العواصم المؤثرة في القرار الجزائري، بدأت تخرج عن صمتها الواحدة تلو الأخرى
كشفت تصريحات منسوبة للسفير الروسي في الجزائر إيغور بيليف، تبعتها تصريحات لوزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، عن دعم ضمني لتصورات المؤسسة العسكرية في الجزائر للخروج من الأزمة السياسية التي تتخبط فيها البلاد في أعقاب استقالة الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، كما كشفت عن سباق إقليمي هدفه حفاظ القوى المؤثرة على القرار الجزائري على مصالحها.
بدأ الصمت الدولي حول تطوّر الأوضاع السياسية في الجزائر منذ انطلاق الحراك الشعبي في البلاد، يخرج مكنوناته ويعبّر عن توجهات ومواقف العواصم المؤثرة في القرار المحلي، حيث لم تتأخر باريس كثيرا عن الخوض في الشأن الجزائري، ساعات قليلة بعد الموقف الروسي المثير للجدل.
وأبدى وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان توازنا في التصريحات التي أدلى بها مؤخرا، حول الأوضاع السياسية في الجزائر، لاسيما في ما يتعلق بضرورة التوصل إلى مخارج توافقية للأزمة بين جميع الأطراف الفاعلة في المشهد، والتظاهر باحترام جميع المقاربات السياسية المطروحة في الصراع.
وقال لودريان في لقاء بالسلك الدبلوماسي المعتمد في باريس نهاية الأسبوع، إن “باريس تطمح إلى مخارج مرضية لجميع الأطراف، والتوافق بين كافة الفاعلين، لأن العلاقات المميزة والعريقة بين البلدين تحتّم إيجاد حلول تحقق طموحات الجزائريين”.
وجاءت تصريحات رئيس الدبلوماسية الفرنسية بعد أسابيع من الصمت، لكن يبدو أن محاولة التفرّد الروسي بالبعد الخارجي للأزمة الجزائرية، دفع الفرنسيين إلى التعبير العلني عن موقفهم، على الرغم من أن اهتمامهم بالتطورات لم يتوقف منذ البدايات الأولى للحراك الشعبي في فبراير الماضي.
ويرى مراقبون للشأن الجزائري أن انفراد المؤسسة العسكرية بمآلات الوضع في البلاد شجّع باريس وموسكو على الانحياز لصالح وجهة النظر التي تطرحها قيادة الجيش للخروج من الأزمة، خاصة وأن موقفيهما كانا منذ البداية يميلان لصالح الحيلولة دون حدوث أي تغيير سياسي في الجزائر، خوفا على مصير مصالحهما في البلاد.
ورفضت قيادة الجيش، في أكثر من مناسبة، مقترح المرحلة الانتقالية، وأعلنت دعمها لفريق الحوار والوساطة الذي يقوم بعدة مساع لتجاوز الأزمة، على أمل إجراء انتخابات رئاسية قريبا دون شروط مسبقة مثل رحيل الحكومة.
وتسرّبت معلومات عن لقاءات دبلوماسية في مالطا شاركت فيها واشنطن وبرلين وإيطاليا لدراسة الوضع في الجزائر وبلورة موقف موحّد من الأزمة السياسية، الأمر الذي اعتبرته موسكو وباريس محاولة لسحب البساط من تحت قدميهما، وهو ما دفع السفير الروسي في الجزائر إلى التأكيد على “رفض بلاده أي تدخل أجنبي في الشأن الجزائري”، خلال لقاء جمعه بالرجل الأول في حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم محمد جميعي بالعاصمة الجزائرية.
وذكر مصدر مطلع لـ”أخبارنا الجالية” أن “الاهتمام الفرنسي بتطورات الوضع الجزائري لم يتوقف منذ بداية الحراك الشعبي، وأن باريس التي نصبت خلية خاصة لمتابعة التطورات، ظهرت بصماتها في الدفع بالتطورات إلى اتجاه يدعم تصورات المؤسسة العسكرية للخروج من الأزمة”.
وأضاف “تعيين كريم يونس على رأس لجنة الحوار والوساطة، وتعزيزه بالمستشار السابق للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي عبدالرحمن دحمان، كعضو في اللجنة، تم بإيعاز فرنسي للدفع بالتطورات إلى تنظيم انتخابات رئاسية في القريب العاجل، والحيلولة دون حدوث تغيير سياسي عميق في الجزائر”.
وأثار الموقف الروسي الأخير، المنقول على لسان أمين عام الحزب الحاكم محمد جميعي، لغطا كبيرا في الأوساط السياسية والشعبية في الجزائر، وهو ما حفّز باريس على عدم الاكتفاء بالمتابعة الصامتة لتطورات الوضع الداخلي، رغم محاولة السفير الروسي مراجعة مضمون التصريح.
وكان السفير الروسي في الجزائر إيغور بيليف، قد التقى قيادة الحزب الحاكم ونقل عنه تأكيد بلاده على “رفض أي تدخل أجنبي في الشأن الداخلي الجزائري، وتأييدها لتنظيم انتخابات رئاسية في القريب العاجل، فضلا على التنويه بدور الجيش الجزائري في مرافقة سيرورة الحراك الشعبي”.
إلا أن السفارة الروسية اضطرت عبر بيان رسمي نشرته على موقعها الرسمي إلى مراجعة ما نسب إليها، ونفت فيه أي حديث عن الانتخابات الرئاسية في الجزائر أو الحوار السياسي الدائر، تحت ضغط الانتقادات الشديدة التي وجهت لها، والتي اعتبرتها تهديدات واستعراض قوة يعيد سيناريو دعم موسكو لنظام بشار الأسد في سوريا.
ويبدو أن العواصم المؤثرة في القرار الجزائري، بدأت تخرج عن صمتها الواحدة تلو الأخرى، في إطار سباق حول الحفاظ على مصالحها، لاسيما في ظل وجود خلافات عميقة بينها وصراع النفوذ بالمنطقة، فروسيا التي تربطها علاقات تاريخية مع الجزائر، تجمعها مصالح ضخمة تتكرّس في الغالب في صفقات تسليح حصرية تصنّف الجزائر في خانة الزبائن الكبار لترسانتها العسكرية، أما باريس فهي شريك استراتيجي يعتبر الجزائر حديقته الخلفية في المنطقة.
ومع ذلك جاءت تصريحات لودريان متوازنة قليلا مقارنة بما نقل عن السفير الروسي، لمّا أكد على مفردات الانتقال الديمقراطي، والمصالح المشتركة واحترام إرادة الجزائريين والحل الشامل لجميع الأطراف، بما يعني عدم إقصاء الأطراف التي ما انفكت قيادة العسكر تنتقدها وتنعتها بالعمالة والولاء للخارج.
وأمام الورطة التي دخلتها قيادة الحزب الحاكم (جبهة التحرير الوطني) أمام الشارع الجزائري، الذي نفذ جمعته الاحتجاجية الـ28، وسط غضب شديد لكل ما يرمز للسلطة ولكل من يستقوي بالجهات الخارجية لتخويف الحراك الشعبي، اضطر الناطق الرسمي للحزب محمد لعماري إلى تقديم توضيحات عبر وسائل إعلام محلية لإنقاذ الحزب من مطبّة السفير الروسي.
وذكر لعماري أن “تصريحات السفير الروسي كانت دبلوماسية عامة لم يكن فيها أي تدخل في الشأن الداخلي الجزائري”. وأوضح قائلا “ما قاله السفير الروسي ورد في بيان رسمي باسم الحزب، حيث عبّر ضيف الجبهة عن اعتزازه لمستوى العلاقات بين البلدين منذ عقود وآفاق تنويعها في مختلف المجالات”. وزاد “الرجل لم يدخل في أي تفاصيل تتصل بالشأن السياسي الداخلي، هو اكتفى بالتعبير عن أمله في أن يجد الجزائريون الحل بأنفسهم في أقرب وقت ممكن، كما أكد أن ما يحدث هو شأن جزائري خالص، ولا يحق لأي طرف خارجي أن يتدخل فيه”.
وتتواصل الأزمة السياسية في الجزائر مع خروج عشرات الآلاف من الجزائريين، الجمعة، لمختلف الشوارع الرئيسية بالعاصمة الجزائر لمواصلة احتجاجهم للأسبوع الـ28 للمطالبة بالتّخلّص من بقايا نظام بوتفليقة الذي عمّر في الحكم لعشرين سنة. وقد تزايد عدد المحتجّين بشكل لافت في الجمعة الـ28، مقارنة بالأسابيع الماضية، الأمر الذي وصفه مراقبون لحراك البلاد بـ”الموجة الثانية للحراك”.