تطبيقات توصيل الطعام.. ثورة تكنولوجية متعددة الأوجه

انتعشت سوق تطبيقات توصيل الطعام في الكثير من البلدان العربية، ولئن كان أمرا عرفته دول في السنوات الأخيرة وصار مألوفا بالنسبة لمواطنيها إلا أنه في دول أخرى لا يزال أمرا مستجدا وتطور نشاطه دليل على التغيرات التي أحدثتها التكنولوجيا على سلوكيات الأفراد وأساليب حياتهم.

القاهرة – أصبح مشهد تنقل العديد من الشباب العاملين في مجال توصيل الطعام مرتدين زيا مميزا، غالبا ما يكون أصفر اللون، على دراجات هوائية أو نارية في خلفيتها صندوق، مألوفا في الكثير من العواصم العربية.

كان الأمر مفاجئا قبل نحو عام أو أكثر، عندما دخلت شركة توصيل الطعام الإسبانية “غولفو” الأسواق العربية، وأبرزها مصر والمغرب والأردن.

وتزامن مع “غلوفو” ظهور العشرات من التطبيقات المتشابهة على الهواتف الذكية، مثل “أطلب” التابعة لـ”دليفري هيرو” الألمانية و”المنيو” و”وصلي” و”أوبر إيتس”، وغيرها من التطبيقات التي وجدت في المستهلك العربي زبونا مناسبا ودائما لتقديم خدماتها الجديدة.

سهلت تلك التكنولوجيا البسيطة في فكرتها حياة الكثيرين بعد أن أضحت قائمات الطعام متاحة في دقائق مع توفر إمكانية تسجيل الطلب منها بمجرد الضغط على زر والانتظار فترة قصيرة ثم متابعة مسار السائق منذ خروجه من المطعم وحتى وصوله منزل الزبون على تطبيق إلكتروني.

واقتحمت هذه التطبيقات سوق المطاعم والتوصيل حول العالم منذ العام 2013 على يد ثلاثة طلاب بجامعة ستانفورد الأميركية وهم آندي فانغ وستانلي تانغ وإيفان مور، حيث أنشأوا تطبيق “دورداش”، وتلا ذلك ظهور التطبيق الشهير “ديلفيرو” في بريطانيا في العام ذاته، وبدا أغلب أصحاب المتاجر والمطاعم سعداء بالتجربة التي جلبت لهم المزيد من المال، ووفرت فرصا أكثر لجذب الزبائن.

لكن سرعان ما تحول الأمر إلى صورة أشبه بمعركة حامية الوطيس بين التطبيقات والمطاعم، بعد أن اتسع نفوذ التطبيقات في ستة أعوام؛ وأصبحت أكثر قوة وتأثيرا، وفرضت شروطا قاسية على أصحاب المطاعم، منها رفع رسوم التوصيل والحصول على نسب من سعر الوجبات تصل إلى 50 بالمئة في البعض من الأحيان.

وساهمت المطاعم، التي فرحت مبكرا بالتكنولوجيا الجديدة، في تقوية نفوذ شركات تطبيقات توصيل الطعام، ففي غضون سنوات قليلة توسعت في بلدان وقارات وعينت الآلاف من السائقين الشباب، ثم استقطبت الزبائن لتكون همزة الوصل الأساسية بين الباحث عن الطعام وبائعه.

وزادت الهيمنة، وأصبح المطعم الذي لا يشترك في خدمة التطبيق خاسرا لا محالة بسبب تدخل تلك التطبيقات لترشيح مطاعم معينة خاصة على شبكات التواصل الاجتماعي على حساب أخرى غير مشتركة في هذه الخدمة.

وتشير الإحصاءات السنوية إلى ارتفاع نسبة تحميل تطبيقات توصيل الطعام إلى 400 بالمئة في آخر ثلاث سنوات. وباتت تمثل الآن 15 بالمئة من الربح السنوي لمطاعم الوجبات السريعة.

وحسب دراسة للسوق العالمي قدمتها جامعة “أنديانا” الأميركية، زادت أرباح خدمات توصيل الطعام من 94 مليار دولار عام 2017 إلى 115 مليار دولار في عام 2019.

وتعكس تلك الأرقام المرتفعة وحالة النمو الضخمة حجم وتطور صناعة توصيل الطعام عن طريق التطبيقات الإلكترونية، إذ لم يعد تأثيرها يشمل فقط سوق بيع الأطعمة بل إن امتدادها يصل أيضا ليغير أسلوب حياة الناس بشكل عام، سواء لدى العاملين في هذا المجال أو المستخدمين.

منظومة عمل متغيرة

استثمار قواعد البيانات في إعادة تشكيل الذوق العام

في مارس الماضي، خرج عمال “دورداش” في مدن عديدة بالولايات المتحدة واحتجوا على تخفيض نسبة “البقشيش” ثم هددوا بمقاطعة الشركة.

وتحول الموقف إلى حركة اجتماعية واسعة، بعد أن خرج سائقون يعملون في شركات تطبيقات توصيل الطعام في مظاهرات مماثلة في بلدان أخرى منها الصين والهند والفلبين وكولومبيا.

وقام عمال توصيل الأطعمة في أربع مدن صينية مؤخرا بالإضراب احتجاجا على تخفيض الأجور.

وفي الهند، خرج عمال شركة “زوماتو” الرائدة في مجال توصيل الأطعمة إلى الشوارع للاحتجاج على خفض الأجور في الصيف الماضي.

وتظهر تطبيقات توصيل الطعام، وكأنها صنعت سوق رأس مال متوحش في العصر الحالي. كما أحدثت حالة ارتباك في سوق العمل بما يشبه صراعات النقابات العمالية مع الحكومات الغربية في فترتي سبعينات وثمانينات القرن الماضي عندما بدا حينها أن توحش النظام الاقتصادي الجديد يبتلع حقوق العمال ويجور على ظروفهم الاجتماعية.

وفي مصر انتشرت دعوات لمقاطعة شركة “أوبر إيتس” بسبب ارتفاع نسبة الشركة في فاتورة التوصيل.

وأوضح الشاب محمد غازي، وهو سائق توصيل أطعمة في “أوبر إيتس”، أن سبب غضبهم يرجع إلى تخفيض الربح اليومي للسائقين. وقال إن “شركات التوصيل تريد زيادة أرباحها بعد أن ثبتت قواعدها في السوق المصري، ولم تعد تريد جذب المزيد من السائقين أو الزبائن”.

وأشار، لـ”أخبارنا الجالية ”، “في البداية كانت هذه التطبيقات تسعى لجذب الزبائن والسائقين عبر بدائل وعروض وفيرة، لكن انقلب الوضع بعد فترة قصيرة عندما أصبح كل من السائق والزبون يعتمد على التطبيقات في إنجاز متطلباته، فلم تعد هناك عروض للمستخدمين، ولا مميزات للعاملين بالشركة، ولذلك طالب البعض بالمقاطعة”.

ووفق الخبير الاقتصادي المصري محسن مراد، باتت التطبيقات بشكل عام التطور الحقيقي والبديل لإنشاء سلسلة من المصانع أو المتاجر أو الاستثمار في مجال معين، لأنها تمثل سوقا موازيا وخفيا وبلا رقيب حقيقي يحمي حقوق العامل والمستهلك.

ويتابع مراد، لـ”أخبارنا الجالية ”، “سيكون من المتوقع في المستقبل القريب ظهور نقابات ولجان وجمعيات ترافق ثورة التطبيقات التكنولوجية، وتصنع حالة اتزان بين ميزان الأرباح والعدالة الاجتماعية”.

ولم يتوقف التأثير الملفت لتطبيقات توصيل الطعام على أوضاع العمال وكسب ولاء الزبائن فقط، بل أنتج كذلك نمطا جديدا من المطاعم اعتبره البعض ثورة في ما يتعلق بشكل تقديم الطعام وبيعه.

وتسببت هذه التطبيقات في ظهور نوع جديد من المطاعم أطلقت عليه تسمية “المطابخ الخفية” أو “مطابخ الأشباح”. ظهرت للمرة الأولى في الولايات المتحدة عام 2014، ثم توسعت بشكل سريع في أغلب بلدان العالم، وأشهرها مطاعم “ليفادج” و”غرين ساميت”.

وتحتوي هذه المطابخ على قائمات فاخرة وعلامات تجارية يمكن عرضها عبر الإنترنت، لكنها لا تملك عنوانا محددا يمكن زيارته.

ويعني ذلك أنه بمساعدة تطبيقات الطعام يمكن أن يتحول مطبخ منزلك إلى مطعم نشط يستقطب الموظفين وغيرهم.

مطابخ الأشباح

 بمساعدة تطبيقات الطعام يمكن أن يتحول مطبخ منزلك إلى مطعم نشط يستقطب الموظفين وغيرهم

تحولت مطابخ الأشباح في سنوات قليلة إلى اقتصاد خفي لا يستهان به. وفي الصين وصلت أرباح تلك المطاعم، البالغ عددها 10 آلاف مطعم، حوالي 70 مليار دولار، وفي الولايات المتحدة بدأت تطبيقات توصيل الطعام مثل تطبيق “أوبر إيتس” و”دورداش” و”غراب هاب” في إعادة تشكيل صناعة المطاعم الأميركية، التي يبلغ رأسمالها 863 مليار دولار. ونظرا إلى أن المزيد من الأشخاص باتوا يطلبون تناول الطعام في المنزل، وبما أن تسليم الطلبات أصبح أسرع وأكثر ملاءمة، فقد ساهمت التطبيقات في تغيير طريقة إدارة المطاعم. ويضاف إلى ذلك أن المطابخ الجديدة تقدم الطعام بتكلفة أقل، فلا تحتاج إلى مكان تؤجره وأثاث من طاولات ومقاعد وغيرها وكذلك لا تعين نوادل، وربما لن تدفع ضرائب.

والطريف أن الأشخاص الذين يطلبون طعامهم عبر تلك التطبيقات قد لا يكونون على دراية بأن المطعم غير موجود فعلا على الأرض.

وأكد أليكس كانتر، مدير شركة “كانتر ديلي” الناشئة بلوس أنجلس والتي تعمل على مساعدة المطاعم في تنظيم خدمة توصيل الطلبات، أن “الإنترنت ليس شرا”.

ويقول إنه “يمثل أكثر الفرص إثارة في صناعة المطاعم اليوم. إذا لم تستخدم تطبيقات التوصيل، فأنت غير موجود”.

وأضاف “العديد من عمليات التوصيل تأثيرها قد يكون بعيد المدى، ما ينبئ بتحول الناس نحو طلب الوجبات بدلا من زيارات المطاعم أو حتى إعداد الطعام بالمنزل، بما يعني أن في المستقبل قد لا تصبح هناك مطاعم بالشكل المعروف الآن”.

تشكيل الذوق العام

نفوذ متزايد لتطبيقات توصيل الطعام

تدرك تطبيقات توصيل الطعام حقيقة نفوذها المتزايد. وكشفت جانيل ساليناف، التي تترأس شركة “أوبر إيت” في أميركا الشمالية، أن الشركة تقوم بتحليل بيانات المبيعات لتحديد الطلبات على مأكولات معينة، ثم يجري التعامل مع المطاعم التي تستخدم التطبيق ومن ثم تشجيعها على إنشاء مطاعم افتراضية جديدة لتلبية تلك الطلبات. ما يعني أن تطبيقات توصيل الطعام لا تتحكم في الاقتصاد العام ولا في سوق العمالة وحدهما، بل تشكل الذوق العام في الأكل، وتجعل الناس يفضلون البيتزا عن المكرونة أو يتلهفون للبطاطس المحمرة أكثر من الدجاج المقلي.

وتتوفر فرص هائلة في منجم البيانات الموجود لدى هذه الشركات. عمليا، تقوم التطبيقات بتجميع بيانات من الزبائن، ولديها بيانات في ما يخص الطلبات والمنتجات، وهذه البيانات حيوية ومهمة بدرجة عالية، حيث تستطيع أن تستثمرها في معرفة سلوك الزبائن.

وعبر عرض قوائم الطعام وتوصيلها، يمكن تحليل البيانات والخروج بمعلومات مهمة مثل الأسعار المناسبة للوجبات ولأي منطقة من المدينة، والوقت الذي يرتفع فيه الطلب والسن ونوع الجنس وطريقة الاستجابة لعروض الشركات وغيرها من البيانات التي تستطيع الشركات من خلالها تصميم عروضها ووجباتها لتناسب السوق المستهدف.

وببيع تلك المعلومات لكبرى سلاسل المطاعم أو باستثمار البيانات بشكل شخصي، تصبح لدى التطبيقات قوة معلوماتية جبارة، تعيد تشكيل صيحات الطعام وتضاعف أرباح الشركات.

ونجحت تطبيقات توصيل الطعام إيجابيا في إعادة اكتشاف أطعمة كادت تندثر. ففي الهند تم إحياء المأكولات التقليدية مثل خبز “البران” وحساء “مديشي” الشعبي، بعد أن فتحت التطبيقات الباب لربات البيوت لتحويل مطابخهن إلى مطاعم خفية.

وباتت المطاعم التي تقدم وجبات شعبية مثل الفطائر والمحشي واللحوم المطبوخة على الطريقة العربية وترفع شعار “أكل بيتي شهي”، تحتل المراتب الأولى في الطلبات، وهو ما يشي بتغير الشكل بعد أن كانت مطاعم الوجبات السريعة على القمة لسنوات طويلة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: