الجزائر عالقة بين مأزقين
تكون الديمقراطية، بناء على الطريقة التي ترتئيها كل دولة، أفضل رهان لمنطقة شمال أفريقيا وأوروبا إذا كان المقصود منها إحلال قدر أكبر من الاستقرار. ويوضح ذلك النموذج الجزائري الذي يكافح لإنجاح مرحلة الانتقال الديمقراطي على الرغم من الصعوبات والتحديات التي تواجهها في ظل اصطدام مطالب الشارع بتغيير شامل للنظام القائم بتعنت المؤسسة العسكرية.
تتلخص أزمة الجزائر في وجهة نظر الملايين من الجزائريين المتعلقة بالجنرال أحمد قايد صالح، رئيس أركان الجيش الوطني، وهي المؤسسة الأكثر استقرارا ونفوذا في الدولة منذ إعلان الاستقلال في عام 1962، وانتقادهم له بتجاهل مطالبهم وإحكام قبضته على الحكم. وقد اتهم الملايين من الجزائريين، الذين طالبوا طوال ستة أشهر بعملية انتقال شفافة للسلطة وإجراء انتخابات رئاسية ديمقراطية، قايد صالح بتحدي مطالب حراك الشارع والعمل من أجل “مصالح عصابة بوتفليقة وحاشيته”.
لكن قايد صالح حاول طمأنة الشارع حين وعد بفتح جميع الملفات الثقيلة، بما فيها تلك التي كانت عن قصد حبيسة الأدراج وفي طي النسيان، في إشارة إلى فترة حكم الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة. من المثير للاندهاش والانتباه هنا أن قايد صالح، باعتباره رجلا خدم مع نظام الرئيس السابق، بوتفليقة، كرئيس أركان لمدة 15 عاما، فشل خلال تلك الفترة في أن يلاحظ موجة الفساد التي اجتاحت الجزائر، وعشرات المليارات من الدولارات من الرشاوى وغسيل الأموال، ورفع أسعار العقود الأجنبية. وبالنظر إلى أن عددا كبيرا من أقرانه في القيادة العليا للجيش عملوا أيضا على ملء جيوبهم وحساباتهم البنكية الأجنبية، فإن هناك شكا كبيرا يخيم على مصداقية حملة المؤسسة العسكرية ضد الفساد.
وقد فتح القضاء الجزائري منذ استقالة بوتفليقة في بداية أبريل الماضي، سلسلة تحقيقات في قضايا فساد، وأوقف أو أودع قيد الحبس الاحتياطي رجال أعمال نافذين ومسؤولين سابقين.
وعلى غرار تشكيك الشارع في حملة الفساد انتقد قيام الجيش بمماراسات استفزازية حين أدان قايد صالح المتظاهرين الجزائريين الذين يلوحون بالعلم الأمازيغي ووصفهم بـ”قطاع طرق” على الرغم من أن اللغة الأمازيغية تعتبر واحدة من اللغتين الرسميتين في الجزائر منذ عام 2002، وممارسات أخرى تشمل وضع حقوق الإنسان بالبلد حين رفض كذلك الإفراج عن لخضر بورقعة، البالغ من العمر 86 عاما، والذي قاتل بشجاعة في حرب الاستقلال واتهم القيادة العليا بأنها اختارت الرئيس المستقبلي بالفعل. ومع ازدياد حدة لهجته، تزداد عزلة رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي الجزائري والرفض الشعبي له، وتضاف إلى ذلك التحديات الاقتصادية التي تواجهه وكيفية التعامل مع القوى الإقليمية الكبرى.
تأزم الوضع الاقتصادي
لم يتقاض العديد من العمال، ممن عملوا في الشركات والمؤسسات التي كانت مملوكة لبعض أفراد حاشية بوتفليقة، أي رواتب. من بين هذه المؤسسات مثلا شركة فيرتيسال للأسمدة والتي تم تجميد حساباتها المصرفية. أما الشركات الأخرى التي يوجد فيها مستثمرون أتراك وصينيون فهي قيد التحقيق بسبب شبهة الفساد، ولكن من المثير للدهشة أن المصالح الفرنسية لم تتضرر. وعلى ما يبدو يختلف موقف قايد صالح، لكونه معاديا للنفوذ الفرنسي، تماما عن الواقع. إلى جانب القطاع الصناعي، تجمدت المحادثات بين شركة النفط الوطنية العملاقة سوناتراك وشركات مثل إكسون موبيل وشيفرون منذ شهور، ولا يمتلك المدير المؤقت لشركة سوناتراك، رشيد حشيشي، القدرة أو الإرادة للوفاء بالتزامات طويلة الأجل.
كل هذه الأجواء تبعث على القلق، لاسيما وأن أحدا لا يعرف أيا من هؤلاء الموقوفين سيقف أمام المحكمة، أو ما إذا كان سيتم إسقاط التهم، وما إذا كان سيتم احترام الإجراءات القانونية اللازمة.
وما يعمق قلق الشارع الجزائري، أن القيادة العليا للجيش لم تكن لديها أدنى فكرة عن كيفية تشغيل الاقتصاد الحديث، حيث يبدو أن أعضاء القيادة العليا يمتنعون عن تصديق حقيقة أن الثقة بين الشركات الجزائرية والدولية بدأت تتلاشى، وأنه سيكون من الصعب إعادة بنائها مرة أخرى. ومع ارتفاع سعر النفط إلى 60 دولارا للبرميل، من المتوقع أن يصل دخل الجزائر من المحروقات إلى حوالي 36 مليار دولار. هذا يكفي للحفاظ على الاقتصاد قيد التشغيل، بالإضافة إلى أنه يمكن سحب 15 مليار دولار إضافية من الاحتياطيات. ومع ذلك، فقد انخفض مخزون الاحتياطيات إلى النصف على مدى السنوات الأربع الماضية إلى 75 مليار دولار. لذلك لا أحد يعلم إلى الآن ما الذي سيحدث إذا انخفضت أسعار النفط.
تنافس إقليمي في الجزائر
تلعب فرنسا وروسيا والولايات المتحدة أدوارا رئيسية في العلاقات الاقتصادية الدولية مع الجزائر. وقد لا تضطر الولايات المتحدة، المتواجدة من خلال شركات النفط التي تستكشف في الجزائر، إلى أن تشعر بالقلق، حيث كل من يدير هذه الدولة يعلم جيدا أنه لا يمكنه سن تشريع يزعج هؤلاء المشغلين.
أما روسيا، فيتركز اهتمامها على بيع الأسلحة. وتمارس فرنسا نفوذا كبيرا في القطاعات المهمة الأخرى، لكن منذ الاستقلال في عام 1962، لم تحرص فرنسا على إعطاء الفرصة لرؤية الجزائر تقف على قاعدة صناعية قوية. فعندما قامت ألمانيا ببناء مصنع للجرارات في قسنطينة في سبعينات القرن الماضي، بما في ذلك المسابك وقدرة بناء المحركات، لم يرحب الفرنسيون بذلك. وعلى العكس أمر الفرنسيون الألمان بالابتعاد بزعم أن الجزائر محمية فرنسية.
وتم بناء قطاع النفط والغاز بعد عام 1962 بمساعدة فنية من شركات أميركية وبريطانية وأيضا من شركة “إيني” الإيطالية. وعندما أدى الضعف الصناعي البريطاني في السبعينات إلى خروج الشركات البريطانية، انتهزت الشركات اليابانية فرصتها.
وعندما تم تنفيذ إصلاحات اقتصادية في عهد الرئيس الجزائري، الشاذلي بن جديد، ورئيس الوزراء، مولود حمروش في 1989-1991، لم يفعل الرئيس الفرنسي، فرانسوا ميتران، شيئا للمساعدة، بل على العكس تماما، عندما أراد الاتحاد الأوروبي أن يساعد، تلقى أمرا بالابتعاد. إضافة إلى التنافس الإقليمي الجلي، دمرت الجزائر مرارا بعض أبرز مدرائها ومهندسيها الصناعيين لأن قيادتها كانت في الكثير من الأحيان ترضخ لأوامر الفرنسيين بدلا من مواجهتهم والدفاع عن مصالح البلاد. كما أن الفساد والاحتقار الذي أظهره بوتفليقة وحاشيته تجاه مواطنيهم على مدى عقدين من الزمن زادا الأمور سوءا.
ويميل السياسيون الفرنسيون إلى رؤية شمال أفريقيا من خلال منظور استعماري جديد. إنهم يريدون الحفاظ على السيطرة على السكان الأصليين وليس تشجيع القطاعات الصناعية المتكاملة في المنطقة. ومع ذلك، مع وجود الملايين من شمال أفريقيا ممن يعيشون ويعملون في أوروبا، ومع تزايد حصة الشركات الصينية والهندية، سيكون من الأفضل للاتحاد الأوروبي أن يلقي نظرة أخرى على التكلفة الباهظة لعدم توحيد المغرب العربي إلى حد الآن، وهي قضية نوقشت في تقرير معهد بيترسون للاقتصاد الدولي في عام 2008.
وبين التقرير أنه لن تربح دول المغرب العربي فقط ما لا يقل عن 2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي إذا تم تخفيض الحواجز أمام التجارة والاستثمار بين الجزائر والمغرب وتونس، ولكن أيضا ستستفيد دول جنوب أوروبا.
ولا تزال أوروبا والولايات المتحدة تركزان على تهديد الإسلام المتطرف والجماعات الإرهابية، لا على مساءلة قادة شمال أفريقيا، ونقص الوظائف للشباب والفساد المستشري الذي يهدد الاستقرار في المستقبل. بالمقابل تمتلك فرنسا الكثير للاستفادة من الديمقراطية في الجزائر، دبلوماسيا وعلى مستوى اقتصادي أيضا خلال السماح، على سبيل المثال، لشركات القطاع الخاص الحقيقية مثل “سيفيتال”، التي تعمل خارج الجزائر، ببناء قطاعات صناعية متكاملة داخل الجزائر.
ولكن هل سيقوم الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بتنفيذ مطالبه في المكالمة التي أجراها خلال الاجتماع السنوي للسفراء الفرنسيين، وهي “لا تفكروا وفقا للشكل التقليدي، ويجب أن تستثمروا الجهود في المجتمعات المدنية في دولكم؟”.
يمكن أن يفعل ما هو أسوأ بالنظر إلى الكيفية التي عززت بها ألمانيا الموحدة وحدة الرخاء المشترك مع الدول الشيوعية السابقة في أوروبا الشرقية قبل جيل. كان سيبدأ في إعادة تشكيل الاستراتيجة للدبلوماسية الفرنسية وتقديم دليل على أنه كان الأوروبي الحقيقي الصادق، وليس نسخة ثانوية من شارل ديغول.
وعليه، فإن إعادة صياغة سياسات الأمس لن تحقق شيئا على المدى المتوسط لتشجيع أشكال الحكم الحديثة والخاضعة للمساءلة في الجزائر وكل المنطقة. وستكون الديمقراطية، بناء على الطريقة التي ترتأيها كل دولة، أفضل رهان لمنطقة شمال أفريقيا وأوروبا إذا كان المقصود منها إحلال قدر أكبر من الاستقرار والتوازن السياسي والاجتماعي.