الرهان على الانتخابات الرئاسية قفز على حقيقة الأزمة الجزائرية
لماذا كل هذا الإلحاح لتسويغ الإسراع في الانتخابات الرئاسية التي تطرحها قيادات مؤسسة الجيش وتردد أصداءها لجنة الحوار والوساطة، وتدعمها مؤسسة الرئاسة المؤقتة وأحزاب النظام والبرلمان؟ هل صحيح أن الذهاب المستعجل إلى الانتخابات الرئاسية هو مجرد تغطية مبطنة للتمسك بنمط الحكم السائد في الحياة السياسية الجزائرية؟
ولماذا لا ينتظر قطاع أساسي من الشعب الجزائري أن تكون هذه الانتخابات مختلفة عن الانتخابات السابقة وحلا يوفر علاجا حقيقيا للأزمة الكبرى التي تتخبط فيها الجزائر، خاصة وأن تجارب الانتخابات الرئاسية السابقة أثبتت للشعب الجزائري أن انتخاب الرئيس لا يجدي نفعا في ظل عدم وجود قواعد متفق عليها يمكن أن يفضي تطبيقها إلى ابتكار نظام الدولة الديمقراطية أولا، ثم إلى تجسيد مشروع مادي وحضاري حيوي في المجتمع الجزائري ثانيا؟
في ظل كل هذه الشكوك التي يغذيها غياب الثقة بين المواطنين ومؤسسات النظام ورجالاتها يتضح أن خطاب الدفع باتجاه الانتخابات الرئاسية هو طرح أحادي الجانب ويبدو رغم ذلك أنه شبه محسوم وأنه المسيطر على أجندات المؤسسة العسكرية والأمنية التي تدير دفة الوضع السياسي الجزائري.
وفي هذا الخصوص يرى المراقبون السياسيون أن عقدة المشهد الجزائري المركزية تتمثل في تفاقم التناقض بين أطروحات القيادة الفعلية للجيش الجزائري، وبين مطالب الحراك الشعبي، الأمر الذي يرشح الأزمة أن تتفاقم في الجزائر وقد تصل إلى ذروتها في المدى القريب، وقد يأخذ ذلك شكل إسقاط أي إمكانية يمكن أن تفضي إلى نزع فتيل التوتر.
الجهة الوحيدة التي لها وجهة نظر واقعية ومؤسسة على التجربة المرة والطويلة هي الحراك الشعبي الذي يرى أن التوجه إلى الانتخابات قبل تصفية تركة النظام الجزائري، الذي خلق الأزمة الوطنية، هو قفزة غير محسوبة العواقب
من علامات توسع الفجوة بين الطرفين هي أن رئيس أركان الجيش الجزائري ونائب وزير الدفاع الفريق، أحمد قايد صالح، قد ألح مجددا، في كلمته التي ألقاها في الاجتماع الذي عقده مجلس الوزراء يوم الاثنين الماضي، أن الانتخابات الرئاسية هي التي ستمكن الجزائر من تجاوز الكبوة، وفي الوقت نفسه قام بتوجيه نقد صارم لأطراف يتهمها بأنها تحاول “توجيه الأحداث حسب نظرتها الشخصية”.
رئيس الأركان لم يبرز للرأي العام الوطني تفاصيل محتوى هذه النظرة الشخصية كما أنه لم يذكر أسماء الأشخاص الذين يروجون لها ويتمسكون بها. وفي الواقع فإن مثل هذا التوصيف التبسيطي للوضع يحتاج إلى إعادة نظر لأنه لا يتطابق مع الوقائع الموضوعية وفي مقدمتها أن معظم الأشخاص الذين يفترض أنهم يكونون ما يسمى في المشهد السياسي الراهن بـ”العصابة” هم في سجن الحراش أو في الهامش، أو هربوا إلى خارج الوطن.
ولا شك أن كل هذا يؤكد أن مجموعة العصابة هي خارج دائرة التأثير الفعلي في صنع القرارات وتنفيذها حاليا على الأقل، وبسبب هذه المعطيات فهي لا تملك أي أوراق جدية يمكن لها أن تلعبها في مجال تقرير مصير يوميات الحياة السياسية الجزائرية التي يتحكم في جل خيوطها قادة الجيش والمخابرات بالدرجة الأولى. أما مؤسسة الرئاسة ومؤسسة الحكومة فهما مجرد ديكور فضفاض لا يتمتع المسؤولون الشكليون فيهما بأي قدرة فعلية على اتخاذ القرارات الحاسمة، لأن أغلبهم من بقايا فلول النظام السابق وهم يستعملون الآن من طرف النظام الحالي لتصريف الأعمال فقط وقد يسرحون أو يستبدلون كبيادق الشطرنج في أي لحظة.
ويستبعد المحللون السياسيون أن تكون أحزاب المعارضة بمختلف انتماءاتها أيضا هي التي تقود عمليات إنتاج وتفعيل “وجهات النظر الشخصية”، لأن هذه الأحزاب تفتقد أولا إلى مشروع سياسي متجانس، وتعاني ثانيا من وباء التشرذم ومن غياب عمق شعبي لها في الجزائر. وبالتالي فهي تكتفي بلعب دور مشاهد مسلسل تطورات المشهد السياسي حيث ليس لديها رأسمال يرشحها إلى أن تشارك فعليا في تشكيل عناصر هوية هذا المشهد، وبناء على ذلك فإن فرضية وجود نظرة شخصية لهذه الأحزاب هي مجرد وهم غير قائم في الواقع الملموس، ولهذه الأسباب مجتمعة فإن دور هذه الأحزاب سيبقى منحصرا في المعاينة من بعيد للوضع على نحو يشبه حالها حال المستشار الذي لا يسأل عنه إذا غاب ولا يستشار إذا حضر.
وخلافا لما تقدم فإنه يمكن الإقرار بأن الجهة الوحيدة التي لها وجهة نظر واقعية ومؤسسة على التجربة المرة والطويلة هي الحراك الشعبي الذي يرى أن التوجه إلى الانتخابات قبل تصفية تركة النظام الجزائري، الذي خلق الأزمة الوطنية، هو قفزة غير محسوبة العواقب وتدخل في إطار إعادة إنتاج الحلول الطوباوية التي اعتاد عليها حكام الجزائر منذ الاستقلال إلى اليوم.
وفي هذا الخصوص ينبغي التوضيح أن وجهة النظر التي تحاجج أن خيار الانتخابات هو الحل لم تأخذ العبرة من تجارب الماضي التي تتميز بنمطية إعادة إنتاج الأزمة بواسطة التلويح دائما بمسكن الانتخابات التي تلد أخرى، دون أن تتأسس على مشروع تنويري حداثي في ظل مناخ سيادة الحكم المدني الديمقراطي.
وفي الحقيقة فإن التركيز الكلي على أن الرئيس القادم هو الذي سيكون بيده مصباح علاء الدين هو فرضية طوباوية ملغمة بتكريس مجدد للزعامة الفردية التي خربت على مدى سنوات الاستقلال المحتوى الوطني للنفسية الجزائرية، ولعبت دورا محوريا في إجهاض بناء تقاليد تداول الحكم وترشيده، وحالت دون إحداث أي تحول حداثي في نسيج المجتمع الجزائري على جميع أصعدة التنمية الوطنية المادية والبشرية.