هل يكمل قيس سعيد ما بدأه بورقيبة
تجديد المشروع الثقافي، فكرة طرحها الرئيس التونسي المنتخب، قيس سعيد، خلال مناظرة تلفزيونية. والملفت أن سعيد لم يتحدث عن مشروع ثقافي يبدأ من الصفر، بل تحدث عن تجديد مشروع قائم، بدأه الزعيم التونسي الراحل الحبيب بورقيبة بعد الاستقلال.
مشروع بورقيبة الثقافي كان من شقين، الأول هو التعليم الذي اعتبره بورقيبة حجر الأساس لتطوير المجتمع التونسي، وكانت مجانية التعليم وإجباريته من أول القرارات التي اتخذها، وحرص على افتتاح المدارس حتى في القرى النائية.
وتمثل الشق الثاني في إصدار مجموعة قرارات هدفت إلى دعم الأنشطة الثقافية، من مسرح وسينما وفن تشكيلي وشعر، وكانت الوزارات والمؤسسات والبنوك وشركات التأمين مطالبة بدعم الأنشطة الفنية والثقافية، بتخصيص نسبة واحد بالمئة من أرباحها للاستثمار الثقافي.
ماذا حدث بعد ذلك؟ رأينا مجتمعا، يبدو للمراقب الخارجي، مجتمعا حداثيا منفتحا على العالم، رغم ذلك فشل في أول اختبار، وفوجئ الجميع داخل تونس وخارجها، بأن الشباب التونسي بعد الثورة، اتجه إلى التطرف، وانضمت أعداد كبيرة من التونسيين إلى صفوف داعش، لتلتحق بساحات القتال، داخل سوريا والعراق وليبيا، لدعم ما سمي بدولة الخلافة.
البعض، وجه اللوم إلى فترة حكم الترويكا، بين عامي 2012 و2013، وحمّلوها مسؤولية نشر الأفكار المتطرفة بين الشباب، مشيرين إلى الخيام الدعوية التي انتشرت آنذاك. وهذا رغم صحته، إلا أنه تبسيط ساذج للمشكلة، هل يعقل أن يتمّ التحكم بأفكار الشباب وتوجهاته خلال عامين أو ثلاثة، ليتحول من شباب يؤمن بالحداثة إلى شباب متطرف، وصف من قبل وسائل الإعلام بالعنف والدموية.
لا بدّ أن هناك تفسيرا آخر جرى التغاضي عنه. هو فشل المشروع البورقيبي التعليمي.
لماذا فشل بورقيبة؟ مدفوعا بإعجابه بالحداثة الأوروبية، نسي بورقيبة ومن معه خصوصية التونسيين، وجرى إهمال متعمّد، أو عن حسن نية، للتعليم الديني، مخلفا فجوة تسلل منها الدعاة وأشباه المتدينين إلى عقول الشباب، عندما سنحت أول فرصة لذلك.
لم يكن حال الشق الثاني أفضل من الأول، النجاحات التي حققها المثقفون التونسيون في السينما والمسرح والتشكيل والرواية والشعر، ظلت نجاحات فردية، ولم تتحول إلى ظاهرة. وظلت العلاقة بين المثقف ورجل السلطة في تونس مبنية على الريبة والشك، كان أسهل دائما على المبدع التونسي أن يحقق النجاح خارج تونس من أن يحققه داخلها.
تحول الاهتمام بالفن إلى نوع من البروباغاندا، استفاد منها المثقفون والفنانون الأجانب، بينما الفنان والمثقف التونسي يعاني شظف العيش، باستثناء قلة قليلة اعتمدت على مهارتها باسترضاء السلطة والتمسح على أعتابها، أكثر من اعتمادها على قدراتها الإبداعية.
اسألوا أي مبدع عربي عن تونس، سيذكرها بامتنان شاكرا فضلها، ورعايتها للإبداع والمبدعين، وجهوا نفس السؤال إلى مبدع تونسي، سيتحدث بمرارة عن الإهمال والتجاهل.
تونس لا تفتقر إلى المبدعين، ولكنها فشلت في تسويقهم، واليوم يجوب هؤلاء عواصم العالم يحصدون الجوائز والاحترام.
حلم كل مبدع عربي أن ينال جائزة من مهرجان ثقافي في تونس، وهي كثيرة جدا، يعلقها على صدره، ويعود بها إلى بلده شهادة على أنه مبدع، منحه لها شعب شهد له الجميع بأنه واحد من أكثر الشعوب تذوقا للفن.
قيس سعيد كان على حق، عندما اقترح في مناظرته، إدخال مادة الفلسفة في التعليم، حتى في المراحل الابتدائية، وهذه ليست طوباوية كما وصفها البعض، بل هي قمة الحكمة، وهي المخرج لملء الفراغ الذي خلفته مناهج التعليم على مدى عقود. وهو على حق، عندما أشار إلى حاجة تونس لثورة ثقافية، تعيد استقطاب مبدعيها وتسويقهم ليأخذوا المكانة التي يستحقونها.
الاستثمار في الثقافة اليوم، أكثر أهمية من الاستثمار في الفلاحة والصناعات الثقيلة. ومن المؤكد أن رئيسا منتخبا بقيت أيام على دخوله قصر قرطاج، حيث يباشر مهامه، يضع على رأس مشاريعه تطوير الإنسان التونسي والاستثمار بمواهبه، يستحق التفاؤل والاهتمام اللذين أبداهما التونسيون بفوزه.