شباب متمرد على الأيديولوجيا يكسر حاجز الصمت ويفاجئ الطبقة السياسية الجزائرية
أحيا الجزائريون ذكرى مرور 31 سنة على انتفاضة 5 أكتوبر 1988، التي خرج فيها الشعب إلى الشارع للمطالبة بالتغيير ورفض نظام الحكم، وفتحت الطريق أمام إصلاحات ديمقراطية، غير أنها قيّدت مع اندلاع الحرب الأهلية عام 1992، وتتشابه انتفاضة أكتوبر مع حراك فبراير 2019، حيث يبدو طريق الديمقراطية في الجزائر شائكا ومعقدا مع إصرار النظام على الالتفاف على مطالب الشارع وعدم استجابته لدعوات التغيير الحقيقي.
ألقت الذكرى الثالثة والثلاثون لانتفاضة الخامس من أكتوبر عام 1988، بظلالها على فعاليات الحراك الشعبي في الجزائر الذي تفجر في فبراير من العام الجاري، حيث أكدت الاحتجاجات المنتظمة في العاصمة وعدد من مدن البلاد على أن طريق النضال من أجل الحرية والديمقراطية هو واحد مهما كانت الفوارق والاختلافات.
استحضرت جمعيات أهلية ذكرى انتفاضة الخامس من أكتوبر، عبر وقفات انتظمت في العاصمة وعدد من مدن البلاد، لاستلهام عبر ودروس الانتفاضة الشعبية التي عاشتها الجزائر نهاية الثمانينات، وإسقاطها على راهن البلاد التي تعرف ظروفا مماثلة تؤكد على أن الطريق لا يزال في نقطة الصفر.
والانتفاضة التي قمعها آنذاك الجيش وأفضت إلى سقوط نحو 600 ضحية من الشباب المنتفض ضد السلطة، انتهت إلى حرب أهلية بعد سنوات قليلة استمتع خلالها الجزائريون بممارسات الحرية والديمقراطية، والحراك الشعبي الذي دخل شهره الثامن الآن هو في مربع الصفر، لأن نفس المؤسسة لا تريد تلبية مطالب التغيير الحقيقي.
معركة الشارع والنظام
رغم أن الوضع يختلف بين المحطتين، إلا أن نفس النتائج والممارسات تحيط بانتفاضة الشارع، فكما استطاع النظام في 1988 الالتفاف على مطالب الشعب، وذهب إلى إصلاحات من الداخل وضعت البلاد على سكة الديمقراطية والتعددية، يكرر نفس المخارج بالذهاب إلى انتخابات رئاسية لإنتاج نفسه من جديد بوجوه وآليات جديدة.
ورغم فرضية الافتعال التي تروج لها بعض الدوائر لتبرير شمولية وقوة الأحداث في المحطتين، لتبرير عجز السلطة عن استشراف التحولات داخل مجتمعها، وربطها بأياد توظف الشارع لتصفية حساباتها السياسية، إلا أن الثابت هو أن “شغب الأطفال” في أكتوبر 1988، حسب وصف الحكومة، زلزل أركان نظام الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، وحراك “المغرر بهم “، حسب وصف الجنرال قايد صالح، و”الغربان الناعقة ” حسب وصف إحدى الصحف المحلية، أطاح بالرئيس عبدالعزيز بوتفليقة وزج بأركانه في السجن.
ومع ذلك تبقى الأحلام الوردية التي رسمها ضحايا ومناضلو أكتوبر وفبراير بعيدة المنال، فبعد 31 عاما وجد الجزائريون أنفسهم في نفس المكان، وطموح بناء دولة الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية يبقى في حكم المجهول، لأن النظام المتجذر استطاع الصمود والمناورة طيلة تلك المدة وبقي وفيا لتقاليده الراسخة.
ويرى رئيس حركة “راج” (تجمع أمل شباب) عبدالوهاب فرساوي، أن هناك الكثير من الفوارق في الظروف المحيطة والآليات، إلا أن الأسباب والأهداف تبقى واحدة بين انتفاضة أكتوبر وحراك فبراير، ولو تفاوتت المطالب والقوة الشعبية والتغيرات الاجتماعية. وتابع في تصريح لـ”العرب”، بأن “أحداث أكتوبر هي ثورة شعبية من أجل الحرية والكرامة، وأن التفاف النظام عليها هو الذي أيقظ الحراك الشعبي الآن لرفض مناوراته الهادفة إلى البقاء في مواقعه، وأن الانتهاء بها إلى العشرية الدموية في مطلع التسعينات هو نتيجة طبيعية لفعل الالتفاف عليها”.
ولفت إلى أن أكتوبر الجزائري هو ربيع عربي مبكر، تحول في حراك فبراير إلى رصيد وخبرة يستلهم منهما، تحول إلى طابع سلمي للاحتجاجات الأسبوعية طيلة ثمانية أشهر، إلى إجماع على ضرورة التعايش بين جميع الجزائريين، وأن المشكلة لا تكمن في المؤسسات وإنما في المنظومة التي توظفها لخدمة أغراضها وأجندتها. ورغم أن الأمر يوحي بأن شيئا ما حدث داخل نفس المؤسسة لأن توالي الأجيال وتغير الذهنيات والعقيدة شكلا تحولا في ممارسات المؤسسة، إلا أن “ثورة الابتسامة” فرضت منطقها وسحبت ذرائع ممارسة العنف والقمع من المؤسسات الوصية، فخروج الأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة والمسنين للاحتجاج في الشوارع والساحات، لم يترك أي مجال لاستعمال القوة ضدهم وإلا تحول الأمر إلى فضيحة في جبين قيادة المؤسسة.
ويرى متابعون للشأن الجزائري، أن التغييرات التي جرت خلال السنوات الأخيرة داخل المؤسسة العسكرية، وإحكام نظام الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة قبضته عليها، لاسيما حل جهاز الاستخبارات وإقالة جنرالات وضباط كبار منذ العام 2013، ساهما في تراجع نفوذ العسكر عكس حقبة الثمانينات التي كان يهيمن فيها بشكل كبير على دواليب السلطة، ولذلك لم ترد القيادة الحالية بالمغامرة لقمع الحراك واتجهت إلى الاقتصاص من الجناح المدني في رئاسة الجمهورية.
التمسك بمطلب التغيير
رغم انسحاب الشتات الإسلامي من المظهر، حيث اختفى الخطاب الإسلامي والأيديولوجيا الدينية من احتجاجات الحراك الشعبي، كما اختفت باقي التيارات السياسية الأخرى التي كانت وراء توجيه مسار انتفاضة أكتوبر نحو بروز الجبهة الإسلامية للإنقاذ، إلا أن دخول شبكات التواصل الاجتماعي على الخط لعب دورا حاسما في كشف الاختراقات والتجاوزات ونشر الوعي وتسهيل الاتصال، طارحة بذلك نفسها إعلاما بديلا عن الإعلام الكلاسيكي الواقع تحت سطوة السلطة.
ويرى الباحث والمؤرخ محمد أرزقي فراد، أن القواسم المشتركة بين المحطتين تلتقي في تغييب الديمقراطية عن الممارسة اليومية، وهيمنة المظالم والتعسف والفساد وتعطيل طاقات الشباب وحرمانها من المشاركة في تسيير الشؤون العامة للوطن، فضلا عن دور انهيار أسعار النفط وتقلص مداخيل الدولة التي كانت تشتري بها السلم الاجتماعي، مما أدى إلى انفجار مشاكل اجتماعية حادة كانت بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير في أحداث أكتوبر، وأدّت إلى انتشار تململ كبير في الأوساط الشعبية بالنسبة إلى حراك فبراير.
الأحلام الوردية التي رسمها ضحايا ومناضلو أكتوبر وفبراير ما زالت بعيدة المنال، فبعد 31 عاما وجد الجزائريون أنفسهم في نفس المكان
وأضاف “إن الشباب العابر للأيديولوجيات هو المبادر إلى تفجير الأحداث قصد تحقيق تحوّل سياسيّ جذري ينجب دولة ديمقراطية”، في إشارة إلى الطابع الشعبي للانتفاضة والحراك، مقابل عجز الطبقة السياسية عن إحداث التغيير المنشود”. وأوضح الباحث أن “عوامل التمايز بين المحطتين، تتمثل في أن الأولى أفرزتها هيمنة الأحادية السياسية، التي لم تسمح بتأطير الشعب تأطيرا سياسيا واجتماعيا ومدنيا حقيقيا، يجعله يطالب بحقوقه في إطار القانون، لذلك كانت أحداث أكتوبر عنيفة صبّ فيها الشباب جام غضبه على المؤسسات الحكومية، وواجهته السلطة بعنف أشدّ وأنكى انجر عنه سقوط ضحايا كثيرون”. هذا ما يتماهى مع الظروف السياسية التي أحاطت بالعشريتين الأخيرتين في البلاد، التي كرست نظاما سياسيا أحاديا.
وأضاف فراد”بالنسبة إلى حراك فبراير، فقد سار في اتجاه النضال السلمي المنظم الذي جعله يتفادى الاصطدام مع قوات الأمن، مستفيدا من التجارب النضالية السابقة، كما استفاد أيضا من هامش الحرية على ضعفه، واستطاع أن يحوّل التذمّر الاجتماعي الشامل الذي مس قطاعات كثيرة، إلى حركة سياسية قـادها شبان، استفادوا من ثورة الاتصال العالمية”.
وخلص قائلا “يتميز حراك فبراير بالتواصل الأفقي بين شبابه (أي دون قيادة)، فها هو يدخل شهره الثامن دون أن يبدي علامات ضعف، لأنه مصر على الاستمرار في الضغط على السلطة القائمة إلى أن يتحقق التغيير السياسي الحقيقي الذي ينشده الشعب، لكنه لم يتمكن بعد من إنجاب دستوره كما انتفاضة أكتوبر، ولعله في طريق التحقيق”.