صحراوي اليوم من يكون؟
من تراه يكون هذا الذي يطنبون في الحديث عنه ويتكلمون دائما باسمه، ويتحركون هنا وهناك دفاعا عن حقه السليب ولا يستنكفون أبدا من أن يلوحوا بالحرب نصرة لقضاياه، ومن أن يضعوا على طاولات المفاوضات، وربما حتى تحتها أيضا مقترحا تلو المقترح لتحقيق تطلعاته وأمانيه؟ من هو ذلك الصحراوي الذي يدعي البوليزاريون وصلا به ويسعون لاستمالته وكسبه؟
الشوفينيون في كلا الجانبين يملكون جوابين قاطعين، فهذا الكائن المنسي وشبه المغمور في نظر قسم منهم، جزء من كل، وقطعة من موزاييك مغربي متعددة الأشكال والأحجام والألوان، وهو أيضا، تحفة أصيلة بلا نظير ولا مثيل، ومحور منفصل بذاته لا ارتباط له بهوية أو جنسية محددة، كما يراه الشق الاخر. ولكن إن كان الأمر حقا على ذلك النحو فلماذا اذن بقي الحل عالقا طوال كل تلك العقود؟ ولماذا لم تفلح الأمم المتحدة حتى اليوم في حصر وعد وتحديد الصحراويين، بل حتى في التعرف عليهم وتمييز الزائف منهم عن الأصلي، إن كانوا معروفين ومختلفين جدا عن غيرهم، ومتماثلين مع بعضهم بعضا مثل قوالب السكر؟ أليس لأن السياسة شقت منذ الستينيات، أي من الوقت الذي ظهرت فيه الموجة الاولى من صراعات المغرب والجزائر، عصا الطاعة على البيولوجيا التي حكمت على دمائهم بأن تختلط بعضها ببعض، وجعلت المسألة تكون أعمق وأعقد من مجرد تقص روتيني لخريطة جينية واجتماعية ينحدر منها هذا الفارس الذي لم يكن بطبعه خانعا يرضى بالضيم والمذلة؟ من استمع إلى زعيم البوليزاريو وهو يتحدث قبل أيام في مقابلة تلفزيونية، أجرتها معه قناة «الحرة» عن مقترح الحكم الذاتي الذي عرضه المغرب، ويقول بشكل حاسم «نحن لسنا مغاربة حتى يُعطى لنا حكم ذاتي. فالحكم الذاتي حلول تعطى لمناطق متمردة داخل دولة معينة. ونحن لم نكن مغاربة ولسنا مغاربة ولن نكون مغاربة»، فسوف يلمس محدودية ذلك الجواب الإنكاري، الذي يقدم فيه المجيب نفسه فقط كنقيض للآخر، لكن سيكون عليه أن ينتبه إلى جزئية قد تبدو صغيرة وبسيطة وهي، أن المتحدث نفسه ليس مقطوع الصلة تماما بالمغرب، مثلما أوحت بذلك عباراته الصارمة والقطعية، لانه فتح عينيه قبل نحو سبعين عاما من الان في بلدة لا تبعد سوى كيلومترات معدودة عن أشهر منتجعاته السياحية المعروفة.
ولكن مثل ذلك الأمر لا يبدو في نظر إبراهيم غالي سوى تفصيل عابر قد لا يستحق الوقوف عنده طويلا، وربما لا يعد بالضرورة شكلا من التناقض الصارخ، بين ما لا يريد أن يعتبره جزءا من ماضيه وما يرغب في أن يكون كل حاضره ومستقبله. فالتاريخ والبيولوجيا وربما حتى الجغرافيا، كما يراها زعيم البوليزاريو وتراها للجبهة ليست هي نفسها التي يراها ويفهمها ويعرفها الآخرون على الاقل في الرباط. ألم يولد سلفه محمد عبد العزيز بالمثل في مراكش؟ ويتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في جنوب المغرب؟ ثم ألم يكن والد الاخير ضابطا في الجيش الملكي المغربي؟ وإذا ما وسعنا الدائرة أكثر، فمن من قادة البوليزاريو البارزين والمعروفين لم يولد ويتعلم ويعيش جزءا من طفولته وشبابه وحياته في المغرب؟ ليس هناك من حيث المبدأ ما يجعل غالي وباقي الجبهويين أيضا، وبغض النظر عن أفكارهم ومواقفهم يتنصلون تماما من علاقتهم بالمغرب، أو ينكرون أنهم يحملون ولو بعضا من جيناته. أما لماذا يفعلون ذلك؟ فربما سيكون صعبا على كثيرين أن يفهموا الامر، اي كيف يمكن لهؤلاء أن يحملوا ولو بعضا من الجينات المغربية، في الوقت الذي ينكرون فيه جملة وتفصيلا أي عرق أو نسب مغربي، وينفون بالكامل أي ارتباط به؟
ولكن كل سردية الجبهة الثورية التي ظهرت مطلع السبعينيات كانت تكمن هنا، أي في هذه المعاكسة القوية للحظة الميلاد والنشأة وللتاريخ والجغرافيا، والهروب من أسرهما بالتمسك بتلك الكلمة السحرية أي تقرير المصير. وهو ليس بالاخير شيئا اخر غير تصور مستقبل لا رابط له بالماضي. فإن تولد مغربيا ليس معناه أن تمضي عمرك كله كذلك كما يعتقد الجبهويون، ولكن الأمر لا يبدأ بالتنصل من الأصول والجذور، بل بانكارها والتشكيك في وجودها. فمن قال إن الصحراوي هو أصلا مغربي؟ إن فتح الباب أمام ذلك التساؤل الملغم هو ما يعطي، لما بات معروفا بالقضية الصحراوية، شحنة التواصل المطلوبة. ولعل إبقاء جزء من الصحراويين في مخيمات تندوف، وعلى مدى أكثر من أربعين عاما، وسط تلك الأوضاع الكارثية، وربما حتى غير الإنسانية كان الأساس الاول في تكريس ذلك التمايز المطلوب بين صحراوي مقهور ومظلوم، . فكيف تستقيم سردية الشعب المضطهد والمشرد إذن بدون أن تستمر معاناته، بل وتكبر بمرور الأعوام لتبقى ورقة الضغط الأقوى في أي حل سياسي مقبل؟ لا شك بأن الجزائر التي فتحت أبوابها للبوليزاريو، وكانت قوة الدعم والارتكاز الأولى له كان باستطاعتها أن تبنى عشرات الأحياء السكنية اللائقة بهؤلاء اللاجئين الصحراويين، ولكنها فضلت إبقاءهم في الخيام وتركهم بعيدين عن مدنها وشبه معزولين عن العالم الخارجي، ينتظرون بعض المساعدات الإنسانية، التي تجود بها من حين لاخر بعض المنظمات الإنسانية، فيما يذهب قسط كبير منها إلى خزائن كبار الثوار الجبهويين وبعض الجنرالات النافذين مثلما يروج بقوة. وما فعله ذلك الخيار هو انه جعل من الصحراوي صحراويين اثنين، واحدا شبه مسجون ومحاصرا يعاني ويقاسي الأمرين في المخيمات، وآخر يملك الحد الأدنى من مقومات العيش، بل ربما يرفل قسم منه في النعم في الجانب المقابل في المغرب. ولم يكن الزمن الذي استغرقته الصراعات المفتوحة بين الجانبين ثابتا وجامدا. لقد فعل هو ايضا فعله في الصحراويين انفسهم وعلى الجهتين معا. ففي حين ظلت الأجيال التي عاصرت نشأة الجبهة منكفئة على نفسها، وحافظة للسيرة ومكررة لفصول المأساة الصحراوية، فإن الاجيال الجديدة التي خلفتها لم تعد تفكر بالضرورة في تدارك زلات الماضي، بقدر ما إنها صارت تتطلع لمستقبل ما ولو خارج الصحراء.
لماذا لم تفلح الأمم المتحدة حتى اليوم في حصر وعد وتحديد الصحراويين، بل حتى في التعرف عليهم وتمييز الزائف منهم عن الأصلي؟
لقد صارت تشعر بانسداد كامل للأفق أمامها. ولكن ألم يتحول كل الصحراويين بالنهاية إلى أدوات بايدي غيرهم؟ ألم تتعدد التمثلات في أذهان الاخرين لهم بحسب المواقع والتحالفات والأفكار المسقطة؟ وهل أن لوم العالم على جهله بهم سيكون هو كل الحقيقة، أم أنه نصفها فقط، لأنهم مسؤولون هم ايضا ولو في جانب عما قدموه له بشكل مباشر أو غير مباشر من صور نمطية مليئة بالضبابية والتشويش؟ ربما كان على البوليزاريو ان يدقق مليا في من يكون صحراوي اليوم قبل أن يقول انه مغربي أم لا؟