ماذا حققت الثورة في الجزائر
تعيش الجزائر صحوة متعددة الأبعاد، ففي كل جمعة يعرض الجزائريون في الشوارع وفي الساحات على العالم كله مخزونهم النضالي والثقافي، وإصرارهم على العيش في دولة ديمقراطية حديثة، بعيدا عن حكم العسكر أو الإسلاميين.
تعيش الجزائر غدا الجمعة الاحتجاجية السادسة والعشرين من ثورتها السلمية الناجحة ورغم ذلك بدأ ينفذ صبر المستعجلين في حصد النتائج، وراح بعض المصطفين وراء قيادة الأركان المعادية للثورة يشككون في الانتفاضة ويتحدثون عن مأزق تكون قد وصلت إليه. في حين أنها حققت مكاسب باهرة لم تحققها انتفاضة أخرى منذ 1962 بل هي تحرير ثان للإنسان الجزائري يكمل تحرير الأرض من المستعمر.
في الحقيقة الثورة ليست في مأزق، هي مستمرة بخطى واثقة نحو الانتصار وتحقيق الحرية السياسية بعد ما حققت مكسبا عظيما هو استرداد الجزائريين لكرامتهم المهدورة منذ الاستقلال. النظام ممثلا بقيادة الأركان هو الذي يجد نفسه في مأزق منذ أكثر من 6 أشهر جرّاء الضغط المتنوّع والمتواصل الذي يمارسه عليه الجزائريون كل يوم ثلاثاء من طرف الطلبة في كل الجامعات ومختلف الشرائح طيلة أيام الأسبوع هنا وهناك، وأغلب الشعب كرجل واحد في كل يوم جمعة.
فالشعب هو المُبادر الفاعل، إذ مطلبه واضح والنظام هو الذي يتخبّط ويبدو تائها أمام انتفاضة جماهيرية سياسية سلمية لم يسبق أن واجهها، وهو الذي تربّى على وسيلة واحدة هي استعمال القمع في مواجهة احتجاجات مهنية واجتماعية متفرّقة ومعزولة.
وإلى اليوم لم تعرف الثورة سوى الانتصار تلو الآخر ولم تسجل هزيمة واحدة وهي مستمرة بكل عزم وصرامة وثقة. وبغض النظر عن المكاسب الآنية كالقضاء على مسخرة العهدة الخامسة وإجبار عبدالعزيز بوتفليقة على الاستقالة، ووضع حدّ لشرّ الكثير من أفراد عصابته وتعرية الفساد الفاحش الذي غرقوا في وحله، وفرض إلغاء الانتخابات الرئاسية التي كان ينوي النظام تزويرها يوم 4 يوليو الماضي لاستنساخ نفسه، واستحالة تنصيب رئيس دمية في يد قيادة الجيش كما كان الحال حتى اليوم.
حققت الثورة مكاسب ثمينة وراقية من أهمها استعادة الجزائر لمسارها التاريخي وحيويتها بكسر حاجز الخوف والانتقال عبر هذه العملية الثورية إلى أفق رحب في قطيعة مع الوضع البائس الذي كان سائدا. انتصار ساحق في الحرب النفسية يبدو واضحا من خلال الخطاب والسلوك وحتى من تعابير الوجوه. تحوّل بسيكولوجي إيجابي من شعور بكره الذات الاجتماعية وجلدها، إلى شعور بالاعتزاز بها.
لقد توصّل معظم الجزائريين بمختلف اتجاهاتهم وجهاتهم ولهجاتهم إلى أن الهوية لا تعني الصراع بينهم، بل التعايش السلمي مع الاختلاف. كان الجميع يظن أن الشعب الجزائري منقسم ويحمل بذور الانقسام في ذاته، ولكن هذه الثورة أظهرت أن كل ذلك كان وهما وتضليلا، وأن الشعب الجزائري يملك إمكانيات عظيمة ليتوحّد من أجل قيم ومشروع وطني ديمقراطي كبير.
يمكن أن نتحدث عن قطيعة حقيقية ولدت بعدها جزائر جديدة متمرّدة على ذهنية الخضوع الظاهرية التي فرضها النظام بالقوة والتحايل والرشوة منذ الاستقلال، وعلى الخصوص منذ مجيء بوتفليقة عام 1999. ولكن كان هناك دائما غضب مكتوم ينهش نفوس الجزائريين وكثيرا ما عبّروا عنه بطرق كثيرة هنا وهناك، ولكن كان ردّ النظام وحشيّا دائما، وقد راح ضحية إجرامه 126 شابا سنة 2001 وأكثر من 5000 جريح في منطقة القبائل. علاوة على الموقوفين في كل أرجاء الجمهورية في كل عام.
من مكاسب هذا الحراك الثوري أيضا إفشاله لأساليب النظام الكلاسيكية في التصدّي للمقاومين والتي هي التخويف والتفريق والتخوين. فلا بعبع “الطرف الإسلاموي” ولا “حزب فرنسا” ولا “أعداء الداخل والخارج” ولا التقسيم والانفصال وغيرها من الأكاذيب بات صالحا لتضليل الجزائريين. ومن جهة أخرى عُقلن التظاهر الاحتجاجي وأصبح راسخا في الأذهان أن المسيرات هي لحظات أخوة ومتعة ومقاومة سلمية، بعيدا عن التكسير والمشادّات مع رجال الأمن حتى وإن كان بعضهم مستفزا.
واستعاد الطلبة الجزائريون دورهم من جديد في الحياة السياسية والاجتماعية بعد تهميش طويل فرضه نظام بوتفليقة. هم اليوم في قلب النضال يقدّمون إضافة مهمة في كل يوم ثلاثاء، فكأنهم يشجعون الناس على الخروج بكثافة يوم الجمعة الموالية، علاوة على لافتاتهم ذات النكهة الساخرة المعبّرة عن رغبة قوية في إقامة جمهورية جديدة.
في غضون 6 أشهر من 22 فبراير إلى 22 أغسطس، انهارت واجهة النظام وهي في حالة يرثى لها. لقد عرّى الجزائريون طبيعة نظامهم وأظهروا حقيقته العسكرية المتخفية وراء دمى مدنية. فلا أحد اليوم مثلا يلتفت إلى ما يقوله الرئيس المنصب عبدالقادر بن صالح، بل يتوجه الشعب مباشرة بالنقد إلى الحاكم الرسمي الذي هو الجيش. لقد انتهى زمن التمويه، وهذا تقدّم كبير يعني أن الحيلة لم تعُد تنطلي على الجزائريين. أعادت الثورة النقاش إلى جوهره بالتساؤل عن دور الجيش وأهمية الدستور ومعنى الدولة المدنية والنظام الجمهوري. وهذا مكسب عظيم يدلّ على أنّ الوعي السياسي قد عاد من جديد، ومعه ذكاء سياسي كاف للعبور إلى الضفة الأخرى. ومن هنا فلا أحد يستطيع منع الجزائريين من بناء جمهوريتهم الجديدة.
بعد سُبات طويل فرضه نظام بوتفليقة تعيش الجزائر صحوة متعدّدة الأبعاد، في كل جمعة يعرض الجزائريون في الشوارع على العالم كلّه مخزونهم النضالي والثقافي والسلوكي والتنظيمي والفني والفكاهي، وإصرارهم على العيش في دولة ديمقراطية حديثة. بعيدا عن حكم العسكر أو الإسلاميين.
استعادت الثورة الفضاء العام وأعادت السياسة إلى قلب الحياة، ومن الآن فصاعدا لا أحد يمكنه إقصاء الجزائري من المشاركة في تسيير بلده والنقاش في مصيرها. “البلاد بلادنا ونديرو راينا”، (البلد بلدنا ورأينا هو الذي سيكون) هكذا يهتف المتظاهرون منذ 22 فبراير ويكتبون على اللافتات.
وعلى عكس ما تدّعي قيادة الأركان فالنخبة ليست غائبة، والمبادرات لحلّ الأزمة متعدّدة، وقد بلغت أكثر من 40 مبادرة مقترحة من قبل شخصيات ونقابات وأحزاب ومنظمات مدنية. وليس هذا فحسب بل باتت مناورات النظام ميتة قبل مولدها وآخرها ذلك الحوار المصطنع الذي أراد النظام أن يجدّد به نفسه والذي أصبح موضوع نكات أكثر من أي شيء آخر.
هذا الوعي بألاعيب النظام إنجاز يُضاف إلى إنجازات الثورة، إذ من الآن فصاعدا لن يشارك الجزائري في الحياة السياسية عن طريق ردّ الفعل، وإنما كطرف أساسي على الحكّام أن يحسبوا له مستقبلا ألف حساب.