ضبابية المشهد الانتخابي التونسي تُبقي الباب مفتوحا على كل الاحتمالات
أدلى الناخبون التونسيون بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية المُبكرة، في ظروف طبيعية، لم تُعكر صفوها الإجراءات الأمنية المُشددة، التي أملتها طبيعة المشهد السياسي الراهن الذي تتنازعه تحديات كثيرة ساهمت فيها ضبابية المشهد التي جعلت التكهن بنتيجة الدور الأول من هذا الاستحقاق الرئاسي صعبا للغاية.
وتبدو هذه الانتخابات الثانية من نوعها التي تعرفها تونس منذ العام 2014، مفتوحة على كل الاحتمالات، حيث اختلفت توقعات المراقبين، وتباينت في سابقة لم تعرفها تونس من قبل، حيث طرح التنافس الانتخابي الراهن، معادلة جديدة كسرت ما كان سائدا، حتى بات التونسي لا يعرف رئيسه القادم إلا بعد انتهاء عمليات الاقتراع.
وكانت مراكز الاقتراع قد فتحت أبوابها في الساعة الثامنة صباحا بالتوقيت المحلي، حيث اصطف العشرات من الناخبين في طوابير أمام مراكز التصويت للإدلاء بأصواتهم لاختيار رئيسهم الجديد خلفا للرئيس الباجي قائد السبسي الذي تُوفي في 25 يوليو الماضي.
ويبلغ إجمال عدد الذين يحق لهم التصويت في هذه الانتخابات 7 ملايين و74 ألفا و566 ناخبا، بحسب بيانات الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي أشارت إلى أن عدد الناخبين المُسجلين داخل تونس يبلغ 6 ملايين و688 ألفا و513 ناخبا، وأن عدد الناخبين المسجلين بالخارج يبلغ 386 ألفا و53 ناخبا.
وتنافس في هذه الانتخابات المُبكرة 24 مُرشحا، بعد انسحاب المُرشحين محسن مرزوق، رئيس حركة مشروع تونس، وسليم الرياحي، رئيس حركة الوطن الجديد، من هذا السباق الرئاسي لصالح المُرشح عبدالكريم الزبيدي، وذلك قبل ساعات من بدء الصمت الانتخابي.
ويُعتبر رئيس الحكومة يوسف الشاهد، ووزير الدفاع المُستقيل عبدالكريم الزبيدي، وعبدالفتاح مورو نائب رئيس حركة النهضة الإسلامية، ونبيل القروي رئيس حزب “قلب تونس”، وقيس سعيد أستاذ القانون الدستوري، وعبير موسي رئيسة الحزب الدستوري الحر، من أبرز المرشحين في هذا السباق نحو قصر قرطاج الرئاسي.
وجرت عمليات الاقتراع هذه وسط إجراءات أمنية مُشددة، حيث حشدت السلطات التونسية أكثر من 70 ألف رجل أمن، و30 ألف عسكري، لتأمين هذه الانتخابات تم تقسيمهم وتوزيعهم على مجموعات في كامل تراب البلاد، لتأمين عمليات الاقتراع، والفرز، وكذلك حماية الشخصيات، والضيوف، والصحافيين والمراقبين وكافة المُرشحين.
ويشرف على الانتخابات الآلاف من المراقبين، بمن فيهم مكلفون من قبل هيئة الانتخابات بالإضافة إلى منظمات غير حكومية ونقابية تونسية وأجنبية، منها الاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية) والاتحاد الأوروبي ومركز “كارتر”.
ولاحظ عدد من مراسلي وكالات الأنباء خلال زيارتهم إلى بعض مراكز الاقتراع صباح الأحد، تواجدا كثيفا للمتقدّمين بالعمر في مقابل عدد قليل من الشباب، بالرغم من أنّ مشاركتهم ستمثّل عاملا حاسما في الاقتراع.
وفي مبادرة لتشجيع الشباب على الانتخاب، عرضت حانات في منطقة قمرت بالضاحية الشمالية للعاصمة، تقديم زجاجات البيرة بنصف سعرها لكل من يأتي ويظهر أصبعه ملونة بالحبر للتأكيد على مشاركته في الاقتراع.
وخلت عمليات التصويت خلال ساعاتها الأولى، من أي مشاكل أمنية، غير أن الإعلان عن وفاة شاذلية السبسي، أرملة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، قبل دقائق من فتح مراكز الاقتراع، ألقت بظلال حزينة على سير هذه العمليات وسط العاصمة وبقية المدن التونسية.
ولم يستبعد المراقبون أن تكون لهذه الوفاة انعكاسات على اختيارات الناخب التونسي، لاسيما لجهة المُرشح عبدالكريم الزبيدي الذي يُوصف لدى مناصريه بأنه خليفة الراحل الباجي قائد السبسي، ومع ذلك، أظهرت كافة المعطيات المُتعلقة بسير عملية التصويت أنها تنحو باتجاه التأكيد على أن التنافس بدا حادا بين المُرشحين الستة المذكورين.
ولا يُنتظر أن يتم حسم هذا السباق الرئاسي خلال الدورة الأولى، حيث تجزم مختلف المقاربات بأن البلاد تسير نحو دورة ثانية سيتنافس فيها مرشحان يحملان مشاريع سياسية مُختلفة ترنو إلى وضع تونس على خارطة جديدة، خاصة وأن هذا الاستحقاق الرئاسي ستليه انتخابات تشريعية يُنتظر أن تنسف التوازنات التي سادت في البلاد خلال السنوات الخمس الماضية.
وفي خضم هذه العملية الانتخابية، يتوجس المراقبون من حدوث مفاجآت صاخبة من شأنها تغيير موازين القوى، بما يفتح الباب أمام جبهات جديدة من التجاذبات السياسية سيكون من الصعب معرفة مآلاتها بالنظر إلى طبيعة المشهد العام في البلاد الذي يعاني من التشتت والتشرذم.
وترافق ذلك التوجس مع خشية مشروعة من تدني نسبة المشاركة في هذا الاستحقاق الانتخابي بسبب شبح العزوف لدى الشباب الذي لم تُفلح الحملات الانتخابية في تفكيك عناصره، بالنظر إلى محدودية الخيارات المطروحة في هذه المرحلة التي تبدو الأخطر بالنسبة إلى التجربة الديمقراطية التونسية.
وأعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عن تسجيل نسبة 16.31 بالمئة للمقترعين حتى الساعة الواحدة ظهرا بالتوقيت المحلي قبل خمس ساعات من إغلاق الصناديق.
وليست الخشية من تدني نسبة المشاركة وحدها التي تُقلق الفاعلين السياسيين في البلاد، بل تضاف إليها خشية أخرى هي الأصعب في سياق هذا المشهد، وتتعلق بإمكانية وصول أحد المُرشحين الشعبويين إلى كرسي الرئاسة في البلاد، ما يعني انتكاسة المسار الانتقالي، وتبديد التطلعات إلى وضع البلاد على السكة الصحيحة بعيدا عن “الشعبوية” و”الثورجية”.
وتختلف المقاربات التي تُحاول تقديم قراءة لآفاق هذه الخشية في مرحلة ما بعد الانتخابات، لكنها تكاد تُجمع على الإقرار بأنها ظاهرة باتت تفرض نفسها بمساحات واسعة، حتى تحولت إلى موضوع ساخن تتمحور حوله النقاشات التي تحاكي أبعادها، وترسم من خلالها صورة لمستقبل البلاد، وتوازناتها السياسية، والاصطفافات الحزبية التي قد تسفر عنها.
لكن ذلك، لا يمنع من القول إن الحسابات المُرتبطة بهذا الاستحقاق ما زالت مُتغيرة، وحمالة لأوجه عديدة، لاسيما وأنه من المُبكر الجزم بالمآلات الأساسية التي ستُفضي إليها هذه الانتخابات التي تكتسي أهمية بالغة بالنسبة للحالة التونسية التي ما زالت تبحث عن رجل دولة يحدث الفرق إلى حدود الرهان عليه.