبيلا،

الذي شرَّحَ نتائج النكوص للوراء ومنها انتشار الفكر الظلامي المتطرف. ولذلك كله فإن لسبيلا نظرية خاصة في ما يتعلق بداعش، فهذا المكون زاوج بين منتجات الحداثة في شقها التقني والتراثي الغارق في محافظته من الجانب العنيف المتطرف، موضحا تزاوج الاثنين بعدما اندمج ضباط الجيش العراقي الذي حله بول بريمر بعد غزو البلد في العام 2003، كانوا متسلحين إضافة إلى الجانب العسكري بتكوين ديني، وبعناصر منشقة عن القاعدة.

وإذا أردنا استقاء رأي الفيلسوف في الداعشية كظاهرة سيكواجتماعية يرد بأن الوقت لم يحن بعد لدراستها حتى من الجوانب الأخرى وخصوصا العقدية منها على الخصوص، دراسة الظاهرة تحتاج إلى وقت لاستجماع أكثر ما يمكن من المعطيات والدفع بالأسباب الموضوعية والواقعية لانطلاقة داعش واستغلال ثغرات المجتمع للاختراق وضرب الأهداف. هنا يقف سبيلا، ليتفق على أن الإرهاب لا دين له، موضحا أن الأمر هو أكثر من دفع الاتهام عن احتضان الدين للإرهاب، بل لا بد من البحث عن الجذور العقدية والدينية للاتجاهات المتطرفة.

لا يخفي سبيلا أن أصول قيام داعش وتغلغله في أوساط اجتماعية معينة تعود إلى الإسلام السياسي بداية القرن العشرين، المرتبطة بما خلفته صدمة الاستعمار داخل الأوساط المستنيرة وربطه بالتفريط في المبادئ الدينية. من هنا تطورت الفكرة الجنينية لما تعرفه الساحة من تطرف وعنف عائد إلى عقيدة متزمتة تحتمي بالتراث في جانبه المتشدد وليس في التأويل العقلاني الاجتهادي التنويري.

لقد داهمت الحداثة المجتمعات العربية لا لتحررها من ماضيها، وإنما لكي تصبح ذريعة للعودة إليه، والنبش في قبوره المظلمة بحثا عن المزيد من الأوهام والخرافات والأباطيل كمقدمة للتطرف والدعششة، هكذا يعتقد سبيلا، ويفسر بعض الباحثين هذا التوجه، بأن هناك نسبية في حكم سبيلا، على الحركات الأصولية، ويدعم هذا الرأي من خلال تحليله للظاهرة بالقول إن الحركات الأصولية هي رد فعل ثقافة تقليدية ضد الحداثة كحضارة غازية وثقافة استئصالية للثقافات الأخرى.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: