بؤس المثقف والقارئ العربيين
لا جدال في أن النخب المثقفة في راهننا الثقافي، أو كما يسميها البعض بـ»الأنتلجنسيا» فقدت مصداقيتها، بفقدانها فاعليتها وتأثيرها الإيجابيين في الميدان الفكري والثقافي في آن. وهذا قول منطقي وطبيعي مقارنة بالدراســــة التي خلصت إليها «منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة» (اليونسكو) التي تقول بأن متوسط القراءة لا يتجاوز لدى الفرد في العالم العربي 6 دقائق سنويا، في المقابل يبلغ هذا المتوسط نحو 200 ساعة سنويا في الدول الأوروبية.
وتشير لجنة تتابع أمور النشر التابعة للمجلس الأعلى للثقافة في مصر، أن العالم العربي يقبع في الدرك الأسفل من قائمة الأمم القارئة، حيث أن متوسط معدل القراءة فيه لا يتجاوز ربع صفحة للفرد سنويا، بينما احتلت الولايات المتحدة الأمريكية المرتبة الأولى بـ11 كتابا للفرد سنويا، وفي بريطانيا سبعة كتب للفرد. ووفقا لدراسة لجنة «الكتاب والنشر» فإن العالم العربي ينشر 1650 كتابا سنويا بينما تنشر أمريكا وحدها 85000 كتاب سنويا.
وحسب تقرير «اليونسكو»، يُترجم سنويا في العالم العربي خمُس ما يُترجم في دولة اليونان، والعدد الإجمالي لما تُرجم إلى العربية منذ عصر التدوين «حوالي القرنين الثاني والثالث الهجريين» إلى راهننا يقارب 10000 كتاب، وهذا العدد يساوي ما تُترجمه إسبانيا الحالية في عام واحد. وتكشف أحدث الإحصاءات أن الفرد الأوروبي يقرأ بمعدل 35 كتابا سنويا، وكل فرد في الكيان الصهيوني (إسرائيل) يقرأ 40 كتابا في السنة، أما الدول العربية فإن كل 80 فردا يقرؤون كتابا واحدا في السنة. بمعنى أن الإنسان العربي بمن فيه المغربي العادي، بات بينه وبين فعل القراءة، الخير والإحسان كما يقولون، فما بالكم بالإنسان «المثقف»، حيث صارت لديه القراءة والإبداع بشكل ببغائي، أي يقوم بتدوير ما أُنتج بشكل يوحي للقارئ أنه عمل فكري أصيل. وهذا ليس غريبا عن الساحة الفكرية، بقدر ما هو نتاج سيرورة تاريخية، حيث أن بعض كبار العلماء صاروا نابغين ومرموقين بفعل إعادة إنتاج معرفة وفكر الآخر، سواء كان عربيا أو أعجميا، على سبيل المثال «العلامة» ابن خلدون (ت 1406) الذي قام بسرقة علمية مع سبق الإصرار والترصد من أصحابها «إخوان الصفاء وخلان الوفاء» ونسبها له في مقدمته الشهيرة، ثم كذلك المغربي عابد الجابري (ت 2010) الذي قام بإنتاج «علمي» جسدته كتبه المتعلقة بـ»نقد العقل العربي» الذي غابت فيه شروط المنطق والأمانة العلميتين، إذ بسببه انشطرت الجغرافية الفكرية المغربية والمشرقية إلى شطرين متناحرين ومنفصمين. ناهيك من بعض الأساتذة الجامعيين الذين بفضل علاقاتهم واتصالاتهم مع بعض «القطط السمينة» التي تُوجه في الخفاء دور النشر والمجلات العلمية والوزارات التربوية، وما شابه ذلك، الذين قاموا ويقومون بمختلف السرقات العلمية، خاصة من خلال ترجمة مقالات إلى اللغة العربية ونسبها إليهم، بل هناك من يسرق أبحاثا كاملة جملة وتفصيلا من أجل نيل درجة الدكتوراه أو التأهيل الجامعي.. ومع ذلك تُكافئه لجنة المناقشة بميزة «مشرف جدا»، وهم بذلك من يصيرون بين عشية وضحاها أساتذة جامعيين وعمداء ورؤساء على الجامعات المغربية ومفكرين، وصار فعل الكتابة والتأليف مقرون بهم، حتى إن كتبوا وأصدروا كتبا حول «كيف تصير مُدجنا في سبعة أيام»، أو «كيف تتعلم الطبخ في ستة أيام»، أو كتب «لا تحزن» أو «بيداغوجيا اللعب ودورها في التطور الحضاري»، أو «كن خائنا تكن أجمل» وهلم جرا، ومع ذلك فهذه المؤلفات الصادرة على يد «مثقفين» معروفين ومشهورين منتشرة في كل المكتبات المغربية والعربية عامة، فأينما حللت وارتحلت تجدها صوبك، (بطبيعة الحال هناك دائما استثناء) هكذا إذن، هو واقع المثقف والقارئ العربيين في آن.
يُترجم سنويا في العالم العربي خمُس ما يُترجم في دولة اليونان، والعدد الإجمالي لما تُرجم إلى العربية منذ عصر التدوين «حوالي القرنين الثاني والثالث الهجريين» إلى راهننا يقارب 10000 كتاب، وهذا العدد يساوي ما تُترجمه إسبانيا الحالية في عام واحد.
والخطير ما في الأمر هو أن هؤلاء «المثقفين» عندما يؤلفون كتبهم المدجنة وتجد في غلافها الخلفي ثمن البيع العمومي 70، 120، 150 أو 200 من الدراهم، حتى يتهيأ للمواطن أنه كتاب فيه قوانين ديالكتيكية علمية حول العمليات المعقدة للتطور الاجتماعي والاقتصادي وجوهر الأداء السياسي وكيفية تجاوز الفقر المجتمعي.. أو أفكار تنويرية من خلالها نرتقي بعقولنا ومجتمعاتنا، لكن عندما تتصفح أي صفحة تجد الخطاب البكائي/الخرافي والديماغوجي، الذي يُنتج مؤرخين/جغرافيين ومفكرين/فلاسفة وأساتذة وباحثين من ورق، همهم الوحيد والأوحد هو الاسترزاق بأقلامهم المضللة بهدف نيل مناصب وكراسي وازنتين.
من هنا وعلى هذه الأرضية الآنفة تنطرح التساؤلات التالية: لماذا فعل القراءة متدن إلى هذه الدرجة في وطننا العربي؟ ومن المسؤول عن هذه النتائج المخيبة؟ وهل هناك شيء يصلح للقراءة أصلا في ظل الإصدارات الراهنة المدجنة /المستحمرة؟ وهل يمكننا إعلان موت المثقف والقارئ في آن؟ وما دور الأنظمة السياسية العربية في هذه القيامة الثقافية السوداء؟
فإذا تناولنا ميزان الواقع الملموس الذي نتفاعل معه بالتحليل الملموس، سيفضي ذلك إلى استخلاص نتائج نعيشها ونُحسها ونلمسها، متمثلة في العلاقات الجدلية بين كل العلل والمعلولات السالف طرحها كتساؤلات، فنجد من جهة أن المثقف هو نتاج طبيعي للتكوين المدرسي والجامعي، الذي تلقاه في ظل سيطرة الإيديولوجية البورجوازية على وزارات التربية والتكوين والخاضعة بدورها لإملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين، المتمثلة في تكوين جيل من الغنم والمعز والإبل قابل للتحكم عن بعد، ثم إن عملية القراءة المتضمنة في الكتب المتوفرة في السوق، يبدو أنها لا تصلح حتى كأوراق يستعملها الباعة المتجولون في خدماتهم التجارية. من جهة أخرى فهذا الانكسار الثقافي/الفكري راجع لطبيعة النظام السياسي المسيطر على دور النشر ومحتويات المكتبات الوطنية والبرامج التعليمية الجامعية ووسائل الإعلام، إذ بتداخل وتبادل هذه العلاقات الجدلية يتمخض عنها في واقعنا العربي مثقف مدجن تابع لإيديولوجية الطبقة الحاكمة وثقافتها، التي تروم استغباء المواطن العربي. إذن ما العمل؟ ومن يا ترى المتهم الرئيس الذي تسبب في إقبار الفعل الثقافي التنويري في عالمنا العربي؟
قبل كل شيء تنبغي الإشارة إلى أن ما سلف قوله كان نقدا سبقه نقد ذاتي، ويبدو أن المهام الملقاة على كاهل المثقفين التقدميين/الشرفاء هي مهام كبيرة وصعبة في آن، وعليهم أن يعوا تمام الوعي أنهم في حرب دائمة ضد أشباه المثقفين وأسيادهم المستبدين، الذين يُنومون بكتاباتهم ومحاضراتهم وندواتهم ووسائل إعلامهم الطلاب والعامة من الناس/المواطنين. فالمسؤولية التاريخية التي يتحملها المثقف العضوي الحقيقي من موقعه كمثقف كما قال حسن حمدان في كتابه «نقد الفكر اليومي» تتمثل في فضح كل ما لا يسير في اتجاه خط الشعوب المقهورة والمغلوبة على أمرها، حاملين أثناء ذلك سلاح الفكر والقلم، وهم خلال معركتهم تلك يفندون أطروحات ونظريات المثقف الخانع ويفضحون زيفه وسرقته العلميتين. ويعكسون في المقابل واقعا صحيحا وسليما هو واقع الشعوب العربية الرازحة تحت نير استبداد أنظمتها الشائخة، المحرومة من أبسط شروط العيش الكريم. بالتالي، يردون الاعتبار للمثقف وللقارئ في الآن نفسه، إذ ذاك تشرئب إلى الواقع العربي أفكار نيرة هي في حاجة ماسة لأدمغة تتلقفها بلهفة.