طريق جهنم مفروش بالنوايا الحسنة؟
المشكلة هي مشكلة رؤية وإدراك. من المؤكد أن العصابة بمختلف مكوناتها الأخطبوطية، لم تسلم، ولن تسلم في الأمر بسهولة، وستدفع بالنظام إلى ارتكاب الأخطاء التي تقتله أو تفقده مصداقيته. والنظام بمكوناته السلطوية الكبرى: الجيش، الحكومة، الرئاسة، كما يتبدى في الجزائر، بدل الانتقال نحو المتغيرات الجديدة والسير وفقها في ظل الأوضاع المحلية والجهوية والعالمية الحادة، ما يزال رهين الرؤى التقليدية الموروثة عن حقبة ما بعد الاستقلال، والمبنية في الأصل على فعل القوة. بينما تحتاج الجزائر اليوم، في ظل حراكها العظيم، إلى نظام جديد كليا يسترجع فيه الشعب وقواه الحية، زمام المبادرة. فأي حل عاقل وفعال، يجب أن ينطلق من هذه الرؤيًة، وإلا سنظل رهيني حوار الطرشان الذي لا يوصل إلا إلى المزيد من المآزق والمخاطر. من هنا لا يمكن التفكير في الرئاسيات، وظروف الانتخابات لم تُوفر بشكلها الطبيعي كما في أية انتخابات جديرة بهذا الاسم، إلا إذا كانت السلطة تفكر في المرور بالقوة. وهذا هذا خطأ قاتل في تقييم المخاطر. لا يمكن ضرب صفح عن الحراك كأنه غير موجود، والسير بالبلاد نحو المغامرة الانتخابية التي قد يكون سببا في موت الجزائر التي عرفناها حتى اليوم. أي عاقل، في ظل الأوضاع المعاشة، يقول بهذا، اللهم إلا إذا كان النظام يملك أوراق الساحر التي لا يريد أن يظهرها إلا في اللحظات الأخيرة. في الجزائر أربعون مليون نسمة، نصفهم خرج إلى الشارع عندما بدأ الحراك؟ كيف يمكن لانتخابات رئاسية أن تتم في وضع كهذا، لا يمكن السيطرة عليه بسهولة بدون قمع وتدمير اللحمة التي تكونت بين الجيش والقوى الأمنية، والشعب. صحيح أن الحراك ظل وما يزال سلميا، مهما كانت الاعتداءات عليه التي تظهر هنا وهناك، لكن لا يمكن ضمان ذلك عندما يتم إدخاله في حالة اليأس وصدام الشوارع المباشر. وهو في النهاية دفع إرادي أو غير إرادي باتجاه انتهاء السلمية، واستبدالها بالعنف، ودخول الجزائر في دوامة خطيرة لا أحد يستطيع أن يتوقع نتائجها التي يمكن أن تقود البلاد من الانسداد والمغامرة غير المأمونة. هذا أولا، قبل التفكير في الذهاب نحو الانتخابات في ظرف أقل من ثلاثة أشهر.
الإشكالية الثانية التي يجب حلها قبل الانتخابات، هي حل الحكومة التي ستشرف على الانتخابات. لا يمكن أبدا لحكومة وضعتها العصابة وزكتها، أن تدير الانتخابات. ناهيك عن كونها ليست معروفة بالنزاهة التي تؤهلها للذهاب بالانتخابات إلى بر الأمان. الحراك يريد أن يرى ويلمس النية الفعلية للتحول من سياسة آمرة إلى سياسة وطنية تفاعلية يشترك فيها الكل. احتقار الشعب الذي استمر عشرات السنين، آن له أن يتوقف ويتم الانتقال إلى جمهورية ثانية حقيقية. لهذا يجب عدم إجهاض الحراك وإعطاء العصابة كل فرص تحويل الجزائر إلى بركة دم. امتداداتها في بعض أتباعها والمتحالفين معها، حتى ولو بدا تحالفا غريبا لا تفسره إلا الرغبة في الانتقام من مجتمع رفض كل الوصايات. حل الحكومة هو استجابة لمطلب حراكي كبير، وتعويضها بحكومة وفاق وطني توكل لها مهمة تحضير الانتخابات. قد لا يرضي هذا بعض أطراف النظام وحتى الحراك، لكن لا حل في النهاية إلا بالمرور عبر هذا الممر السلمي والعاقل.
الإشكالية الثالثة، تكوين لجنة انتخابات مستقلة عن مدارات السلطة، غير متحزبة، مكونة من رجالات القضاء، والقانون المعروفين بنزاهتهم وإخلاصهم، مهمتهم تقنية، لمراقبة الانتخابات والسير بها حتى النهاية بشكل شفاف. وعلى كل الجهات التي يهمها مصير الجزائر السلمي، أن تتعهد بقبول نتائجها. وهذه مطالب ليست مستحيلة إذا توفرت النية الحقيقية، لأنها تضع الأسس الأولى لعهد جديد سيتطور حتما إيجابيا مع الوقت. بناء الديمقراطية ليس قرارا فقط، ولكنه ممارسة وتجربة تصنعها أفراح وآلام شعب يكامله، عبر السنوات. وهذا سيعزل العصابة ومستعاشيها، وكل الذين يريدون السطو على الحراك وتجييره لمصالحهم، باحثين عن عذرية جديدة جرائمهم ضد الشعب الجزائري. ويتحركون اليوم كأنها فرصتهم الكبيرة ليس لبناء دولة حداثية عظيمة، ولكن للانتقام.
في ظل وضع الانسداد الذي وصلت إليه البلاد اليوم، تحتاج الجزائر إلى الكثير من التأمل والعقلة لتجاوز المخاطر الكثيرة المحدقة بها، إذ يجب تركيز الجهود، والخروج من المشكلات الفرعية والجانبية التي كثيرا ما سممت الحراك. أصحاب العصيان المدني تراجعوا لأنهم أدركوا بسرعة ألا أحد يسير على خطاهم. إطلاق سراح الذين رفعوا الرايات الأمازيغية، والعمل على تنقية الأجواء العامة، والتوقف عن التهم ولتخوين، والتهجمات المجانية، ومحاصرة الذباب الإلكتروني الذي نشط بقوة في الأسابيع الأخيرة، من خلال بث الأخبار الكاذبة. تركيز الجهود كلها حول بؤرة الحراك السلمي وعدم إغراقه في التفاصيل الفرعية المرهقة. المناقشات اللغوية مشروعة، ولكن هل هذا وقتها؟ وهل هذا وقت تعريب واجهات المحلات، وفرض اللغة الإنكليزية، بدل الفرنسية، كلها نقاشات وحلول ارتجالية سياسية لا قيمة لها في النهاية من الناحية الفعلية. وهو كلام للتسويق لا أكثر، وزرع المزيد من الشقاق في المجتمع الجزائري، لن ينفع لا النظام ولا العصابة في شيء، ولن يمنحهما أية عذرية جديدة. فقد عاثا فسادا لغويا وكذبا حتى يأسوا الناس، ولم يفتحوا أمامهم أية آفاق حياتية أو ثقافية. لقد زرعوا الشوك والجهل، والعداء الثقافي، وظلوا ينهبون في البلاد متكئين على خطابات وطنية ونضالية كانت الشجرة التي أخفت زمنا طويلا مافيا من أكثر المافيات تخلفا واحتقارا وكرها للشعب. لهذا لا يكفي الإعلان عن الانتخابات في ظرف قصير دون تهيئ الشروط الموضوعية لذلك. وكل رغبة للمرور بالقوة، مهما كانت النوايا حسنة، سيخلف وراءه مخاطر وانزلاقات كثيرة يصعب حلها. طريق جهنم مفروش بالنوايا الحسنة، فلا تفتحوا أبوبها.