السعيد بوتفليقة حاكم فعلي للجزائر تطرح به الأقدار إلى السجن

رنّ جرس الباب. كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر صباحا. فتح الباب وظهر شخص بسحنة واهنة كان يبدو عليه الإرهاق والتعب كان كمن لم تأخذه سنة من النوم. “سي السعيد لدينا أوامر لكي ترافقنا”. ارتبك الرجل، فهذه المرة الثانية التي تظهر على ملامحه علامات الهلع والرعب. كان الأمر يشبه ذلك اليوم حين شاهد الملايين من المتظاهرين في الشوارع المصرية وهي تمزّق صور الرئيس المخلوع حسني مبارك وتدوس على صور ابنيه علاء وجمال، يذكر أحد الذين كانوا معه في تلك اللحظة “كان يتابع الحدث بصمت ثقيل كالرصاص. كنت أتخيّل أن ألف سؤال وسؤال يدور برأسه في تلك اللحظة. ماذا يمكن أن يحدث لو انتفض الشعب الجزائري كما يفعل الآن الشعب المصري؟ هل سيحدث لي ما أراه الآن أمام عينيّ. تغيّر لون وجهه واصفّر. طلب أن يُجري اتصالا. ولكنه أجرى 3 اتصالات بلا جدوى. بعدها أخذ معطفه وأدويته وركب برفقة ضباط من أمن الجيش.

اتجهوا إلى مبنى وزارة الدفاع، حيث قضى ليلته هناك قبل أن يتجهوا به إلى المحكمة العسكرية أين سيسجن بتهمة التآمر ضد سلطة الجيش والدولة. وهو يقبع هناك وحيدا في زنزانته، يقلّب الأمور ويعكسها وينظر إلى الجدران الضيقة والسماء التي لا تظهر علّها تأتيه بماء معين. لا أحد يعرف بمن اتصل في تلك اللحظة المغلفة والغامضة والمشحونة بتوتر عال وضغط رهيب، حيث لم يكن أحد يتوقع أن تأخذ الأمور هذا الشكل من التصعيد والرفض والقوة في الشارع الذي خرج منتفضا ضد ترشح أخيه عبدالعزيز للعهدة الخامسة.

سي السعيد الصغير، “المعلّم” أو “الباترون” أو “الزعيم” ذلك بعض ما كان يطلق عليه من أوصاف وصفات وألقاب لمن يعرفه عن قرب، ولمن يتواصل معه في السر والعلن. والفاسد والعرّاب ورئيس العصابة والحاكم الفعلي للجزائر وسارق ختم الجمهورية. وتلك صفاته الأخرى التي سترافقه إلى حيث هو الآن.

السيد 15 بالمئة

متواجد في كل مكان، متخفٍ أو من وراء الستار، بعيون عميقة تومئ بالإشارات، ينظم ويخطط ويرسم، فهو في كل محفل، في كل استقبال رسمي. الكل يبحث عن ظله وأمره. في كل اجتماع رفيع للدولة. من مكتبه المتواضع في البناية الفخمة للرئاسة. يدير كل شيء بالهاتف أو بوسائل أخرى، والأهم أنه كثّف حضوره في السنوات الأخيرة في الجنازات، كان ذلك بأوامر من أخيه الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة الذي أقعده المرض وجعله لا يقدر على التنقل إلى تلك الربوع، وهو الذي كان لا يضيّع فرصا مثل هذه وفاء للتقاليد والأعراف وحسن الجوار. لذا غدت جلّ صور السعيد المتداولة حتى الآن هي صورة ملتقطة في هذه المواعيد الحزينة حيث تراب القبور والدموع والحسرة والأحزان. يتركهم يأخذون صوره بشكل عفوي. يتواجد وسط الجموع. بين الرّسميين، المسؤولين، المواطنين العاديين.

قد يُرى بين أكتاف الجنرالات، وقد تلقاه وسط وزراء أو خلفهم أو يتقدمهم، لا تكاد تخطئه العين. الكلّ يتمنى أن يصادفه في منعرجات القبور والأضرحة. يكاد أصحاب الجنازة يُنسوا من شدة اهتمام الناس بالسعيد. ينظر إلى الجميع وينظر إليه الجميع. يتقربون إليه أو منه أو من بعيد. يبتسم لهذا، ويحيّي ذاك. تلتقط صوره بكثافة بالآلات المحترفة أو بالهواتف النقالة. عادة لا تظهر ابتسامته إلا نادرا في هذه الصور التي تنشر، فهو مهموم ومثقل على ظهره الأحمال والمسؤوليات العظام.

من نعِم السعيد أيضا أنه موجود في كل صفقة وفي كل مشروع كبير وضخم، كأنفاق المترو والمطارات والترامواي والحافلات ومصانع السيارات الفخمة والطرقات السيّارة، شرقا وغربا، حتى في المستوردات والصادرات.

كلمات الرئيس الراحل هواري بومدين لا تزال تتردد على مسامع الجزائريين، حين قال لوزير خارجيته آنذاك عبدالعزيز بوتفليقة إنه سيجعل من السعيد رجلا لامعا في المخابرات لما لمسه فيه من حدة الذكاء وصمت محير ومعبر

اسمه يرد همسا في الصالونات تحت شيفرة باتت معروفة للجميع “السيد 15 بالمئة”، كما قال عنه السفير الأسبق الفرنسي بالجزائر بيار باجولي في رواية، وهو يشير إلى النسبة التي كان يحصل عليها من المشاريع والصفقات التي كانت تمنح بقرار منه وهي نفس الروايات تقريبا التي كانت تتردد عن الجنرالات في عهود سابقة.

هكذا يتطاير السعيد ويحط في الأفواه وفي العيون. تركب مع سائق سيارة الأجرة فيخبرك أن هذا الفندق الضخم والجميل وراءه السعيد. هذه المباني المتكاثرة في أرقى أحياء العاصمة هي جزء من ثروته. هذه الأراضي الشاسعة والواسعة في الهضاب والوديان هي ملك يمينه. وعندما يصطدم أي مقاول أو أي صاحب ثروة بعراقيل تحول دون أن ينجز مشروعه فيكفي أن ينطق باسم السعيد أو يسرب في وسط الإدارة عن طريق إعلامية أو وسائط أخرى أو في دوائر ضيقة أن للسعيد يدا فيها، حتى تتحلحل الأمور وتنفرج.

أينما ولّيت وجهك وحيث ما وضعت أذنيك في المقاهي والكواليس والأمكنة وحتى في الكباريهات أين يتداول كم هائل مما يطبخ أو يتم طبخه من معلومات وأيضا من الصفقات ستجد السعيد، ستجده أيضا في التجمعات الصاخبة اليوم في الشوارع وفي غيرها من الأمكنة والأزمنة، ستصلك معلومات صحيحة أو خاطئة أو مفتريات أو من فتات القيل والقال عن حجم ما فعله السعيد بالبلاد والعباد، لن يكون بمقدور أي أحد أن يقتنع أن الرجل أبيض أو صفحة بيضاء.

الرجل فاحش الثراء قارون زمانه، وحش ومصاص الدماء و”كانيبال”، مضاف إلى سجله الخراب والمحسوبية والانتفاع والمحاباة ومنكرات أخرى تشيب لها الولدان والوالدون والبشر والحجر.

كنوز آل بوتفليقة

سر السعيد سيبقى مجهولا. فمن أين استقى هذا الجبروت والطغيان والتسلط؟ ومن وضع رجليه على طريق الجزائر وقد كانت تلملم الجراح والدماء بعد العشرية السوداء؟

جابت مصالح الأمن في عهد الجنرال القوي توفيق المسجون حاليا الجزائر غربا وشرقا وجنوبا وشمالا، دققوا في أدق التفاصيل حتى تلك التي بحجم خرمة إبرة، سألوا ونقبوا وفتحوا صناديق البنوك وكسروا الأقفال وفككوا الملفات ونقبوا المغارات بحثا عن كنوز آل بوتفليقة فلم يعثروا على شيء يذكر، هكذا انتهى التقرير بلا شيء وهو ما أسرّ به الجنرال توفيق إلى الجنرال نزار في جلسة خاصة.

فمن أين استقى السعيد هذا الجبروت والطغيان والتسلط؟ كيف لرجل بسيط لا يعرف حتى كيف ينسق ملابسه وكأنه لم ينشأ في العز والرضا. كيف أمكن أن تكون له كل هذه القوة والذكاء والدهاء والمكر والحيلة؟ من وضع رجليه على طريق الجزائر وقد كانت تلملم الجراح والدماء؟ من أدخله إلى قصور الحكم ودسه في الزوايا ومنعطفات النظام والملك ليغدو فجأة هو من تسعى إليه الأقدام وتشرئبّ له الأعناق وتنتظر منه البركة؟ كيف دانت له الرقاب من بعيد وهللت بأنفاسه ولفتته؟

لا أحد يعرف. سيبقى هذا من الأسرار التي ستلعب وستمدد في رأس التاريخ والحياة والواقع.. ربما كان لأخيه المعزول اليوم عبدالعزيز دور حاسم في وضعه في هذا المكان. فقد كان السعيد ظله الذي يتبعه أين ما حل وارتحل أو قذفت به الأقدار. علبته السوداء كما يحلو للمحللين والفقهاء والخبراء نعت الأمر.

ربما كان لمحيط العائلة والتربية الفعالة للأم التي توصف بالقسوة والشدة والصرامة الدور الكبير في التقويم وضبط مسار العائلة الذي ما زال الغموض يغلف مساماتها وجذورها وسلالتها رغم ما كتب ودوّن عنها. ربما كانت الشروط التي عاشت فيها العائلة هي السبب في كل هذا حيث لم تعرف الاستقرار ولا الطمأنينة خاصة بعد ما لاحقت عبدالعزيز تهم الاختلاس والسرقة وهي كانت ضربة قاصمة لم يعان منها هو فقط، بل جرّت كل العائلة إلى المستنقع تتخبط فيه بأمل النجاة منه، لذا حرصت ككل أمّ على التصدي والوقوف في وجه هذه المحن، وقامت بإبعاد السعيد إلى فرنسا حيث تابع دراسته هناك بعيدا عن الضغط الذي عصف بالعائلة.

درس السعيد الذي ولد عام 1957 وهو الابن الأصغر لعائلة تتكون من 5 أفراد، في جامعة كانت بؤرة للحركات الطلابية والنقابية كانت المكان المفضل لليساريين والشيوعيين، وكمثلهم ربما كان يحلم بمجتمع لا سلطة فيه ولا كلمة فيه إلا للشعب، وحيث لن يظلم أحد. الثروة للجميع توزع بإنصاف وعدالة ودون تمييز.

كانت له جولات نضالية باهتة يقول بعض من عرفوه في الجامعة. انتمى إلى اليسار أو أصبح شيوعيا، موضة ذلك العصر وتلك الأوقات الحالمة والطوباوية، ولكنه كان خجولا ولا يحبّ الأضواء. يحب العمل في الظلام وهي عبارة تعني وراء الستار حيث تدار لعب أخرى أكثر نفعا ونفوذا. قال الرئيس الراحل هواري بومدين لأخيه عبدالعزيز لما كان وزيرا للخارجية إنه سيجعل من السعيد رجلا لامعا في المخابرات، لما لمسه فيه من حدة الذكاء وصمت محيّر ومعبر، ولكن أمنية بومدين لم تتحقق، ولازم السعيد أخاه عبدالعزيز ورافقه في بعض أسفاره خارج الوطن حين كان وزيرا للخارجية.

هناك خبر الوجوه والتجارب والعمل السياسي والدبلوماسي وبلغة أخرى فهم كيف تدار الأمم والشعوب وبأي أدوات؟ كان عينا لاقطة، وأذنا مصغية، وعقلا منفتحا يستوعب ويتعلم ويستنتج وينتج بسهولة الفعل ورد الفعل مهما كانت الدروس والحكايا والمواضيع، وهي خبرة مكنته وأهلته للحصول على دكتوراه في الذكاء الاصطناعي.

بين الحكمة والدهاء

خلق مساحة واسعة لنفسه في سرايا الحكم بعد أن أصبح عبدالعزيز بوتفليقة رئيسا للبلاد، فقد كان هذا الأخير لا يثق في أحد، خاصة بعد أن طعنه في الظهر، كما قيل، أقرب مقربيه آنذاك علي بن فليس، حين ترشح ضده عام 2014.

عيّن الرئيس السعيد مستشاره الخاص وهي وظيفة خالية من الامتيازات والحوافز بالمعنى المعروف عنها، ولكن الأخير عرف كيف يحيطها بهالة كبيرة من النفوذ والسيطرة المطلقة على دواليب النظام. فقام بترتيب كل البيت من جديد بصبر وأناة وحكمة ودهاء.

وكانت الخطوة الأولى تقريبه لأصحاب المال من دوائر القرار، وكان أول المنتفعين الإخوة كونيناف المسجونين اليوم. وكونيناف الأب هو صديق حميم للرئيس عبدالعزيز، كانت بينهما علاقة طويلة منذ الشباب وعندما دارت الدوائر على هذا الأخير لم يجد من يعيله إلا صديقه كونيناف، فأغدق عليه الكثير وساهم في حملاته الانتخابية. ولكن خلافات عميقة دبّت بين الرجلين لا يعرف أحد أسبابها الحقيقية، وحاول كونيناف معرفة الأسباب دون جدوى وظل بوتفليقة على عناده حتى بعد أن تدخل أحد أهم رجالات الدولة الجزائرية وقد كان سفيرا للجزائر في عدد من عواصم العالم وعضوا فاعلا في أعرق حزب سياسي في الجزائر، ولكنه رفض حتى الاتصال به عندما مرض إلى أن توفي، عندها كسّر بوتفليقة الحاجز وعزّى العائلة وأبناء كونيناف، وفي لفتة أعطى إشارات خاصة للسعيد كي يكون دوما بجانبهم، ومن ثم بدأت هذه العلاقات التي تربّت في الأسرار والغموض، وتوارت خلف الجدران لا يعرف مداها أحد، وهنا حدث ذلك التحول والتغير وطرح السؤال: كيف تحول السعيد من شيوعي إلى محب للإقطاعيين وأصحاب المال؟ هل تم الأمر بين ليلة وضحاها؟ أم أن ما كان يؤمن به من قيم اليسار لم تكن سوى ملهاة ومضيعة للوقت أمام سكرات وبريق الذّهب؟

اسم السعيد موجود في كل صفقة وفي كل مشروع كبير وضخم، كأنفاق المترو والمطارات والترامواي والحافلات ومصانع السيارات الفخمة والطرقات السيّارة، شرقا وغربا، حتى في المستوردات والصادرات

لا يعرف الكثير عن السعيد سوى ما يقال هنا وهناك أو يرشح من معلومات شحيحة عما كان يفعله في الرئاسة بعد تواري أخيه عن الأنظار مريضا وعلى عتبة الوهن والموت وأصبح كالشبح، قيل إنه كان يتجول حاملا ختم الرئيس يعيّن من يشاء ويعزل من يشاء، وهي صورة تبدو كاريكاتورية ومضحكة وهزلية، فيكف لدولة كاملة بمختلف أجهزتها ورجالاتها تسمح لشخص مهما كانت رتبته ونفوذه أن يلعب بختم رسمي ومقدس هكذا أمام الملأ وفي وضح النهار.. طبعا تضخيم هذا الأمر هو جزء من لعبة كبيرة متخفّية وضعت الدولة كلها في قلب أزمة معقدة ستترك بصماتها لسنوات طويلة في ذاكرة الوطن الكسير اليوم بسبب غياب رمز يلتف حوله الكل.

من بين المواقف اللافتة للسعيد والتي لم تكن واردة في مفكرة أحد، دعمه شخصيا للروائي رشيد بوجدرة عندما تعرض إلى إهانة علنية من طرف إحدى القنوات الخاصة حين نزل السعيد بنفسه إلى الشارع المنتفض ضدها، وقدم كامل دعمه ووقوفه إلى جانب بوجدرة، صديقه، في لفتة أسالت اللغط والجدل خاصة أن هذه القناة، كما قيل، كانت تَأتمر بهاتفه وتطيعه في السراء والضراء.

المتقشف الغامض

اسم السعيد موجود في كل صفقة وفي كل مشروع كبير وضخم، كأنفاق المترو والمطارات والترامواي والحافلات ومصانع السيارات الفخمة والطرقات السيّارة، شرقا وغربا، حتى في المستوردات والصادرات

لم يغيّر السعيد سيارته في جل تنقلاته، وهي سيارة قديمة من طراز أواسط الثمانينات، فرغم أن بين يديه ترسانة من أفخم السيارات الرئاسية إلا أنه بقي يجول ويصول في العاصمة وتقريبا دون حراسة واضحة بنفس سيارته الشاهدة على كل شيء، فهو كما يروي الكثيرون ممن تقاطعوا معه في الطرقات لا يجري بسرعة كبيرة، ولا يتجاوز الإشارات المرورية، ويمر أمام الحواجز المنصوبة كأيها مواطن عادي، حتى لما تعطلت سيارته فضّل أن يقود سيارة أخرى مستعملة.

هل كان كل ما سبق مجرد تمويه وتغليط وتورية لمعدنه المخيف المتسلط أم أن الأمر برمته عفوي وصادق وحقيقي وكل ما توارد عنه تضخيم عمد إليه مقربوه أو أصدقاؤه أو حواريوه كي يظلوا أول وآخر المستفردين والمستفيدين، ولأن لمعان السلطة والكرسي والحكم والنفوذ قد يغري ويضبب الرؤية فليس من المستبعد إطلاقا أن يكون السعيد قد ساهم في خلق هذا الوجه العبوس القمطرير المتواري خلف الحجب، وذاق حلاوة أن يكون منبع كل الكلام والأفعال والأنظار.

سينطق أو سيسكت السعيد أثناء محاكمته، سيان عنده الأمر فقد عرف اليوم حجمه. دخل تاريخا مزيّفا صنعه بأيدٍ فاسدة وحقودة على الجزائر بوعي أو بغيره. لكن المحكمة العسكرية لم تجعله ينتظر طويلا، فقد قضت عليه قبل أيام بالسجن لـ15 عاما بتهمة التآمر ضد سلطة الدولة والجيش. وهو اليوم وحيد في زنزانته يلوك مصيرا مرّا ربما كان يراه أمام ناظريه في كل لحظة مضت وهو يدفع بكرسي أخيه الرئيس الذي بات خاليا اليوم.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: