الارتياب في عقل المرأة دعاية سلبية تحقر مكانتها الفقهية
حققت المرأة انجازات عظيمة في مجال الفقه ونقل الحديث النبوي وهو ما تدل عليه الكثير من قصص الصحابيات والمحدثات اللاتي كانت لهن مساهمة كبيرة في نقل علمهن إلى المسلمين من أبناء عصرهن وحتى من الأجيال اللاحقة، غير أن أصحاب الفكر المتشدد خاصة من السلفيين يرددون أحاديث ملفقة ومزورة بهدف الترويج لتصورات وهمية عن شخصية المرأة من أجل التشكيك في قدراتها العلمية والفقهية وضرب الثقة فيها وفي آرائها، فيما تبرز الوقائع التاريخية حقيقة مغايرة لذلك تماما.
علم رواية الحديث الذي يحظى باهتمام خاص من السلفيين هو نفسه الذي يدحض تصورات التيار الأصولي بشأن المرأة، فالقراءة التاريخية تؤكد تفوقها وتفردها في العلم الذي سعوا لاستخدامه لتحقيرها وازدرائها.
تضع أسماء سيّد أستاذة الدراسات الإسلامية في جامعة كاليفورنيا رموز التيار السلفي في مأزق منهجي عندما يستشهدون بالحديث النبوي نفسه للحط من قيمة المرأة ولوضعها في مكانة دون الرجل، من خلال إشارتها إلى الدور الرئيسي الذي أدته آلاف النساء المسلمات في نقل الحديث النبوي وتصحيح سنده وتعليمه للرجال والنساء على مدار قرون.
تحدد الباحثة الأميركية من أصول هندية، في كتابها “المرأة ونقل المعرفة الدينية في الإسلام”، أزمنة اضمحلال مشاركة المرأة في رواية الحديث، والملاحظ أن المشترك بينها هو طغيان الفكر المتشدد، بما ينبه لتلازم عكسي بين حضور المرأة وتفوقها ومنحها حقوقها العلمية والفكرية والثقافية وبين الفكر السلفي في الجهة المقابلة، ذلك الذي أطلق على “الجرح والتعديل” وصف علم الرجال فلا مكان للمرأة في ساحة يحكمها العلم والعقل، محاولا طمس انجازات المرأة وسبقها في هذا الميدان كما يطمس ملامحها ومشاعرها.
فضلا عما ذكرته أسماء سيّد بشأن علوّ مكانة صحابيات مثل عائشة وأم سلمة في رواية الحديث وشرحه وأنهما لا تقلان مكانة حفظا ودراية عن كبار الصحابة ممن تميزوا في هذا المجال مثل عبدالله بن عمر وعبدالله بن عباس، فإن شواهد كثيرة دالة على استمرار هذا التفوق النسوي بنسب متفاوتة لقرون طويلة.
تفوق نسوي
تكمن المفارقة في أن أدعياء مبدأ اللامساواة بين الرجل والمرأة يتم تقديمهم بوصفهم محدثين وهي درجة متقدمة في هذا الفن، وتنتشر أقوال عبر فيديوهات مصورة لأبي إسحاق الحويني الموصوف لدى السلفيين بمحدث العصر تحط من قدر المرأة، في حين كانت المرأة على رأس هذا العلم ذاته، وعلى يد كثير من المحدثات وراويات الأحاديث تعلم ودرس كبار العلماء والفقهاء.
يصعب حصر الشواهد والأقوال التي يمجد بها كبار رموز علم الحديث القدامى أساتذتهم من النساء والراويات اللاتي أخذوا عنهن العلم، ومنها ما أورده بن حجر العسقلاني في كتابه “المعجم المؤسس للمعجم المفهرس” كثيرا من شيخاته ونوه لاشتراكه في السماع عن الشيوخ مع بعضهن ووصف بعضهن بأنها مصنفة وهي عائشة بنت عبدالله الحلبية. كما أورد الذهبي قبله في كتابه “معجم شيوخ الذهبي” كثيرا من شيخاته وكان يقول عن بعضهن “توفيت شيختنا”.
ما يؤكد أن محاولات بعض المعاصرين للحط من قدر المرأة ونفي مقدرتها واستحقاقها أن تكون فقيهة وعالمة ليس مصدرها الدين وأن ادعاءهم القربى من علم الحديث إدعاء كاذب -فالمرأة التي يزدرونها جزء من تاريخ هذا العلم، ليس كمتلقية بل محدثة وراوية- ما حكاه الرحالة ابن بطوطة عن محدثات عصره اللاتي قرأ عليهن الكتب وترجمة السخاوي لما يزيد عن مائة وسبعين سيدة من المحدثات الفقيهات واعتراف العالم الموسوعي جلال الدين السيوطي بدور شيخاته في تكوينه العلمي وكذلك فعل ابن حزم.
وأكدت الباحثة أسماء سيد أن وصول المرأة المسلمة لهذا المستوى الرفيع في مجال مثل علم الحديث من شأنه الدفع باتجاه تصحيح الكثير من المفاهيم السلفية المغلوطة عن المرأة.
لا يصح أن تُقبل الدعاية السلبية عن المرأة كونها ناقصة عقل ودين. وهناك محدثة وراوية تدعى فاطمة بنت قيس انفردت برواية حديث طويل ومعقد لما فيه من دقة الصور والمشاهد وغرابتها كحديث صفة وخروج الدجال، والذي حدث به النبي وسط حشود من الرجال والنساء بالمسجد بعد أن نودي للصلاة جماعة، فكيف تتهم امرأة بلغت هذا المستوى من الذكاء ودقة الحفظ بنقصان في عقلها.
دقة في علم الحديث
الذكاء والمقدرة العجيبة على الحفظ والإجادة لما تم سماعه أوصل المرأة المحدثة إلى مستوى إجازة العلماء منذ القرن السادس الهجري، وهو ما يعكس مدى رسوخها ودقتها في هذا العلم.
ومن المحدثات اللاتي أجزن علماء خديجة بنت أبي سعيد وأم إبراهيم فاطمة بنت عبدالله الجوزدانية والتي وصفها الذهبي بمسندة الوقت. وأجازت المحدثة زينب بنت عبدالله بن عبدالحليم المحدث ابن حجر العسقلاني. وتفردت بعض المحدثات ببعض الروايات مثل زينب بنت سليمان بن إبراهيم التي أخذ عنها العلم الإمام تقي الدين السبكي.
“أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى”، جزء من آية قرآنية يُستدل بها على أن شهادة المرأة بنصف شهادة الرجل. وعلل ابن القيم ذلك في كتابه “إعلام الموقعين” بتوكيد الحفظ “لأن عقل المرأتين وحفظهما يقوم مقام عقل رجل وحفظه، فهي أضعف من الرجل في هذا الجانب”، غافلا عن أن فعل “تضل” ليس مرادفا للنسيان، إنما بمعنى اختلط عليها الأمر نتيجة ملابسات واقعة بعينها.
أما القدرة على الحفظ فقد أثبت تاريخ راويات الحديث أنهن تفوقن على كثير من رموز وقامات هذا الفن حفظا ودراية، وهو التاريخ الذي يصدقه واقع اليوم وكل العصور في مختلف العلوم والمجالات، ويلفت إلى ضرورة تجديد القناعات بشأن أحكام مرتبطة بظروف الوقائع وملابساتها لا بحال المرأة وعقلها الذي أثبت عبقريته وألمعيته.
جعل أعضاء الجماعات المتطرفة من دعوى حرمة اختلاط الجنسين إحدى مهامهم الرئيسية في الجامعات بجانب فرض الحجاب على المرأة والجلباب واللحية على الرجل ومنع الحفلات الموسيقية والغنائية، في حين أن هذه الدعاوى تبطلها حقائق حقبة إسلامية كانت المرأة خلالها تتعلم وتشارك الرجال وتختلط بهم وتفتيهم ويقصدها الطلاب لأخذ العلم.
وكذلك أخذ الحديث عن عائشة زوجة الرسول حوالي 299 شخصا من الصحابة والتابعين ليس من بينهم نساء سوى 67 فقط، وبلغ عدد من روى عن أم سلمة من الصحابة والتابعين حوالي 101 لم يكن من بينهم سوى 23 امرأة فقط.
تكشف النشاطات النسوية المرتبطة بالسفر الدائم لتحصيل العلم وسماع الحديث زيف الدعاوى المتعلقة بحرمة سفر المرأة لتلقي العلم، ففي زمن الرسول كانت الرحلة عامة في وفود القبائل وبينهم نساء رحلن إلى المدينة المنورة وأخذن من النبي ومبادئه، ثم رجعن إلى قومهن وبلّغن ممّا سمعن وشاهدن.
فتح الإسلام أمام المرأة المجال للقيام بأدوار مساوية للرجل لتحتل المكانة المرموقة التي تليق بها وتساهم في بناء المجتمع وتثقيفه، فصارت فقيهة وعالمة ومحدثة، وهي الحالة التي يرفضها التيار السلفي واصفا المرأة بعدم الصلاحية إلا لمهام محددة داخل المنزل لخدمة الرجل.
وبدلا من الاعتراف بهذه الحقوق وبمكانة المرأة التي وصلت إليها في الفقه وباقي الفنون والعلوم، تم اختلاق أحاديث موضوعة تنم عن الارتياب في عقل المرأة ودينها، مروجة لتصورات وهمية عن شخصية المرأة، مؤداها التنفير من تعليمها ومن الثقة بها كصاحبة رأي يُعتد به.
صورة زائفة
المرأة التي كان لها سبق رواية الحديث وتصحيح سنده وتعليمه للرجال والنساء، يكافئها السلفيون بترويج أحاديث مزورة مكذوبة تناقض القرآن وصحيح السنة، من شأنها تكريس صورة زائفة لشخصية المرأة وتجعلها بالنسبة للرجل في درجة أقل في كل شيء سواءً في العلم أو العقل ومستويات التفكير.
تشير أسماء سيد إلى أن الاعتداد بأحاديث منسوبة للنبي محمد، سُجلت بعد قرابة مئتي سنة من عصر النبوة، هو اعتداد باطل ما لم تطبق عليه قواعد العقل والمنطق لتتضح صحته، حيث لا يكفي أن تعتمد مبادئ اعتمدها رواة الحديث في الجرح والتعديل وغيرها، فجميعها لم تمنع حديثا يحط من قدر المرأة ويهين عقلها من الوصول إلى القارئ المعاصر على أنه حديث موثوق به.