عبدالمجيد تبون من بائع أحلام السكن إلى حالم بالرئاسة
كان ذلك في يوم 30 يوليو 2017؛ يوم حر من أيام الصيف الساخن، في مقبرة “العالية”؛ السيدة الفاضلة التي وهبت أرضا شاسعة لدفن الموتى المعدمين والفقراء، حيث السكون الهائل والصمت الحزين والأنين المفجع والدموع الغالية. جموع غفيرة تنتظر وصول جثمان رضا مالك؛ أحد أهم رجالات الحكم في الدولة الجزائرية، المفاوض العنيد في اتفاقيات إيفيان. ورئيس الحكومة المقاتلة في زمن الإرهاب صاحب أشهر مقولة في اللحظة العصيبة التي قتلت الجزائر، “على الإرهاب أن يغير مكانه”.
وصل الجثمان محمولا على الأكتاف العريضة للحرس الجمهوري. جنازة رسمية مهولة تليق بالرجل. كبار القوم وعليتهم متواجدون ملتفون حول المربع الذي سيدفن فيه. أجساد صغيرة تحشر نفسها بين الأكتاف وتهفو بعيونها نحو شخص نحيف قصير ببذلة عادية، يتوسط رجلين أحداهما يقبع في السجن والآخر توارى منذ الإطاحة به من على رأس أقوى منظمة عمالية. الرجل اسمه السعيد بوتفليقة، والآخر علي حداد، والرجل الآخر عبد المجيد سيدي السعيد. غير بعيد عنهم بوجه عبوس يقف رئيس حكومة مغضوب عليه، تظهر على وجهه آثار القلق والحيرة والوجوم. الوقت وقت جنائز والرجل المسجى أمام الجميع كان رجلا في عرين السلطة. الموقف جلل وحزين ومبك. فجأة انبعثت ضحكات غريبة كسرت الصورة وشققت مساماتها، وأظهرت الثلاثي وهم يضحكون، ربما تناسوا أنهم في موقف لا يقبل الضحك.
يقول العارفون بالأمر إن تلك الضحكات لم تكن سوى إشارة قوية أراد الثلاثي أن يبعثها إلى رئيس الحكومة الواقف على بعد خطوتين، إشارة على خطة ما كانت تطبخ أو طبخت على مهل في مكان بعيد عن الأعين والآذان والأنظار والأسماع. وعندما بدأت قراءة الفاتحة كإعلان عن قرب نهاية الجنازة، وبينما كان كل الحاضرين يرفعون أيديهم بالدعاء للرجل بالرحمة التقطت الكاميرات في غفلة السعيد، وهو منشغل بالنظر إلى رئيس الحكومة تبون، نظرة قاسية ومتوعدة، جهنمية ومتسلطة، انتهت بإقالته بشكل مخز ومريب من على رأس الجهاز التنفيذي بعد ثلاثة أشهر من تعيينه، وفي ظرف كان فيه الغموض والشك والغضب يعتمل في باطن الجزائر وفي أعلى هرم السلطة بعد أن فتح تبون، لأول مرة، النار على مجموعة، شقيق الرئيس “طبقة الأوليغارشية”، المقربين جدا من القرار، يرفعون معه من شاؤوا ويضعونه مرميا خارج أسوار وقلاع القصر، نار لم تأكل آنذاك أحدا سوى تبون، ولكنها بعد سنوات وبالضبط في 22 فبراير 2019 أتت على السعيد وشلّته وعصفت بهم ووضعتهم في نيران أشد وأقسى، نيران السجن المغلق، حيث لا حرية ولا متع ولا قوة أو جبروت.
ذكريات مؤلمة
تبون يعود إلى واجهة الأحداث، في رأسه يلعب الطموح لعبته الأخيرة بعيدا عن أوجاع الأوامر ومكرهات التسلط وتعدد مشارب الحكم، فلقد حرر الحراك البلاد وأصبح الكل يتغنى به
ربما يتذكر تبون ذلك الموقف بالكثير من الحسرة والألم، ويتذكر على مضض الموقف الآخر حين سلم مفاتيح الحكومة إلى غريمه، الذي يقبع في السجن الآن أحمد أويحي، حين ظهرت على وجه هذا الأخير النشوة والمكر والدهاء والحقد، وهو يرافقه إلى باب الخروج أمام عدسات الكاميرا، وكأنه يقول له “إلى غير رجعة وسترى ما سيحدث لك”. وبالفعل فبعد فترة بدأت النكبات والمتاعب تلاحقه بين وقت وقت، وكانت ستستمر لولا، كما قال تبون في تصريح له، أن “الحراك حرره وأوقف ما اعتبره محاولة لتنفيذ مخطط لتدميرها.
تلك كانت فواصل قطعت الطريق المستقيم الذي مشى عليه تبون؛ طريق الولاء لرئيس مقعد جاء به من دهاليز الإدارة ووضعه في وسط الضوء. ما كان له أن يحيد عنه، وقد أقسم في إحدى خرجاته الإعلامية بأغلظ الإيمان بالخضوع التام لسلطانه ولبرنامجه الذي لن يتوقف، وقد سرب الفيديو نشطاء ومن قيل إنه “ذباب” متزامنا مع إعلانه الترشح للرئاسيات المقبلة، وتكثفت التسريبات تظلل أفق هذه النية. فخرجت صوره مع غريمه في السباق، علي بن فليس، يقفان جنبا إلى جنب في خشوع تام أثناء أداء صلاة العيد وقد هاجمه هذا الأخير، وقال إن “ترشح تبون للانتخابات يعني عهدة خامسة باسم جديد، إنه تشويه للرئاسيات المقبلة”.
ولكن كانت أهم صورة لافتة أشعلت مواقع التواصل الاجتماعي، صورته مع الفريق قايد صالح رئيس الأركان يتبادلان إشعال سجائر بعضهما، وأُوّلت على أنها روابط متينة تجمع الرجلين، وأنها دعم مطلق له لتولي رئاسة الدولة حتى قبل أن تتم الانتخابات، على عادة من هم مقتنعون للأبد أن منصب الرئيس لا يمكن أن يكون متاحا لأي كان، دون سطوع الضوء الأخضر من مبنى وزارة الدفاع.
رجل السكن والجامع الأعظم
لم يكن تبون رجلا عاديا ولاه الرئيس بوتفليقة حقيبة السكن. الحلم الأبدي لكل جزائري أن يرى نفسه في بيت يحميه من برد الشتاء وقر الصيف. أزمة سكن تعاظمت مع النمو الديمغرافي الرهيب الذي دب في أوصال المجتمع الجزائري، فمثله كمثل المجتمعات العربية مضاعفة الذرية هي من الشهامة والمباهاة والأعراف والتقاليد.
وجدت الدولة الجزائرية الفتية نفسها في مواجهة معضلة تتطور يوما بعد يوم، وانتشرت بشكل سريع أحياء الصفيح في كافة أنحاء البلد، وتكاثرت العوائل، وازداد الطلب على السكن الاجتماعي، وتضاعفت أرقامه وأصبحت مهولة. انتخب بوتفليقة، ووعد الكل بالسكن، وعندما نقول الكل يعني الكل؛ فقيرا وغنيا، أعزبا ومتزوجا، طليقا وبطالا، عاملا وأجيرا. الكل له الحق المطلق في الحصول على المفتاح الذهبي.
ولم يكن في رأس الرئيس سوى شخص واحد مؤهل لبيع أحلام السكنات، إلا تبون صديقه الوالي المحنك الخبير فأر الإدارة والبيروقراطية والأوراق العريضة والملفات الضخمة الثقيلة والمستندات والمواد القانونية والإدارية. سلمه أضخم ملف وأعقده وأخطره على الإطلاق. قنبلة اجتماعية مشتظية لو تنفجر لن تترك أي أثر، وقد تأتي على الأخضر واليابس، فالرجل متمرس ويعرف أصول اللعبة، لعبة الإدارة، تخصصه المحبب لنفسه، والذي تخرج منه في 1969.
أهم صورة لافتة تسرب لتبون وتشعل مواقع التواصل الاجتماعي، هي صورته مع الفريق قايد صالح، رئيس الأركان، يتبادلان إشعال سجائر بعضهما، وقد أُوّلت على أنها روابط متينة تجمع الرجلين، وأنها دعم مطلق له لتولي رئاسة الدولة
صار نافذا ومتغلغلا في الجماعات المحلية الوظيفة الأقرب إلى انشغالات المواطن الفقير والمعدم والبسيط، هناك تعلّم وخبر واقترب من عمق المشاكل والصعاب والعراقيل، التي تقف حجر عثرة أمام التطور والتحسن، وساهم مع آخرين في تشييد قوانين ومراسيم، وبنى صرح الإدارة التي وسمت إلى الآن بالبيروقرطية والعاجزة والمتخلفة، ثم أمينا عاما وواليا في العديد من الولايات ذات الكثافة السكانية الفقيرة والكبيرة، أين وقف بالتماس مباشرة مع الواقع المرير المهمش الذي كانت تعيشه تلك الولايات.
حاول أن يتلمس الحلول والمخارج من أجل تنمية أكبر وحياة أفضل وأريح. شعارات تلك المراحل من حياة الجزائر، استوعب تبون أن هذا المشكل قادر أن يعصف ببنية المجتمع ويحدث القلاقل، وهذا المشكل وتوابعه هو ما أهّله لتولي منصب وزارة السكن خمس مرات أطلق من خلاله سنة 2001 حلا سحريا طوبويا؛ برنامجا سمي “عدل”، وهو “صيغة من السكن العمومي المدعم المتمثلة في البيع بالإيجار من قبل السلطات العمومية من أجل تمكين المواطنين ذوي الدخل المحدود مع إمكانية التملك بعد فترة كراء تدوم 25 سنة، وقد خصص هذا النوع من السكن العمومي للمواطنين ذوي الدخل المتوسط”، بالمختصر المفيد يعني: “أبيع لك سكنا وأنت مؤجر له”.
كان تبون منتشيا ومتفائلا وحالما طوال خرجاته الميدانية، التي انتعل من أجلها “كومبينزون” البنائين وهو يتفقد المشاريع، بل بلغت به الحماسة أن وعد بنهاية الشطر الأول من عدل 1 سنة وتسليم الشقق إلى أصحابها. ولكن الحلم امتد إلى غاية اليوم ولم ينته بعد. عزل تبون وعزل الرئيس بعد حراك ما زال يغلي، ومات وزراء وعسكريون وكتاب وفنانون وأناس بسطاء لا يعرفهم أحد، بل مات حتى أصحاب هذه السكنات المساكين ولم يروها إلا وهم بين جنبات القبور.
وفي غمرات الإيمان وطفرات أسعار البترول والخزائن المملوءة بأموال قارون، فكر الرئيس المعزول بوتفليقة في تخليد اسمه عاليا في السماء الدنيا وفي الآخرة، فقرر بناء مسجد كبير جدا وفاء للتقاليد الإسلامية، وأسندت المهمة مرة أخرى، بعد أن كانت بين يدي وزارة الشؤون الدينية، إلى تبون الذي عمل ليل نهار، في كل وقت وساعة، على متابعة الأشغال شخصيا، وكان ينزل عشرات المرات إلى الباحة الكبيرة التي سيبنى عليها المسجد الذي غدا شغله الشاغل، فالأمر قد يكون جللا خاصة بعد أن أقعد المرض والوهن الرئيس، وقد يغادر الأرض دون أن يرى مسجده وهو عامر بالمؤمنين خاشعة أبصارهم يتهجدون بالدعوات للرجل الذي سيكون مسجده صرحا خالدا يدل على سنوات حكمه الرشيد، ليس له فقط بل للمشرف المباشر عليه.
كبر الحلم وكبرت التكاليف وطال أمد الأشغال، وتمططت وتداخلت، وغدا المسجد ورشات مستعصية على الانتهاء، وتبخر حلم الخلود والتبرك للأبد في عيون الرئيس بعد أن خلع يوم 22 فبراير، وعاد تبون إلى بيته وهو يرى المسجد في أطوار البدايات. جزء منته، وجزء ينقصه الحديد والصلب، وجزء مبعثر هنا وآخر هناك، أسمنت ملقى على الأرصفة والطرقات. مئذنة تعلو ببطء السلحفاة وأرضيات غير مبلطة.
خروج تراجيدي وعودة متفائلة
خروج تبون من معاطف النظام، تقطع أوصاله الشائعات، لم يبعده عن عين الإعصار، فقد ألقي القبض على ابنه وهو في السجن الآن في قضية تتعلق بشراكته في قضايا فساد مع “الجزار” كمال شيخي
خرج تبون من معاطف النظام يسفحه البرد وتقطع أوصاله زخات الشائعات وأصبح في عين الإعصار، ألقي القبض على ابنه وهو في السجن الآن في قضية مريبة، تتعلق مثلما تقول المحاضر، بشراكته في قضايا فساد، وفي أخطر قضية تهريب للكوكايين مع المسمى البوشي “الجزار” كمال شيخي. وينتظر أن يعاد فتح ملف الخليفة، حيث كما هو معلوم كان تبون “ضمن مجموعة من الوزراء المشتبه بتورطهم في القضية، على خلفية إعطائه تعليمات لمدير صندوق التسيير العقاري الذي يشرف على إدارة الأملاك العقارية والإسكانية، بنقل أموال الصندوق من بنك حكومي لإيداعها في هذا البنك الخاص، الذي كان يمنح فائدة أعلى بكثير من تلك التي تمنحها البنوك الحكومية”.
يعود تبون إلى واجهة الأحداث، في رأسه يلعب الطموح لعبته الأخيرة بعيدا عن أوجاع الأوامر ومكرهات التسلط وتعدد مشارب الحكم، فلقد حرر الحراك البلاد وأصبح الكل يتغنى به ساسة وعسكر ونخب ومسؤولين ومتنفذين، رغم أن قلة منهم فقط نزلت إلى الشارع طيلة هذه الشهور، تلتحف السماء وتتغطى ببساط الأرض الباردة، لم يكن بينهم تبون الذي يبدو واثقا حد التخمة أن الشعب سينصفه بعدما أظهر علنا معارضته للعصابة، وعلى رأسه السعيد بوتفليقة في قرارات تمس مصالح البلاد والعباد.
ظهوراته الإعلامية المدروسة باقتضاب بدا فيها تبون بوجه عابس ونفسية مهزوزة، رغم ما يقال عنه إنه من المؤمنين بمفعول الرقية الشرعية التي كان يأخذ جرعات منها، خاصة لما كان واليا على أدرار، حيث الزوايا الدينية والحضرات والطقوس، فلقد تربى في أحضان عائلة محافظة، في بيت والد ينتمي إلى جمعية العلماء المسلمين.
وحين كان تبون صغيرا يوزع على المارة جريدة “البصائر” الناطقة باسم الجمعية الإسلامية، وتقرّب لما كان مسؤولا بشكل لافت من الزوايا ودعمها وقامت في بعض الولايات بجمع التوقيعات له للترشح، أظهر وجها “محقورا” كما يقال في الجزائر، ضحية لجلاد يعرفه جيدا ويعرف كيف يمشي ويتنفس، ولكنه لم يفصح عما حدث له في تلك الأشهر العديدة في مكتبه الفخم بقصر الحكومة، وتركه لمفاجأة حملته، حيث سيقول “شبهات حامت حوله” كي تعبئ رصيده الشعبي المفقود والمرمي اليوم في شارع الحراك، حيث لا أحد ينتبه إليه، فهو، كما تردد حناجر الشارع، جزء من النظام، ويبحث عن منافذ طارئة للعودة من بعيد ليحمله الشعب إلى القصر.
وقد بدا، خاصة في حواره مع إحدى القنوات العربية لما سئل عن المعتقلين، مرتبكا ومتحفظا وكأن سيفا مسلطا على رأسه لا يظهر للعيان، نطق بشيء من التردد حول علاقته بالعسكر كي لا يعرف أحد هل هو مرشح العسكر أم أنه يبحث عن تزكية منهم؟، أم أن حكاية أنه مرشحهم غير المباشر ورجلهم هو طريقة ترويجية من طرق الدعاية السرية التي تبثها خلايا نائمة في مكان ما، رغم تأكيدات القيادة العسكرية أنها حفظت الدرس جيدا وأسمعته للقاصي والداني، وأنها لن تكون داعمة لأحد، وما تلك الصورة التي تجمع تبون بالقايد إلا ذكرى عزيزة من ذكريات كرة القدم تحفظ في ألبوم عائلي كبير.
لم ينزل تبون إلى الحراك، مثله مثل المترشحين الباقين، وتلك معضلة صعبة قد لا تعطيه الوعد المأمول في الفوز برضا الشعب. فهو إبن للنظام صاحبه في السراء والضراء، استفاد منه على طريقته وفي عصمته، وها هو النظام اليوم ممقوتا ومنبوذا، ووجوده ومصيره في نار ذات لهب، ينفثها الحراك كل ثلاثاء وجمعة، لا يلوي على شيء أو على أحد حتى ولو كان تبون المخلص المرتجى والمنتظر، كما يحلو لأنصاره أن ينعتوه، والذي سيجعل النار بردا وسلاما.