الوجه الآخر للاتحاد الأوروبي

وسط كل هذا الضجيج الذي يحدثه المعارضون البريطانيون للخروج دون اتفاق من الاتحاد الأوروبي، تمضي الحكومة بكل هدوء نحو هذا الخيار كواحد من الاحتمالات الممكنة في الحادي والثلاثين من شهر أكتوبر المقبل. ونقول أحد الاحتمالات لأن رئيس الوزراء بوريس جونسون لم يغلق باب التفاوض مع بروكسل.

لا يرفض جونسون الخروج باتفاق مع الطرف الأوروبي، شرط أن يتنازل ذلك الطرف عن فكرة معاقبة لندن على قرار مغادرة التكتل. معاقبتها لتكون عبرة لمن تسول له نفسه من دول الاتحاد الأخرى التفكير بذات الفعل. وكأن العودة عن فكرة الاتحاد تجديف يستحق الحصار والنفي والموت اقتصاديا وأمنيا وسياسيا.

صحيح أن بريطانيا ليست عضوا عاديا في الاتحاد، وهي، بشكل أو بآخر، حجر أساس في التكتل، ولكن أليس هذا مبرراً كافيا لإبداء مرونة في التفاوض معها بدلاً من حصارها. أليست معاقبتها على قرار اتخذه أكثر من نصف البريطانيين في استفتاء عام 2016، تتعارض مع مبادئ الديمقراطية التي يتشدق بها الأوروبيون.

ثمة تساؤل أهم. هل الاتحاد الأوروبي هش إلى درجة أن طلاق لندن وبروكسل قد يكون سبباً في انهياره؟ الجواب باختصار نعم. وأزمة “بريكست” واحدة من الأزمات التي أظهرت هذه الهشاشة. هي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، لأن التكتل ينطوي على تباينات سياسية واقتصادية كثيرة وكبيرة بين دول الشمال والجنوب.

لم يفلح الاتحاد الأوروبي، حتى الآن، بالاتفاق على ميزانيته للسنوات السبع المقبلة. الدول التي يعول عليها لتعويض غياب بريطانيا تتهرب بحجة أنها تستفيد من التكتل أقل مما تدفع، في حين أن الدول التي تستفيد أكثر مما تدفع، وتعتمد على مساعدات التكتل في نفقاتها وخططها الاقتصادية، تطالب بالمزيد من الأموال.

ثمة خمس دول في الاتحاد تساهم بنحو سبعين بالمئة من ميزانيته، منها بريطانيا ومنها أيضا إيطاليا التي باتت تحت حكم اليمين الشعبوي. ذلك التيار الذي تمدد كثيرا داخل دول التكتل ومؤسساته خلال السنوات الخمس الأخيرة، رغم أنه يعارض فكرة الاتحاد وينادي بالوحدة الوطنية على أساس تفوق العرق الأبيض.

أزمة الشعبوية في الغرب عموماً، والاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص، تغذت بشكل كبير على أزمة اللاجئين التي باتت بدورها من أبرز مواطن الضعف في التكتل. لم يفلح الاتحاد في توزيع اللاجئين بين دوله، ولا تكترث دول فيه بما لحق بدول أخرى من أضرار جراء سياسة الباب المفتوح التي اعتمدتها مع اللاجئين.

عجز الاتحاد الأوروبي عن تلبية المطالب الأميركية بزيادة مساهمة دوله في ميزانية حلف الناتو، هي من أعراض هشاشته أيضاً. وخاصة بعد انسحاب واشنطن وموسكو من معاهدة الصواريخ النووية قصيرة ومتوسطة المدى، وازدياد الخشية الأوروبية من أن تكون أراضي الاتحاد ميدانا لعودة سباق التسلح بين الدولتين.

أزمة الناقلة المحتجزة لدى طهران، رفعت سقف التقارب البريطاني الأميركي بعد طلاق لندن وبروكسل.
أزمة الناقلة المحتجزة لدى طهران، رفعت سقف التقارب البريطاني الأميركي بعد طلاق لندن وبروكسل

ثمة أزمة أخرى يعيشها الاتحاد وتفضح الوجه الآخر له، الوجه الذي يبدو فيه مجرد سوق اقتصادية كبيرة. فالاتحاد لم يستطع حماية الاتفاق النووي مع إيران بعد انسحاب الولايات المتحدة منه عام 2018. هو يخشى غضب واشنطن في تجاوز عقوباتها على طهران، ويخشى أيضاً من انهيار الاتفاق وخسارة استثماراته في إيران.

كل هذه الأزمات تقول إن وحدة الاتحاد ليست صلبة بشكل كاف، وخسارة بريطانيا كحليف بعد الخروج ستزيد من هشاشة هذه الوحدة. فكلما تباعدت المسافة بين لندن وبروكسل ضعف الموقف الأوروبي تجاه هذه الأزمات أو غيرها. ومن يعتقد أن الاتحاد مستعد أكثر من بريطانيا للخروج دون اتفاق، فهو مخطئ.

أزمة الناقلة البريطانية التي احتجزتها إيران، مؤخرا، أظهرت تباعدا أوروبيا – بريطانيا واضحاً، فالأوروبيون تعاملوا بكل فتور مع هذه الأزمة وكأن الناقلة لروسيا وليست لبريطانيا. عالج البريطانيون الأزمة بمفردهم وبالتنسيق مع الأميركيين الذين شكلوا وإياهم تحالفا عسكريا لحماية الملاحة الدولية في منطقة الخليج.

أزمة الناقلة المحتجزة لدى طهران، رفعت سقف التقارب البريطاني الأميركي بعد طلاق لندن وبروكسل. ذلك التقارب الذي يمكن أن يتجسد في اتفاقيات عدة، على رأسها اتفاقية تجارة حرة بين الطرفين، من شأنها أن تعين لندن على تعويض أضرار قد تلحق باقتصادها جراء مغادرة السوق الأوروبية.

ولا يخلو الحديث عن اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وبريطانيا، من تهديد مبطن تمارسه لندن للضغط على بروكسل من أجل إعادة التفاوض معها حول اتفاقية الخروج، خاصة وأن رغبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتفكيك الاتحاد لم تعد خافية على أحد، ولا يدخر جهدا في سبيل تحقيقها.

في المضيّ قدما نحو الخروج دون اتفاق، وضع بوريس جونسون الاتحاد الأوروبي في مواجهة كل الأزمات التي يعيشها ويخشى من تداعياتها على وحدته. يعرف جونسون أنه في ذلك كمن يطلق النار على قدميه، ولكن تجنب الصدام مع الاتحاد ومع المعارضة البريطانية سيفقده دعم الراغبين بإتمام الخروج بأي ثمن.

ليسوا أقلية أولئك الذين يدعمون جونسون للخروج من الاتحاد في الموعد المحدد باتفاق أو من دون اتفاق، واستطلاعات الرأي في المملكة المتحدة لا تزال تؤكد أن المعارضة البريطانية لم تحصل على الأكثرية اللازمة للظفر في أي انتخابات عامة مبكرة رغم حالة الحرب التي تشنها على جونسون منذ وصوله للسلطة.

لن يكون الاتحاد الأوروبي قادرا على معاقبة بريطانيا كدولة هامشية في القارة العجوز. يجدر بالأوروبيين دعم مساعي المعارضة البريطانية لإلغاء “بريكست” كلياً، فهو خيار يحمي وحدة الاتحاد ويجنب المملكة المتحدة تداعيات الخروج دون اتفاق، ولكنه قد لا يحمي الديمقراطية البريطانية من إحباط الفائزين في استفتاء 2016.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: