إخفاقات الجزائر ومشكلاتها الكبرى
لماذا حققت دول عربية خليجية وآسيوية معروفة وثبات إيجابية في ميادين التنمية الاقتصادية والبشرية الناجحة، والمعمار العصري المتطور، والإعلام المؤثر، والتعليم المنتج للثروة وللثقافة وذلك خلال فترة زمنية لا تتجاوز ثلاثين سنة، في حين فشلت الجزائر في إنجاز أي تحوّل مادي ورمزي معتبر على طريق بناء المجتمع الحداثي المتطور ماديا وثقافيا واقتصاديا وتنظيما اجتماعيا على مدى 57 سنة من الاستقلال. علما أنها تملك خزانا كبيرا من الثروات الباطنية الهائلة والطاقات والكفاءات البشرية فضلا عن الموقع الجغرافي الذي كان بالإمكان أن يجعلها جسرا حضاريا يربط بين قارتي أوروبا وأفريقيا؟
ألا يعود هذا الفشل إلى سوء الخيارات السياسية المرتجلة وغير النابعة من تربة الشخصية الوطنية وتاريخها ونسيجها الاجتماعي المتميز، وإلى الصراعات على الحكم بدلا من القيادة أم يعود ذلك إلى النمط الثقافي والذهني المتخلف الذي يطغى على المجتمع الجزائري؟
في هذا السياق ينبغي التوضيح أن إحدى المشكلات الكبرى التي لم تعالجها السلطات الجزائرية في فترة الاستقلال الطويلة تتمثل في عدم إبداع الجزائر لأي نموذج تنموي عصري وحداثي نابع من عبقرية الروح الوطنية التي أثبتت قدرتها على الابتكار في الأفكار وفي التنظيم ومقاومة الصعوبات في عهد حركة التحرر الوطني.
إن الفشل في بناء هذا النموذج هو الذي شتت الطاقات ويحول دون بروز قضية التحديث المركزية في المجتمع الجزائري، وهو الأمر الذي يتسبب أيضا في غرق الجزائر في مشكلات كثيرة ومعقدة أخرى لم تجد السلطات الجزائرية الحل المناسب لها، وفي مقدمتها الإخفاق الدرامي في صياغة عقد وطني حول مهمة إنجاز التحديث الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والتعليمي التربوي على مدى 57 سنة من الاستقلال.
ولقد أنتج هذا الإخفاق مجموعة من الظواهر السلبية ذات طابع سياسي ومعرفي ما فتئت تتسبب في تفريخ البطالة، وأزمات السكن، والأمية التقنية والجمالية التي يلاحظ أنها قد أصبحت تطال كل مناحي الحياة الجزائرية. لقد فرض هذا الوضع تعقيدات أخرى منها أن أجيال الاستقلال قد تربت في إطار بنية ثقافة تقليدية ومتخلفة عمَّقت لديها التخلف البنيوي، حيث يصعب كثيرا تصحيح أفكارها وتعديل سلوكها.
بدلا من الإقلاع الحضاري وفق معايير الحداثة المادية والروحية أصبحت الجزائر فريسة لبعض الترقيعات الشكلية التي لم تثمر أي تطور يذكر حتى يومنا هذا. وفي هذا السياق يلاحظ غياب العقل الجزائري الجمعي الذي يفكر تفكيرا عصريا في مختلف قضايا الابتكار العلمي والثقافي والاقتصادي والتنظيمي للمجتمع. كما نجد أنفسنا أمام الأحزاب الجزائرية الموالية والمعارضة التي تفتقد إلى الإطارات المفكرة وذات المشروع النهضوي بعيدا عن المنافسة الصبيانية الموسمية على الانتخابات التي لم تؤدّ إطلاقا إلى بناء الأبجديات الأولية للديمقراطية حتى الآن.
وفضلا عن ذلك فإنه من الضروري القول إن نموذج التنمية الذي راهنت عليه الحكومات الجزائرية المتعاقبة بقي مشدودا إلى التخلف المتوحش في ميادين الثقافة والتعليم والإعلام والمعمار والإنتاج الزراعي والصناعات التقليدية والخفيفة والثقيلة وغيرها. ومن يتأمل الواقع الجزائري يصاب بالخيبة حيث يصطدم بمظاهر التدهور العام الذي يبدو في الفوضى الإدارية والبيروقراطية الساحقة، وفي المعمار البدائي المثير للاشمئزاز وللعنف الرمزي وهو الوضع الذي يتناقض كليا مع الخطابات الرنانة التي يلقيها النظام الحاكم وأحزابه والإعلام الموالي له. في هذا المناخ اليائس تهيمن الرأسمالية الاستغلالية المستوردة في شكلها ومضمونها البدائيين، حيث تمارس الطغيان وتدمير الشرائح العمالية والفلاحية والوسطى.
في هذا المناخ يتم توجيه ضربات موجعة إلى المجتمع الجزائري باستمرار، وهي ضربات تطال القيم الوطنية الأصيلة التي ما فتئت تتعرض للتحطيم والدفن المنهجيين. أمام هذا الواقع المؤلم لا نجد أي تحرك جدي للطلائع المثقفة الوطنية في شكل تنظيمات كبرى وفاعلة نظريا وميدانيا لتصحيح هذه الأوضاع المتردية، بواسطة تقديم مشاريع ثقافية واقتصادية وتعليمية والدفاع عنها داخل الأوساط الشعبية من أجل فك الارتباط مع التخلف البنيوي والمستشري في المؤسسات المختلفة وفي الذهنيات أيضا.
وما يؤسف له أن مركب البطالة الفكرية والسياسية لا يزال مستفحلا وضاربا بأطنابه بين أوساط النخب وفي الأوساط الشعبية، فضلا عن تفاقم الأزمات الاجتماعية المتمثلة في انعدام السكن لملايين الشبان والشابات الذين يتعرضون للتمزق النفسي والمادي ولعدم الاستقرار العائلي الاجتماعي، وارتفاع أسعار المعيشة والإيجار اللذين لا يتناسبان مع الدخل الذي تحصل عليه شرائح العمال والفلاحين الذين يشكلون أغلبية السكان. أما منظومة التعليم فهي في تدهور متواصل إلى حد مخيف حيث لا يوجد في الأفق المنظور أي برنامج تحديثي وعملي وواقعي لمعالجة هذه المشكلة التي تنذر بأجيال يخيم عليها الجهل البنيوي.
ويلاحظ هنا أن جميع المناقشات التي تشهدها الساحة السياسية الجزائرية لا تمس مثل هذه القضايا الحساسة، بل كانت وما تزال تدور حول مسائل هامشية تختزل غالبا في تثبيت شرعية هذا المسؤول أو نزع الشرعية عن ذاك المسؤول الآخر، وقرع الطبول ضد كل من ينتقد السلبيات أو يكشف عن الأخطاء القاتلة، وعن سلوك هذا الوزير غير الكفء أو ذاك الوزير المحتال الذي لا يملك ثقافة رجل الدولة ويتصرف وفقا لمنطق العشيرة أو الشلة. وهكذا نجد أن مرحلة الاستقلال بكاملها مكبلة بالحكم الفردي وبالصراعات على المناصب والنفوذ، الأمر الذي حال وما يزال يحول دون إنجاز القطيعة مع التخلف والتبعية في مجالات الثقافة، والفكر والخيارات الاقتصادية والتنموية وتنظيم المجتمع وبناء النموذج السياسي الديمقراطي.