المرشحون للرئاسة التونسية وقضايا المغرب العربي: حضور بالغياب
الحل الاقتصادي والسياسي والأمني لتونس، يبدأ من المغرب العربي وقد ينتهي إليه، فالسوق المغاربية قادرة على توفير مجال لتبادل السلع والخبرات من شأنها استجلاب أكثر من حل واستدرار أكثر من طوق نجاة.
لا يبدو أنّ من بين المرشحين للانتخابات الرئاسيّة، من يمتلك تصورا واضحا للدبلوماسية التونسية ولدور تونس الإقليمي والدولي، بعيدا عن العناوين العامة أو الخطاب المعتاد عن التقاليد البورقيبية في العلاقات الدولية.
وبمنأى عن مقولة الحياد، التي باتت ضمن الخطاب الانتخابي للمرشحين عبارة عن قميص عثمان يُرفع كلما استشعر المرشحون قلّة الحيلة حيال المسائل الإقليمية المطروحة على الرئاسة التونسية، فإن استقراء لطبيعة العلاقات الدولية وللأمن القومي الخارجي ولعنصر البحث عن البدائل الاقتصادية لدى هؤلاء المرشحين، يوصلنا إلى نتيجة شبه صفريّة.
هناك معادلة سياسية ودبلوماسية، قوامها أن الرؤساء الناجحين دبلوماسيا هم أساسا القادمون من وزارة الخارجية، هكذا أثبتت التجربة مع الرئيس الجزائري السابق عبدالعزيز بوتفيلقة، وأمير دولة الكويت صباح الأحمد الجابر الصباح، وأخيرا الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، ذلك أنّ التجربة تمنح أصحابها إمكانية قراءة جيدة في فرضيات لعب الأدوار الإقليمية والدولية على أسس السيادة والمصالح والثروات سواء كانت طبيعية أم ناعمة رمزية.
والحقيقة، أنّه لا يوجد من بين هؤلاء المرشحين لقصر قرطاج، من تبوأ وزارة الخارجية، أو عمل ضمن السفارات الكبرى والمؤثرة للدولة التونسية في الخارج، الأمر الذي قد يفسر الاقتصار على زوايا الأمن والدفاع لدى البعض، واختزالها في البعد الاقتصادي لدى البعض الآخر.
ولئن سلمنا بقيمة الملف الأمني في العلاقات الخارجية، وجدوى المبادلات الاقتصادية بين العواصم، فإن المحرك الأساسي للتعاون الاستخباراتي والأمني والمحفز الصلب للاستثمار والتبادل التجاري كامن في قدرة الفاعل السياسي على تحويل بلاده من فضاء الهامش إلى المركز، والتسويق لها ضمن الفرص الاستثمارية الكبرى واستحثاث البدائل لها، والأهم من كل ما مضى استباق الزمن الجيواستراتيجي.
وطالما أنّ الوضع على ما هو عليه من التواضع النسبي في التجارب والإمكانيات في مجال الدبلوماسية لدى غالبية المتسابقين، وطالما أيضا أن الجزء الأكبر من صلاحيات الرئيس كامن في صناعة الدبلوماسية، فإنه من حق الرأي العام أن يضع أكثر من نقطة استفهام.
فأن يتحدث مرشح لمنصب الرئاسة عن الدول الأخرى بغير لغة التخاطب بين الدول، وأن تتداخل لديه نوازع السياسي المؤدلج أو الحقوقي المطلبي، باستحقاقات الرئاسة وبثقل المنصب، لهو مدعاة إلى الكثير من الحيرة والتوجّس. وأن يلوذ آخر بمقولة الحياد، للتبرم من استحقاقات الدولة التونسية في حسن تدبير إقليمها، دون أن يُفرد لفظ الحياد بوصف الإيجابي، لهو قرينة اضطراب في الرؤية والتصور.
وعندما يصل مستوى ادعاء الحياد، إلى سقف النأي عن المسار الذي رسمه الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي في الملفات الإقليمية وعلى رأسها ليبيا، حيث لم يذكر أحد، إلى حدّ كتابة هذه الأسطر، سعيه إلى المواصلة في مبادرة السبسي للتسوية السلمية في ليبيا، ناهيك عن طرح الخطوط الكبرى لمبادرة جديدة تحرّك المياه الراكدة والآسنة في الجوار الشرقي لتونس.
عندما يصل مستوى المرشحين إلى هذا المستوى من “الحضور بالغياب” في الملفات الإقليمية المؤثرة على الوضع التونسي، فحينها لا بد من دق ناقوس الخطر، لا فقط لأن الموضوع الليبي مرتبط بالشأن التونسي، بل لأن الموضوع الليبي مدار مكاسرة إقليمية ودولية كبرى، ستضعنا ضمن المفعول بهم إن لم نكن فاعلين ومؤثرين في المكان والزمان.
المشهد الليبي يستحق أكثر من مجرّد إعلان استقالة بعنوان “الحياد” بين الإخوة في ليبيا، والمشهد المغاربي ككل يستأهل دورا تونسيا حقيقيا في كافة المسائل المانعة لأي تقارب مغاربي وعلى رأسها معضلة الصحراء المغربية.
فلئن نجحت الدبلوماسية التونسية، برئاسة المنجي الحامدي، في إخراج مالي من مستنقع الحرب الأهلية الدامية عبر الوصول بالأطراف المتنازعة إلى تسوية سلمية، فهي قادرة بكثير من الجهد والرغبة والإصرار، على الانخراط في المشهد الليبي بشكل إيجابي وعلى ضخ الدماء في العلاقات الجزائرية المغربية.
الحل الاقتصادي والسياسي والأمني لتونس، يبدأ من المغرب العربي وقد ينتهي إليه، فالسوق المغاربية قادرة على توفير مجال لتبادل السلع والخبرات من شأنها استجلاب أكثر من حل
ننتظر من المرشحين دفعا بالدبلوماسية التونسية إلى مكامن الأمن القومي الوطني، فالانتصار للوساطة الأممية التونسية في الملف الليبي بعد فشل غسان سلامة، وفي ملف البوليساريو عقب انكفاء الدبلوماسية الألمانية، هو قادر على اجتراح مفهوم جديد وفاعل وناجع للحياد الإيجابي.