خطة فرنسية لضبط حصص استقبال المهاجرين تثير جدلا

احتدم السجال مجددا في فرنسا حول نوايا حكومية لإصدار قرارات تتعلق بالهجرة في محاولة من حكومة إدوارد فيليب لاحتواء أزمة المهاجرين، لكن هذه المحاولة سرعان ما التقطتها العديد من التيارات السياسية التي تبحث عن إعادة التموقع في المشهد السياسي الفرنسي والتعويل على النقاش بشأن الهجرة للاستفادة منها.

أثار ما أشيع عن عزم رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب الإعلان عن مجموعة من القرارات تتعلق بالسياسة التي ستعتمدها حكومته حيال مسألة الهجرة، الجدل مجددا بشأن نجاعة هذه الخطوات لحسم ملف مثير للانقسام، حيث تعود أسباب الجدل إلى نقاش عتيق بين اليسار واليمين حول مفهوم الهجرة بمعنييها الاقتصادي والاجتماعي، كما بمعناها الأخلاقي والسياسي.

وكانت وسائل إعلام فرنسية قد لمحت إلى الأعراض الأولى لهذا المنحى الحكومي، وأعاد تأكيدها المتحدث باسم حزب ”الجمهورية إلى الأمام” الذي ينتمي إليه الرئيس إيمانويل ماكرون، غابرييل أتال.

وتقول المعلومات في هذا الصدد إن رئيس الحكومة الفرنسية سيعلن عن 20 إجراء بشأن قضية الهجرة، على أن تتضمن، وفق التسريبات، إجراء مثيرا للجدل، لكونه يضع كل عام أهدافا بالأرقام تحدد حاجة فرنسا لاستيراد العمالة الأجنبية. وتتحدث مصادر حكومية عن عزم على إرساء قواعد سنوية تتيح التكيّف في عملية منح إجازات الاستيعاب وفق حاجات الشركات الفرنسية من العمالة بكافة مستوياتها.

ولطالما كانت مسألة الهجرة موضوع سجال أيديولوجي وانتهازي بين الأحزاب والتيارات السياسية في فرنسا منذ ثمانينات القرن الماضي على الأقل. ولطالما نهلت تيارات اليمين المتطرف، لاسيما حزب الجبهة الوطنية، بزعامة جان ماري لوبن وبعد ذلك ابنته مارين، تنامي شعبيتها داخل المجتمع الفرنسي من خلال هجمات مركزة تنتقد سياسات كافة الأحزاب، التي تناوبت على السلطة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في شأن ملف الهجرة في البلاد.

وبات التيار المتطرف يحمل اسم “التجمع الوطني” بقيادة مارين لوبن في محاولة للتخلص من إرث الجبهة الوطنية الملوث بسمعة فاشية عنصرية تعود إلى سلسلة من التصريحات والمواقف التاريخية، التي اتخذها المؤسس جان ماري لوبن.

إلا أن أمر الهجرة يعتبر مادة يقترب فيها اليمين التقليدي من تيارات التطرف في محاولة للغرف من خزانه الانتخابي، كما يروج فيها الخلط بين الهجرة، بصفتها سبيل الأجانب للدخول إلى فرنسا، وولوج الإسلام والمسلمين والتطرف إلى هذا البلد.

على أن اليمين الديغولي داخل حزب “الجمهوريون”، الذي لطالما طالب بقوانين من هذا النوع، يرحب هذه المرة بإجراءات حكومة أدوار فيليب، لكنه، مع ذلك، وعلى سبيل المزايدة، يطالب بتحويل الأقوال إلى أفعال.

ويروح أحد قادته يذكّر بأن نظام الحصص هو فكرة جيدة، لكن الأفعال أفضل، وفق أحد برلمانيي الحزب غيوم ببلتييه. ويدعو الأخير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تحويل الأمر إلى الجمعية الوطنية (البرلمان)، وجعله نقاشا وطنيا يتم الاتفاق بشأنه على مستوى البلد وممثليه.

ويسعى اليمين الديغولي إلى استعادة حضوره من خلال هذا الملف، بعد سلسلة الهزائم التي مني بها منذ الخسارة المدوية لمرشحه أمام ماكرون في الانتخابات الرئاسية، وانهيار حضوره في الانتخابات التشريعية بعد ذلك. كما يسعى هذا اليمين إلى إعادة احتلال مساحة داخل النقاش العام بعد أن تهمش دوره خلال احتجاجات “السترات الصفراء”، وبات حزب ماكرون هو القابض على السلطة والحكومة والنقاش العام. ويعتبر اليمين أن إجراءات حكومة ماكرون بقيادة إدوار فيليب ما زالت غير كافية، وأنها لا تلامس لب المعضلة. ويحث “الجمهوريون” ماكرون على الذهاب إلى الحدود القصوى في معالجة المعضلة. ويرى بيليتييه أن الحكومة لم تفعل شيئا لاتخاذ إجراءات تمنع قيام الدولة بتقديم الخدمات للمهاجرين غير الشرعيين، واقتصار ذلك على الحالات الطارئة، كما أنها لا تفعل شيئا لطرد المهاجرين غير الشرعيين أو الذين لم يحصلوا على اللجوء السياسي، كما أنها لم تفعل شيئا لمحاربة “المافيا” التي تعمل على تسهيل دخول المهاجرين.

غير أن قوى اليسار تغرد في مكان آخر ضد هذا الطرح، وتعتبر أن الحكومة تعمل على إحداث ضجيج في ملفات خلافية لا دقة فيها وتخضع للمزايدة السياسية بين تيارات اليمين بكافة مستوياته.

 الهجرة عادة ما تكون مادة يقترب فيها اليمين الفرنسي من تيارات اليمين المتطرف من أجل التوظيف الانتخابي

وتقول رئيسة المجموعة البرلمانية للحزب الاشتراكي داخل الجمعية العامة الفرنسية إنه لا ينبغي أن يدور النقاش حول الهجرة، وتدعو أن يحاكي النقاش أسئلة الجمهورية. وتعتبر أن على الجمهورية أن تكون هي نفسها للجميع، في الحقوق والواجبات. وأضافت أن ذلك النقاش هو ما على رئيس الوزراء أن يذهب إليه، وليس التركيز على تسليط المجهر على جماعة معينة من المواطنين.

ويعتبر اليسار الفرنسي أن حكومة فيليب تتلهى بنقاش يميني، من خلال التركيز على معالجات ركيكة وغير إنسانية تستهدف فئة من سكان فرنسا على نحو يتناقض مع قيم الجمهورية وشعارها العالمي “حرية، مساواة، أخوة”.

وتوفر المناسبة لليسار المتشدد بزعامة جان لوك ميليشون منبرا لشن هجومه على المنحى الشعبوي لسياسات ماكرون، وهي مناسبة لتأكيد سطوة حزبه على كتل اليسار الناخبة، التي كانت مسرحا تتحرك داخله في العقود الأخيرة أحزاب عريقة مثل الحزبين الاشتراكي والشيوعي. غير أن أحزاب الدفاع عن البيئة تسعى لإيجاد مكان لها داخل هذا النقاش بين يمين ويسار.

ويعتبر البرلماني الأوروبي، يانيك جادو عن حزب الخضر، أنه يجب النظر إلى مسألة الحصص على نحو يبتعد عن هواجس الغزو الثقافي، التي لطالما راجت في العقود الأخيرة ويذهب بها نحو تعظيم قصص النجاح الكثيرة التي عاشها المهاجرون في فرنسا. ويقول إن فكرة “الكوتا” تؤكد لكل المشككين حاجة فرنسا للمهاجرين الاقتصاديين، وأن أمرا كهذا يحتاج إلى نقاش شامل ومعمق.

على أن المراقبين يعتبرون أن الجدل الحالي حول موضوع الهجرة لا يحمل جديدا، وأن فرنسا شهدت، خلال العقود الأخيرة، موجات عالية من النقاش المجتمعي والسياسي حول هذه المسألة. ويخلص هؤلاء إلى أن تدابير إدوارد فيليب لا تأخذ بعين الاعتبار ظاهرة الهجرة بصفتها عالمية تتعلق بالسياسات الدولية الخارجية وتداعياتها على مستويات الأمن والعوز في العالم، وأنه لا يمكن لباريس أن تسيطر من خلال قوانينها على موجات الهجرة الدولية وخرائط حركتها.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: