مظاهر التطرف.. سلوك أم عقيدة؟
منذ أن أطل شبح الإرهاب بشقيه الإسلامي والأبيض الأوروبي، تجندت مختلف الدراسات والكتابات لمعالجة الظاهرة عبر تقديم تشخيصات تؤصل منابعها وجذورها، حيث أجمعت جل المقاربات على أن التطرف يكون في غالب الأحيان نتاجا لعقيدة أو أيديولوجيا دينية أو سياسية عنصرية، لكن اعتقال رجل في ولاية نيفادا الأميركية متهم بالتخطيط لسلسلة هجمات إرهابية، تؤكّد أنه قد حان الوقت لإخراج طرح ملفات الإرهاب من منظور العقيدة والذهاب إلى أبعد من ذلك بكثير أين يكون من الضروري طرح سلوكات من يتبنى تفكيرا متطرفا قيد الدراسة والبحث.
من أين ينبع الإرهاب والتطرف وكيف يمكن لخطاب أو أيديولوجية أن تحوّل شخصا عاديا إلى إرهابي لا همّ له سوى التخطيط لتفجير أو عملية إرهابية يكون ضحاياها من المدنيين، هذا هو السؤال الملح الذي أرّق منذ عقود مختلف الباحثين.
لقد أثبتت وأجمعت جل الدراسات أن الإرهاب، هو وليد أفكار وأطروحات وأيديولوجية دينية أو سياسية عنصرية أو عرقية، لكن أكثر المقاربات لم تغص في الشكل والسلوكات التي تجبر شخصا على أن يصبح متمرّدا أو متطرفا.
وفي هذا الصدد، يتبنى موقع “ستراتفور” الأميركي، تصورات ورؤى مغايرة لما يتم طرحه بشأن الإرهاب، حيث يعود الكاتب سكوت ستيوارت إلى حادثة ولاية نيفادا الأميركية أين أكد المدعي العام لوسائل الإعلام أنه تم اعتقال رجل يبلغ من العمر 23 عاما يوم 8 أغسطس، بعد تحقيق نظمته فرقة العمل المشتركة لمكافحة الإرهاب في لاس فيغاس. وقيل إن المعتقل متهم بالتخطيط لشن هجمات بعبوات ناسفة على كنيس يهودي وحانة للمثليين.
ويفيد التقرير أنه في عام 2017، بدأ المتهم يتردد على مواقع إلكترونية تدّعي أن الأشخاص الذين يشاركونه آراءه المتطرفة يتعرضون للهجوم. ولأنه بدأ يرى نفسه معنيا بهذه الرواية، بدأ يتردد على المنتديات المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي والتي تنشر رسائل أكثر تطرفا تتضمن دعوات عاجلة وعلنية للعنف. ودفعه هذا في النهاية إلى جمع مواد بهدف صنع زجاجات حارقة وعبوات ناسفة، كما بقي على اتصال مع أفراد يشاركونه أفكاره المتطرفة لمناقشة الأهداف المحتملة وتكتيكات الهجوم. لكنه لم يكن يعلم أن حلفاءه كانوا عملاء سريين يعملون لصالح مكتب التحقيقات الفيدرالي، حيث تمثلت مهمتهم في مراقبة تحركاته على شبكة الإنترنت.
ويمثل الإرهاب تهديدا مميتا متواصلا. لكن، لا يجب على المجتمعات قبول هذه الآفة كأمر لا يمكن التهرب منه، فقد ساعد المواطنون في إحباط عدد من الهجمات الإرهابية أكثر من مرة. من خلال جمع المعلومات لفهم الإرهاب، يصبح الأفراد العاديون أكثر قدرة على التعرف على علامات التخطيط لهجوم وبالتالي التحرك لحماية أنفسهم ومجتمعاتهم.
وفق ما يؤكد تقرير “ستراتفور” في عدة نقاط، كانت تصرفات الرجل الذي ألقي القبض عليه في لاس فيغاس ومساره نحو التطرف مشابهين لما ظهر على حارس الأمن الجهادي الذي أطلق النار على أشخاص كانوا في نادي “بلس” الليلي للمثليين بمدينة أورلاندو بولاية فلوريدا الأميركية سنة 2016.
لكن متطرف لاس فيغاس لم يكن تابعا لجماعة الدولة الإسلامية بل لتنظيم أميركي يتبنى أيديولوجيا سيادة البيض. تسلط هذه النقطة الضوء على أن الإرهاب لا يقتصر على منظمة أو أيديولوجية معينة بل هو تكتيك يتبناه أي شخص يتطلع إلى استخدام العنف لتحقيق هدف سياسي أو ديني. ويعدّ فهم المسؤولين الحكوميين والمواطنين لهذا المفتاح الأساسي الخطوة الأولى نحو كشف المهاجمين المحتملين قبل فوات الأوان.
وتنسب التكتيكات الإرهابية مثل التفجيرات أو الهجمات المسلحة إلى مجموعة واسعة من الأنظمة المتطرفة التي تتبنى أيديولوجيات مختلفة. كما يتبع المقاتلون تقنيات الدعاية التي أثبتت نجاحها لدى مجموعات أخرى، مثل استخدام الإنترنت لاستقطاب الأفراد الذين يبدون استعدادا لتبني العنف وتعبئتهم وإرسالهم نحو أهداف معينة.
ويعني هذا التشابه إمكانية توظيف التكتيكات المستخدمة لمكافحة جماعة إرهابية معينة ضد المهاجمين الآخرين. فقد استخدمت العملية التي ساعدت على القبض على متطرف لاس فيغاس، على سبيل المثال، بنجاح ضد الجهاديين واللاسلطويين والمتفوقين البيض في السنوات الأخيرة.
الإرهاب يمثل تهديدا مميتا متواصلا، ولا يجب على المجتمعات قبول هذه الظاهرة والآفة كأمر لا يمكن تجنبه
وبالمثل، تعدّ الخطوات التي يتخذها المهاجم المحتمل قبل القيام بعملية إرهابية شاملة بطبيعتها. ولكن، رغم أن الدورات تختلف من حيث الطول والتعقيد، يمر كل من يخطط لهجوم ما بنفس الخطوات وبنفس الترتيب وهو اختيار هدف، ثم التخطيط للهجوم، ثم مراقبة الهدف، ثم تنفيذ الهجوم، ثم الهروب من ساحة الجريمة (. ثم يستغل بعض المتطرفين ما حققته هجماتهم أو يسمحون لمجموعتهم بتولي زمام الأمور ومواصلة الطريق من هناك. وتعرض كل خطوة في هذه الدورة صاحبها لخطر كشف أمره.
وقد نجحت قوات الأمن في الولايات المتحدة، وغيرها من الدول الغربية، في تعطيل الشبكات الإرهابية القائمة على التسلسل الهرمي، ويعتبر هذا السبب الرئيسي في تحول المتطرفين من مختلف الجماعات إلى منهج المقاومة بلا قيادة. يزعم البعض أن هذا النموذج من الإرهاب يجعل من دورة الهجوم عنصرا من الماضي، لكنني أعتقد عكس ذلك.
وفي مقالته بعنوان “مقاومة بلا قيادة”، كتب المتطرف الأبيض لويس بيم “تقع مسؤولية اكتساب المهارات والمعلومات اللازمة في ما يتعلق بما يجب فعله على الفرد نفسه”. لكن القول يبقى أسهل من الفعل.
في غالب الأحيان يفتقر “الذئب المنفرد” إلى التدريب والتمكن من الحرفة وهي من الأمور التي توفرها الجماعات الإرهابية المختصة. وبالتالي، يعجز هؤلاء عن تأدية مهام مثل التخطيط وصنع القنابل كما يجب. ونتيجة لذلك، يلتجئ معظم المهاجمين إلى أشخاص آخرين لطلب المساعدة، أو يعلنون عن نواياهم عبر تهديدات أو بيانات مباشرة، كما يمكن أن يعتمدوا وسائل غير مباشرة. وساعد هذا النقص الأمنيين إلى التسلل داخل العشرات من العمليات في السنوات الأخيرة مما أعطاهم فرصة لإيقاف المخططين قبل أن يقع الضرر.
كما يتضح من قضية لاس فيغاس، تدفع الرغبة في شن هجمات كبيرة قدرات الذئاب المنفردة لطلب المساعدة. وحسب ما ورد، كان المشتبه به جنديا في الجيش الأميركي ومن المحتمل أنه كان يجري تجربة لصنع القنابل لسنوات. ومع ذلك، ورغم أن لديه خبرة تتجاوز معظم الإرهابيين الذين يحاولون التحرك دون قيادة، لم يستطع أن ينفذ عمليات كبيرة بمفرده مما دفعه إلى البحث على الدعم.
كما يزعم أن المشتبه به أخبر عميل مكتب التحقيقات الفيدرالي السري أنه يعتزم تجنيد عدد من الأشخاص لتشكيل 3 فرق من المسلحين لمهاجمة ملهى ليلي في أورلاندو. لكن فرص تجنيد هذا العدد الكبير من الناس للمشاركة في التخطيط لعملية إرهابية دون أن يتم التفطن إليها أو تعريضها لخطر تسلل المخبرين ضئيلة في مكان مثل الولايات المتحدة أين تعرف السلطات المختصة بمهارتها في إحباط مثل هذه الهجمات. ونتيجة لذلك، تم التعرف على المهاجم واعتقاله قبل أن تتاح له فرصة كبيرة لتجنيد المتطرفين، حيث كان في المراحل الأولى من دورة الهجوم.
ويشدد التقرير الأميركي، على أنه لا يمكن الاعتماد على الأجهزة الأمنية لمراقبة كل شيء في كل مكان طوال الوقت. حيث تركز موارد هذه الأجهزة المحدودة على اكتشاف التهديدات الناشئة عن التنظيمات الإرهابية البارزة بسبب الخطر الأكبر الذي تشكله هذه الجماعات على المجتمع ككل. وبالتالي، سينجح الإرهابيون حتما في اختراق الفجوات الأمنية من وقت لآخر، وسيتمكنون من شن هجوم. ولكن، وفي جل الحالات، تظهر مؤشرات ما قبل الهجوم. يمكن رؤية هذه العلامات دون فهم ما تعنيه، ويمكن أن يبلغ الأفراد عنها لتتجاهلها السلطات المعنية في النهاية.
وفي أعقاب بعض الهجمات، يدرك الأشخاص الذين كانوا يعرفون الجاني معنى السلوكيات الغريبة التي عجزوا عن تفسيرها. وبالفعل، أظهر المشتبه به في لاس فيغاس علامات على اضطرابه حيث اعتبره زملاؤه في المدرسة الثانوية “غريب الأطوار” خاصة في طرق تعامله مع النساء.
لهذا السبب، فانه وفق نفس التقرير يجب تثقيف الناس ليصبحوا واعين بهذه السلوكيات التي غالبا ما تسبق الهجمات الإرهابية.