ملامح لصفقة مقبلة في المنطقة؟
في التاريخ القديم والحديث الصفقات هي جزء مقبول وأساسي في حالات الصراعات والحروب، وليست منطقتنا العربية استثناء من هذه الحالة. فالصراعات الجيوسياسية القائمة اليوم فيها يمكن ملاحظتها من خلال العديد من الإشارات والموشرات العلنية وغير العلنية أيضا، وهذا يشير إلى مرحلة جديدة ستُحدد إيجابياتها أو سلبياتها النتائج التي ستتمخض عنها.
وهنا لابد من القول، بأنه في السياسة والعلاقات الدولية، إشارات ومؤشرات تكشف عن نية وجدية هذا الطرف أو ذاك في تطبيق مشروعه، وبالتالي فإنها تعطي المراقب والمهتم إمكانية التحليل، في ظل عدم توفر معلومات دقيقة. وكلما كانت الاشارات المُرسلة من طرف إلى آخر مُكلفة للمُرسل، كان الحُكم على جدية توجهاته أكثر صوابا، وإلا لماذا يتكبد إرسال إشارات مُكلفة يكون التراجع عنها مؤذيا ويؤدي إلى إعطاء ثمن سياسي؟
مؤشرات الصفقة في المسرح الإقليمي هي أنه في حين يقول الكل لا نريد حربا أخرى في المنطقة، تتزايد العقوبات الاقتصادية على إيران، حتى وصلت إلى الذروة، حين مست المرشد الأعلى ووزير خارجيته، سبقها وضع الحرس الثوري الايراني على قائمة الإرهاب، وقصف بعض المعسكرات للميليشيات العراقية الموالية لإيران بالطائرات المسيرة، التي مازالت مستمرة، واغتيالات طالت مستشارين إيرانيين لهم. مضافا إليها حشد أمريكي استعراضي قوامه حاملة الطائرات لنكولن، وقاذفات استراتيجية (ب 52) وصواريخ باتريوت، وقوات إنزال مارينز، وإرسال مزيد من الجنود إلى القواعد الخليجية، مع قوة في المملكة العربية السعودية. وحينما ناورت إيران في التلاعب بمسألة أمن مضيق هرمز جاءت الدعوة لقيام مهمة دولية لحماية السفن فيه، لتكر مسبحة الغزل والدفء الى العلاقات الامارتية الايرانية، التي هي فاتحة لخطوات مشابهة تتخدها دول خليجية أخرى. وعلى الطرف الاخر من جبهة الصفقات في المنطقة، كانت ورشة المنامة لإعلان الجانب الاقتصادي من صفقة القرن لتصفية القضية الفلسطينية، ثم الحرب السورية في أدلب، التي يعدّها البعض ضغطا روسيا على تركيا، كي تقرر مع من تحسم وقوفها مع الروس، أم مع الأمريكيين، وأخيرا، الحرب في اليمن والانقلاب الدراماتيكي الذي حصل في عدن.
هذه كلها مؤشرات بعضها مُكلف وبعضها غير مُكلف، لكن النظر إليها يؤكد حقيقة واحدة وهي، أن هنالك نظاما أقليميا جديدا تجري صناعته في المنطقة، وتم رسم وتوزيع الحصص والأدوار المستقبلية لكل طرف فيه، وحدود مناطق النفوذ التي ستظهر لاحقا، ستكون هي الناتج الأساسي من كل هذه الصراعات الجيوسياسية. فكل مؤشر من المؤشرات الواردة في ما تقدم له ترجمة سياسية على أرض الواقع، كما أن له أثمانا يجب أن يدفعها البعض، خاصة العرب، لأنهم أول المتضررين من كل هذه الأجندات المتصارعة، بسبب عدم وجود مشروع لديهم وغياب خريطة الأهداف المستقبلية لهم. فالولايات المتحدة لديها مسلمات أساسية في المنطقة، وتهمها التوازنات، وتعرف جيدا أن هنالك مشروعا إيرانيا هو نفسه مشروع الشاه محمد رضا بهلوي بثوب جديد وبوسائل جديدة، لكن مهما كانت العربدة الإيرانية عالية الصوت، والقرصنة مؤذية حينا، فإن منع قيام قوة مهيمنة تسيطر على أي منطقة استراتيجية في العالم، خاصة الشرق الاوسط، هي أول المسلمات الامريكية. ففي سبعينيات القرن المنصرم أراد شاه إيران أن يكون شرطي المنطقة، لكن الرئيس نيكسون رفض ذلك بالمطلق. اليوم يتكرر المشهد في السياسية الايرانية، وتطرح طهران نفسها على أنها القوة المهيمنة على المنطقة رغما عن أمريكا والعرب وبالقوة العسكرية، لكن هذا الحلم الايراني لن يحدث أبدا. ومع ذلك فإن الولايات المتحدة غير مستعدة إطلاقا لخوض صراع كبير مع إيران، بل إنها تسعى لتغير عوامل كثيرة في هذا الملف، حيث انعكس هذا التغيير على سياسات الحلفاء في المنطقة. فاليوم نرى بوضوح تغييرا كبيرا في الفلسفة السياسية، التي كانت تنتهجها دولة الامارات العربية المتحدة تجاه طهران. هنالك دفء غير متسرع يسري بين الجانبين، وتنحية واضحة لفلسفة تحريض الولايات المتحدة ضد طهران، فقد أيقن زعماء الخليج من أن إمكانية جلوس الامريكيين والايرانيين حول طاولة واحدة قد بات قريبا، وأن واشنطن لن تستجيب لأماني الحلفاء في تدمير إيران، مهما كانت خزائنهم تحوي أموالا يسيل لها لعاب ترامب. فمؤسسات صناعة القرار الامريكي لا ترى أن هنالك صراعا وجوديا بين أمريكا والغرب وإيران، وأن عداءها لاسرائيل مجرد جعجعة فارغة ذات أهداف سياسية. وهنالك خبرة طويلة في العلاقات بين الطرفين تؤكد على أن كل ما يريده الايرانيون هو موافقة الدولة الاعظم على دور إقليمي لهم يعيدون به أمجادا امبراطورية.
تشكّل مشهد سياسي جديد في المنطقة أمر بات مفروغا منه، وسقوط التحالفات القديمة سيكون سمة مميزة للواقع المقبل
أما المسلمة الاساسية الثانية من مسلمات أمريكا الاستراتيجية، التي لن يلويها أو يُنحيّها جانبا صانع القرار الامريكي أمام القرصنة والعربدة الايرانية، فهي إبقاء تدفق النفط عبر مضيق هرمز سلسا ومؤمنا، ومنع أي قوة من السيطرة والهيمنة عليه. فالنفط سلعة استراتيجية موجودة في هذه المنطقة، ويشكل أكثر من ستين في المئة من احتياطي العالم، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة باتت اليوم هي المُصدّر الاول للنفط بحدود 14 مليون برميل، متجاوزة بإنتاجها إنتاج السعودية وروسيا، لكنها لن تترك منطقة الخليج إلى أي لاعب دولي أو أقليمي. السبب في ذلك أن أمريكا بلد نسبة الديون فيه تصل الى مئة في المئة من الدخل القومي، بحدود 18 ترليون، مع عجز سنوي في الموازنة يقارب 500 مليار دولار. هذا يعني أنها بحاجة إلى من يشتري ديونها، ومن يشتري ديونها هي دول الخليج بالدرجة الاولى، لذا هي مُجبرة على توفير الحماية لهذه المنطقة وعدم التخلي عنها.
إن تشكّل مشهد سياسي جديد في المنطقة أمر بات مفروغا منه، وسقوط التحالفات القديمة سيكون سمة مميزة في هذا الواقع المقبل. كما أن التحولات الممهدة لهذا الواقع ليست ذات عناصر ذاتية. بمعنى أنها ليست بفعل صانع قرار محلي وفقا لخريطة أهدافه واهتماماته، بل هي مفروضة برؤية ترامب ومؤسسات صناعة القرار، الذين لا يريدون حربا مع إيران، بل اتفاقا معها بشأن البرنامج النووي، مع ضمانة مُقدّمة بالكف عن الاستثمار في العداء المخادع لاسرائيل. أما ردع سياساتها المتعلقة بدول الخليج فلا شأن لهم به، خاصة أنها تدفع العرب لمزيد من شراء الاسلحة وطلب الحماية مدفوعة الثمن.
لدى الامريكيين رؤية استراتيجية طويلة الأجل لمنطقة الشرق الاوسط، سوف تلعب عناصر كثيرة دورا رئيسيا فيها، لكن العرب لن يكونوا عنصرا في هذا المشروع الاقليمي الامريكي المقبل.