الجنرال خالد نزار مفجّر العشرية السوداء في الجزائر مطاردا
لأنه الرجل القوي والنافذ والمسيطر وصاحب المُلك، كان له ما يشاء، كان له أن يعزل وأن يعيّن وأن يقتل ويحيي ويميت وبيده العصا والجزرة. كان له زبانيته التي لا تقهر وساسته ومحاموه وعسكريوه وإعلاميوه. كان ذا شأن عظيم في سدة الحكم والقرار، بل هو الحكم والقرار، لا تُردّ كلمته ولا ينظر إليه.
كان طويلا جدا وذا جسد اسبرطي، وكان عسكرياً من طراز عالي التكوين والتدريب والمناورة والتكتيك واختيار الحسبة كي يهاجم أو يهادن. يخيف ويرعب، لا تعرف من أين تنبع ضحكته المجلجلة. يلثغ لما يتكلم.. طبعا يخطئ في النطق بالعربية الفصحى حتى ولو كتبت له بأحرف كبيرة، ولكن فرنسيته صافية لا عيوب فيها، ضحكته مجلجلة. يقول من يعرفه إنه “ينوّمك في العسل ويقدمه لك صافيا ومقطرا كي تطمئن وتنام، وأنت لا تدري أنه أعطاك سمّا قاتلا يتغلغل ببطء في جسدك وعقلك”.
منقذ الجزائر
الجنرال خالد نزار قارئ مولع بالتاريخ والمذكرات السياسة والعسكرية، ربما فيه شيء من جنرال غارسيا ماركيز حيث لم يفارق اهتمامه بالجيش عقله حتى بعد أن تقاعد، فانبرى يواجه من أساء لهذا الأخير، مواجها من فروا إلى الخارج وكتبوا المثالب والمساوئ عن زمرة الجنرالات في المحاكم الباريسية. ولعل أشهرها تلك التي وقف فيها مدافعا ومتلقيا النقد الجارح الذي نشره الجندي الجزائري لحبيب سوايدية في كتابه “الحرب القذرة” الصادر سنة 2001.
نزار أو “جزار” ذلك التلاعب بالألفاظ الذي يحسن الجزائري صناعته كي يمعن في إطلاق نكاته أو تذمره أو سخطه أو نيران غصبه لكل ما يرمز إلى النظام المتخفي أو العلني الذي يتحكم في رقبته، هي إحدى الصفات الشنيعة التي أطلقت على الجنرال في السر والعلن وفي المحافل وفي المظاهرات والمحاكمات والكتابات والخطابات الدينية.
كانت كلها تشير إلى مسؤوليته الواضحة في سلسلة القتل والمذابح والمجازر التي ضربت الجزائر في تسعينات القرن الماضي، وهي إشارات يقول الكثيرون إنها موثقة ومدونة، ويقول آخرون إنها ملفّقة وغير صحيحة ومتلاعب بها.
وطيلة سنوات ما زلت هذه الإشارات تضلّل أفق الجنرال وتتبعه في كل خطواته ومتاهاته وفي كل مكان يذهب إليه أو حتى حين يصرح أو كان يلتقي بعموم الصحافة في لقاءات وندوات، كانت تعتبر آنذاك ضربا من المستحيل، لأن عقيدة العسكري تحتّم عليه، كما هو معروف، عدم الخروج للعلن بل أن يتكلم ويحاجج ويدافع ويواجه ويطرح أفكاره، وهذه كانت بمثابة ضربة معلّم لا يحسنها إلا الجنرال ولم يجرأ أي جنرال آخر عدا في مناسبات خاصة ونقصد بها الخطب المكتوبة التي يلقيها اليوم الفريق قايد صالح، وقد بقيت خرجات الجنرال نزار دوما عالقة بمساره وفي مخيّلة الجزائري.
قيل ونشر ودوّن الكثير عن المسار الحياتي والعملي والمهني للجنرال. كيف تضع الأقدار رجالا في المقدمة وكيف تصنع بهم التاريخ سواء أكان تاريخا ناصعا أم دمويا أم مزيفا. فلنقرأ ما كتبه الجنرال عن نفسه “كان في عمري ثماني سنوات لما دخلت المدرسة الفرنسية، وكانت مدرسة أطفال الأهالي تقع بأعالي القرية ويطلق عليها بالمدرسة الفقانيّة. وكنا نحن أطفال الأهالي نتميّز برؤوسنا المحلقة صلعاءَ تجنبا لعدوى القمل. وحتى يعبّروا عن تقديرهم التافه لنا، أدرج الفرنسيون في البرنامج المدرسي كتابا للقراءة يلخصُّ في عديد من الدروس سعادة وشقاء الشاب عبدالله. أما الاسم فلم يتم اختياره هكذا على الصدفة، فكلمة (عَبْدٌ) مأخوذة من العبودية والانقياد والذلّ؛ والله هو الربّ والإله المعبود. وعَبْدُ اللهِ هو إذًا مخلوقُ الله الصابرُ الخاضعُ المنقادُ المستسلمُ للمشيئة الإلهية راضيا بقضاء الله وقدره فيما يجري في هذا العالم وبالوضع الذي هو عليه، عالمٍ يخضع فيه الضعيفُ لقانون القوي لأنها مشيئة الله”.
عالم الحيل والخدع
يقول نزار “كان أول خروج لي في مخيم صيفي سنة 1951 إلى فرنسا، وكانت هذه الزيارة بالنسبة لي مناسبة لأدرك أنه لم يكن للقليعة، غاية أخرى سوى إعطاء تكوين محدود يناسب الجنود المأمورين الثانويين المستقبليين. وكل شيء تم تدبيره بالقليعة حتى لا نتجاوز أبدا رتبة صف ضابط، وكانت إدارة المدرسة تعتمد كل الحيل والخدع لتعطيل مسارنا التكويني، بحيث تلزمنا على إعادة السنة لسبب أو لآخر. لكن المدارس الجُندية بفرنسا كانت تضمن تكوينا يحضّر طلابها للدخول إلى المدارس العسكرية الكبرى”.
ويضيف “ومع الوقت وازدياد نضجنا وتقدّمنا في سن الشباب، زاد وعينا بحالتنا كمستعمَرين. وقد صادف عامي الأول بالمدرسة اندلاع ثورة التحرير الوطني، وكنا أغلبيتنا نتكلم عن هذا الحدث العظيم”.
ظل العديد من الشبهات يتعقب ماضي نزار خاصة التحاقه بما يعرف بـ”دفعة لاكوست”، أي روبرت لاكوست السياسي والنقابي الفرنسي المعروف خاصة بكونه الحاكم العام للجزائر في حكومـات غي مولي، موريس بورجيس مونوري وفيلكس غايارا من فيفري 1956 حتى مايو 1958، والتي ما زال الغموض والأسرار والظلال تلف بها.
وما يعرفه الجزائريون هو تصريح الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد عن تلك الدفعة وعن أنها جاءت لاختراق جيش التحرير، وهو يقصد الضباط الهاربين من الجيش الفرنسي والذين تجندوا في الثورة في وقت متأخر، وكان من بينهم نزار.
يشرح هذا الأخير الظروف التي أحاطت بالأمر على النحو التالي “لبست الزيّ العسكري بمدرسة ستراسبورغ وأنا في عمري سبع عشرة سنة ونصف، في حين أن القانون الذي كان ساريا وقتها لم يكن يسمح إلا ببلوغ الشاب سنّ الثامنة عشر كاملة، فقد استفدت إذًا مثل رفاقي من (ترقية لاكوست)”. وبهذا السّخاء كان هذا الأخير يعترف أن الجزائريين بكل طبقاتهم وفئاتهم الاجتماعية والمهنية سواء أكانوا في الجيش الفرنسي أم في الإدارة، كانوا ضحية للتمييز والتفرقة وأن ترقياتهم التي كانوا يستحقّونها تم تعطيلها رغم حسن أدائهم للخدمة.
وكان لاكوست يظنّ أن “كرمه” هذا بإمكانه أن ينزف المشاعرَ ويعزّي النفوسَ ويداوي الجراحَ؛ وكان يبدو أنه لم يفهم شيئا، فالجزائريون لم يعودوا ليكافحوا من أجل المساواة في الفرص وإنما من أجل حرّيتهم. فقد كانت جرائم مايو 1945 في الشمال القسنطيني التي ارتكبتها الميليشيات المجرمة بتدعيم من الإدارة المحلية المتمرّدة على القوانين بحجّة استباق ودحض الخطر الوطني، بمثابة الهزيمة لشعارات ثورة 1789 التي كلفت أصحابها الكثير من التضحيات من أجل إعلائها.
وأدت عمليات القتل هذه الجماعية المعترف بها من قبل فاعليها إلى قطع الرباط الذي نسجته بصبر طويل بين الشعبين المدرسةُ الفرنسية الجمهورية ذات النزعة الإنسانية التي أنست أصحاب الأرض الأصليين، الذين تم تطويرُهم، بفعل اجترار مرارا المبادئ النبيلة الكبرى، جرائمَ الغزو وما تلاه من تخريب وتدمير وإهانة. وكشفت المقابر الجماعية بـﭬـالمة وسطيف لجيل بأكمله من الجزائريين معنى ما كان يعطيه منظّرو الاستعمار وأتباعُهم لـ”الحرية” و”المساواة”.
انضم العديد من عائلته، من بين عمّ أو خال، إلى صفوف جيش التحرير الوطني، وبالطبع تَبع نزار درب هؤلاء، وتم إرساله إلى تونس. ثم عُيّن مكوّنا ومدرّبا بمنطقة الكَاف المحاذية للحدود الجزائرية. وأنشأ كريم بلقاسم “المكتب التقني” زوّده بنخبة الكفاءات العسكرية الجزائرية خاصة الضباط الفارين من الجيش الفرنسي والمتكونين من مدارس الحرب بالشرق الأوسط، ووجد خالد نزار مكانته مباشرة في هذا التنظيم، حيث سيقدم كل ما تعلمه واختبره وعايشه.
مجاورة وأسرار
حين غادر سدة الحكم في مفصل تاريخي معقد دموي لم تخرج منه الجزائر إلا منهكة ومعدمة ودون ملامح واضحة للاستقرار، وضع تراجيدي فتّت الإنسان الجزائري وماتت فيه الكثير من القيم والأرواح، غادرها وقد ترسخت في نفسه مقولة “أنا من أنقذ الجزائر” من شرائر الإسلاميين الذي كانوا قاب قوسين أو أدنى من الحكم.
يروي الجزائريون توقيت تلك اللحظة الغامضة من تاريخ الجزائر، وكيف عايشها الجنرال؟ فيقول بعضهم “مرات كنا نبحث عنه ليلا ولا نجده. كان الخوف والموت يهيمنان على الجزائر. كنا نقيم في إحدى الفيلات القريبة من مبنى وزارة الدفاع. بحثنا عنه في كل مكان بداخلها. انتابنا الرعب من أن يكون قد قتل في غفلة منا أو أختطف. ولما بحثنا خارج الفيلا، وجدناه يسير ببطء متكئاً على عصاه صاعدا في طريقه إلى المقر. لم تكن الأمور سهلة ولا بالهيّنة. الله وحده يعلم كم دخّن في تلك الفترة العصيبة من سجائر”.
هذا القرار الأخطر في تاريخ الجزائر الذي اتخذته القيادة العسكرية ما كان له أن ينفذ إلا بأمر واحد صدر من الجنرال. فهو يعلم بحكم موقعه الأقرب مما يحدث بما يمتلكه من معلومات غزيرة كثيفة تأتي من كل صوب وحدب، أن هذا القرار هو الأصوب والأدق والصحيح والنهائي. يقول الجنرال في واحد من أقوى حواراته “أنا من قرر وقف المسار الانتخابي، ورفضت كل الحلول التي عرضت علي أو سمعتها، انطلاقا من قناعة ترسّخت لدي أنه لا جدوى من الحوار مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ”.
الجنرال خالد نزار قارئ مولع بالتاريخ والمذكرات السياسة والعسكرية، ربما فيه شيء من جنرال غارسيا ماركيز حيث لم يفارق اهتمامه بالجيش عقله حتى بعد أن تقاعد. وانبرى يواجه من أساء لهذا الأخير
يقع مكان إقامة الجنرال في منطقة شهيرة في الجزائر كونها غنية وتحوي السفارات وفيلات كبار بعض مسؤولي الدولة، وهي فيلا تحاذي فيلا الرجل القوي الآخر القابع في السجن اليوم الفريق محمد مدين الشهير بـ”توفيق”. مكان مغلف بالأسرار ومعتم وممنوع الدخول إليه.
هناك كان يقيم مع أبنائه. يستقبل ضيوفه وأصدقاءه من الجنرالات المتقاعدين، وأحبابه وبعض الساسة، وبعض الوزراء حتى أنه استقبل مرة أو اثنتين رئيس الحكومة الأسبق المسجون حاليا عبدالملاك سلال. ربما كانت الزيارة سرية أو مرتّب لها. كان مبعوثا من طرف سعيد شقيق الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة لجس نبضه في مسألة الترشح للعهدة الرابعة. كان يعرف الخبايا والمنعطفات وأشد الأسرار خفاء. لذا كان الجميع يحجون إليه يستبركون رأيه ويستشيرونه ويعطي الرأي والمشاورة ومرات الأمر.
تقول المصادر إنه أشار على الفريق توفيق بالتنحي والركون إلى الراحة، وقال له “عشرون سنة كثيرة على عقلك وعلى أهلك” كان ذلك بمناسبة زواج ابنة الأخير. وتضيف المصادر أن نزار هو الذي كسر ذلك الستار الحديدي الذي ضرب على صورة الفريق توفيق التي لا يعرفها أحد حتى ذلك الوقت، فكان أول من نشر صورته في الكتاب الذي يروي فيه جزء من مذكراته، وهي صورة أخذت غداة إقالة أو استقالة الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد.
دهاليز العسكر
تدخل مرارا وتكرارا من أجل أن يكتب الفريق توفيق شيئا ما جرّاء ما كان يتعرض له، وكان أول تصريح مكتوب ينشره هذا الأخير في الصحافة الجزائرية بمناسبة اعتقال أحد أهم مقربيه الجنرال حسان المسجون حاليا. وقد أخذ الفريق توفيق وقتا طويلا في التفكير، وبرغم أنه يسكن قرب نزار إلا أنه أرسل إليه مغلفا مختوما وملفوفا بشكل قوي ومتينا ومكتوبا عليه عبارة “سري للغاية”، وهو ما اعتبره نزار وفاء لتقليد النظام السري العسكري الذي عاش فيه الفريق توفيق، بل طلب منه صورة حديثة له غير تلك التي يعرف بها، فما كان له إلا أن أرسل له صورة مستنسخة من الإنترنت.
عادة ما يظن الكثير من الجزائريين أن الجنرالات يأكلون ما لذّ وطاب حتى أن صورة الخرفان المشوية تلازم مخيلتهم حين يحاولون التفكير في ما يأكله هؤلاء. إلا أن ما يعرف عن الجنرال خالد هو ولعه بالعدس والحبوب الجافة.. فيذكر أحد الإعلاميين الذين اشتغلوا معه في تحرير مذكراته، أنه في وقت الغذاء والاستراحة من الكتابة كان يتخيل أن يدعوه إلى وليمة ملكية وعندما أخذه إلى المطبخ وجد قدرا مملوءا بالعدس.
مع كل هذا التاريخ الحافل لم يهدأ الجنرال خالد نزار. قدره تأرجح مرة أخرى ووضَعه في قلب معركة أخرى يقودها هذه المرة من خارج الوطن حيث فضل المكوث بين باريس وإسبانيا وهو الذي كان يحرص دوما على مواجهة الخطر القادم من خارج الوطن سواء بتصريحاته أو كتاباته حتى أنه أسس لنفسه موقعا خاصاً، أسند إدارته إلى ابنه لطفي المقيم هناك أيضا والمطلوب من طرف العدالة العسكرية. هذا الموقع الذي كرسه للدفاع عن الجزائر والكشف عن مخططات تأتي من أمكنة خارج الوطن لا أحد يعلم لمَ اختار هذا المنحى في آخر مشواره في الحياة؟
العارفون يقولون إنه يريد السلطة مرة أخرى يبحث عن ذرائع للوصول إليها.. فيما يرفض آخرون هذا الطرح، فهو المنبوذ وغير المرغوب فيه داخل الوطن بل هو أدنى من المحاكمة العالمية التي تنتظره بسبب ضلوعه في جرائم ضد الإنسانية. التهمة التي لطالما ساعد الرئيس السابق بوتفليقة في كبح جماحها ووقف ضدها وتحدى المحاكم العالمية التي كانت تخرج هذه الورقة الضاغطة على الجيش والدولة، والكل يتذكر كيف أنقذ الجنرال لحظة القبض عليه من طرف العدالة السويسرية وتصدى للأمر، وأعطى تعليمات للأجهزة لتعيده إلى أرض الوطن وسُخرت له الطائرة الرئاسية لذلك في لفتة حرص على إثرها الرئيس بالقول إن هناك دولة تحمي رجالاتها في أي مكان ومن أيّ كان عسكريين خاصة أو مدنيين، تلك التهمة التي لا يحب أحد أن يسمعها أو حتى يعرف أنها موجودة وهو شأن الجنرال خالد نزار الذي يعرف أن أي خطأ استراتيجي في التقدير والنظر قد يكلفه الكثير خاصة مع ما تبقى من حياته، وليس هو من سيدفع الثمن بل الدولة الجزائرية كاملة حيث الوضع هش ولا يحتمل المزيد من الضرب والحفر.
لذلك لا يمكن فهم خرجة الجنرال مؤخرا إلا إذا نظرنا وقرأنا بتمعّن وجيدا مساره وتاريخه الملتبس والمتلبس بالأحداث العظام التي مرت بها الجزائر هو وغيره ممن وجدوا أنفسهم في معمعة السلطة عسكراً وساسة. قراءة قد تمكن من تفادي الزلل والوقوع في ردود الأفعال التي تؤدي إلى مصير يطرق أبواب مجاهيل لا يعلمها إلا الله، تلك القراءة المنفلتة من المتربصين وعباقرة الدسائس والمؤامرات، وهو ما يعرفه الجنرال خالد نزار.