محور السلام أم محور الإرهاب أيهما يحسم الحرب الباردة في القرن الأفريقي
تشهد منطقة القرن الأفريقي تحولات تقودها دول في المنطقة تسعى إلى تصفية مشكلات الماضي والانفتاح على واقع هذه المنطقة الاستراتيجية واستغلال ما يمكن أن توفره من إيجابيات وخلق شبكة قوية من المصالح. في المقابل، يهدد الاستقرار الذي تتطلع إليه المنطقة والدول المحيطة بها مصالح دول أخرى لا تنجح سياساتها إلا في بيئة تسودها الفوضى والعنف، الأمر الذي أدخل هذه المنطقة الحيوية في صراع محاور بين جهات تسعى إلى حماية مصالحها وأمنها القومي لكن عن طريق دعم الدول الأفريقية في تجاوز أزماتها والخروج من مربع الفوضى والإرهاب وجهات تمشي عكس هذا التيار.
تحولت منطقة القرن الأفريقي من بيئة خصبة للنزاعات الداخلية إلى منطقة تتصارع عليها وحولها القوى الإقليمية، مع حضور غير خاف من جانب قوى دولية مؤثرة. وبينما تحاول بعض القوى الإقليمية تسليط الأضواء بعيدا عما تعاني منه من اختلالات هيكلية في السياسة والاقتصاد والأمن وتحاول الخروج من شرنقتها عبر مشروعات تنموية كسبيل وحيد للسلام ووضع حد للتوترات المتفاقمة، يجتهد آخرون كي تظل على حالها من الكسل والتدهور، وتغذية بعض الأطراف المحلية بالعنف والإرهاب كطريق ينفذون منه لتحقيق أهدافهم الخفية.
تدور رحى معارك في مناطق كثيرة من العالم دفاعا عن المصالح. ولم يعد الاتجاه للسيطرة على مفاتيح النفوذ قاصرا على قوى كبرى أو تقليدية. وأدت التحولات في بنية النظام الدولي خلال العقدين الماضيين إلى تغيير في المفاهيم. ودخلت على خط المنافسة دول وخرجت أخرى منها.
أصبحت منطقة القرن الأفريقي واحدة من المناطق محل التركيز، بما يتجاوز دول الجوار والقوى الإقليمية والدولية التي لها باع طويل في التدخلات. جذبت أنظار دول عدة عقب تصاعد الاهتمام بها، لما تملكه من موقع جغرافي على المحيط الهندي وإطلالة محورية على مضيق باب المندب والبحر الأحمر، علاوة على امتداداتها في عمق القارة الأفريقية.
إذا أخرجنا القوى العالمية التي لعبت أدوارا تاريخية في المنطقة من المعادلة، مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وروسيا وإيطاليا، سنجد المنطقة تتجاذبها قوى طامحة، مثل مصر والسعودية والإمارات من ناحية، وقطر وإيران وتركيا من ناحية ثانية، فضلا عن الصين كعملاق التفت مبكرا للاستثمار في قارة أفريقيا من دون تدخل مباشر في الصراعات التي تدور في مناطقها، والعمل على تهدئتها عبر نشر ثقافة الاستثمار كمدخل عملي لإطفاء الحرائق السياسية والأمنية وتداعياتها المجتمعية.
منطقة القرن الأفريقي تسير في طريقين متصادمين. أحدهما يريد دفعها إلى الأمام والآخر يعمل لجرها إلى الخلف
تعتبر تجربة بكين استثنائية ويصعب القياس عليها في التصورات والإجراءات والأهداف، وإن كانت ضاعفت من وتيرة اهتمامها بتحركات إيجابية فهي لم تضبط متلبسة بدعم جماعات إرهابية أو تحريض تنظيمات متطرفة على العنف، ولم ترتكب جريمة من نوعية تأليب قوى محلية على أخرى لتعزيز حضورها ومكاسبها. فقط تقترب وتتدخل وتنخرط قبل أن تصبح مهددة في أمنها واستقرارها على المدى البعيد، وتواجه الأزمات قبل أن تصل إلى أراضيها، في ظل تحول التحديات إلى ما يشبه سلسلة مترابطة من الحلقات الدائرية، من حيث تتجه تعترضها، من آسيا إلى عموم أفريقيا والعالم.
تساعد المعلومات الغزيرة المتوافرة بشأن تفاصيل الأدوار التي تقوم بها قوى إقليمية وعالمية على فهمها في سياق تقسيمها إلى فريقين. أحدهما يريد زيادة نفوذه وتكريس مصالحه بأدوات واضحة تعتمد على الاستثمار والأدوات التي توفر الحماية اللازمة للاستقرار والاستمرار، والثاني يسعى لتحقيق أهدافه باللجوء إلى أساليب تناهض أفكار الهدوء والأمن والسلام والتنمية، في معانيها الواسعة، بل والتفرغ للمناكفات الخارجية باستخدام أذرع داخلية مجرّمة.
يتكفل تدقيق النظر في أسماء الدول الصاعدة أو الراغبة في القرن الأفريقي بتفسير مراميها. فالقوى الإقليمية التي تخوض حربا ضارية وواضحة ضد الإرهاب، مثل مصر والسعودية والإمارات، رأت أن ترك دول المنطقة بلا رعاية ساهم في اتساع نطاق العنف.
ووفرت الأجواء التي يعيشها الصومال الظروف المواتية لنمو المتطرّفين، وتحوّلت أقاليمه إلى بؤرة تعشّش فيها حركات متشددة تنطلق منها لدول مجاورة، ولن تستطيع القبضة الأمنية والأساليب المخابراتية خوض مواجهة شرسة من دون أدوات تؤتي نتائجها مستقبلا.
تناغم جماعي
اقتربت الدول الثلاث في تناغم جماعي من منطقة القرن الأفريقي. وقدّمت أطروحات متنوعة، تعتمد على النشاط الكثيف في مجال الاستثمار، ما يستلزم حمايته من خلال مكونات أمنية رسمية، في مواجهة دول تسعى إلى التخريب والتسلل بالاعتماد على فصائل مسلحة وحركات متطرفة.
من حق كل فريق الدفاع عن مصالحه في أي بقعة من العالم، طالما دخل من الباب واحترم المعايير والأعراف المحلية التي قرر العمل في كنفها، ولم يتجاوز القوانين الدولية التي ترسم المعالم الرئيسية في خارطة التعاون بين الدول، ما يقود إلى اتباع إجراءات واضحة شبيهة بتلك التي تتبناها مصر والسعودية والإمارات في مقارباتها المعلنة مع الصومال وإثيوبيا وجيبوتي وإريتريا والسودان، والتي تسمح بتغيير نمط الحياة في المنطقة، اعتمادا على المشروعات المتكاملة التي يجذب بعضها بعضا وتهيّء الفرص للسلام الدائم.
تيقّنت الدول العربية الثلاث المتفاهمة حول الكثير من الأهداف الاستراتيجية أن الغياب الطويل سيراكم التحديات ويمنح الخصوم فرصة لتعميق وجودهم في القرن الأفريقي، بما يفرض تدشين تحركات حثيثة في شكل مشروعات واعدة لمساعدة دول المنطقة على حل صراعاتها والخروج من أزماتها وشيوع التسويات التوافقية وسيادة مبدأ السلام على الحرب.
اعتمدت السعودية والإمارات على الفوائض المالية، وركّزت مصر على خبرتها وعلاقاتها القديمة مع دول القارة. وأخذت هذه الدول تضاعف من وتيرة التحركات، بصورة تنسجم مع الأهداف الراغبة في عدم ترك منطقة القرن الأفريقي لقمة سائغة لدول تعبث بمقاديرها الاستراتيجية، وتريد النفاذ منها إلى ضفاف أخرى لا تقل أهمية، بعد أن تعاملت مع النزاعات كحليف وضامن لوجودها وطموحها.
كثّف أنصار المعسكر المواجه، المكون من قطر وتركيا وإيران، جهوده للتحكم في مفاصل دول القرن الأفريقي بإنشاء قواعد عسكرية مبكرا، وتوطيد الأواصر مع تنظيمات متطرفة وإرهابية لها نشاط معلوم في المنطقة ضد مصالح الدول الساعية للتنمية والسلام. وبدت المشروعات الإنسانية المقدّمة من أي من الدول السابقة وسيلة لدغدغة مشاعر المواطنين أكثر منها أداة لإنقاذهم من الفقر والجوع والمرض، واصطحبت غالبيتها دعاية إعلامية خادعة.
طريقان متنافران
تسير منطقة القرن الأفريقي الآن في طريقين متنافرين أو مشروعين متصادمين. أحدهما يريد دفعها إلى الأمام والتخلّص من صفحاتها القاتمة، وقدم شواهد تؤكد رؤيته الإيجابية للسلام. والآخر يعمل بكل قوة لجرها إلى الخلف، وكشفت بعض التطورات عن رؤيته المطالبة باستمرار الصراعات. وتتكفل حكومات وشعوب المنطقة بالفصل بين المنهجين، وليس التنظيمات الخارجة على القانون وأصحاب المصالح الضيقة والجماعات المتطرفة.
نجاح فريق التكفير والغموض والتشاؤم والحرب في تحقيق تقدم نسبي خلال السنوات الماضية لا يعني أن مشروعه الهدّام انتصر وتمكن من السيطرة على مفاتيح الحل والعقد في القرن الأفريقي، بل على العكس يواجه مطبات وانتكاسات متعددة. وتبين أن عدم توقّف العنف خلفه قوى تحركاتها معروفة ومراميها ليست خافية. الأمر الذي لفت الانتباه إلى الضجر منها ومحاربتها وكسر شوكتها وتقويض حضورها والتخلص من أذرعها المحلية.
في المقابل، بدأت التوجهات الاستثمارية من جانب السعودية والإمارات تؤتي أكلها في دول مثل إثيوبيا والسودان، وستظهر تجلياتها في الصومال وإريتريا، حيث تلتقي إرادة هذه الدول على التخلص من سنوات الفشل وتجاوز عقبات الإرهاب عبر سلسلة من المصالحات والتسويات السياسية والمشروعات التنموية. ما يحسم النتيجة بين فريق يجتهد لإشاعة الخير والدفاع عن مصالحه بالليونة، وآخر لا يتورع عن زرع الشر وتوظيف الخشونة فقط لتكبيد خصومه خسائر باهظة والبقاء ولو على جثث الأبرياء.