أبناء داعش في المخيمات قنابل صغيرة تتوعد بلحظة الانفجار
رغم إعلان قوات سوريا الديمقراطية في 23 مارس 2018 القضاء على “خلافة” تنظيم الدولة الإسلامية، بعد تجريده من مناطق سيطرته في بلدة الباغوز في محافظة دير الزور، إثر أشهر من المعارك بدعم من التحالف دولي بقيادة ولايات المتحدة، مازالت دوافع الإرهاب موجودة بقوة، فعلى غرار ما يشكّله التنظيم من خطر على الأمن الدولي إذا ما قرر تحريك خلاياه النائمة في كل مكان انتقاما من خسارته الميدانية الأخيرة، فإن بقاء عائلات وأبناء التنظيم في مخيمات الشمال السوري تزيد المخاوف بشأن تهيئة جيل جديد من مقاتلي التنظيم يرثون أفكار الكراهية والعنف عن أبائهم، وأظهرت مقابلات صحافية أجراها موقع أحوال تركية في معسكر “روج ” حجم معاناة أسر التنظيم واستعدادها لمواصلة طريق التطرف إذا تجاهل مصيرها المجتمع الدولي.
تُرافقنا حرارة الصحراء الحارقة عند وصولنا إلى معسكر روج، الذي يؤوي نساء وأطفال تنظيم الدولة الإسلامية، القادمين من كل حدب وصوب، في خيام بُنيت على عَجَل. يُرحّب بنا المشرف على المعسكر ويصطحبنا إلى مكتب، كان في الأصل حاوية كبيرة. نحن هناك لنُجري حوارات مع النسوة والأطفال، لكي نفهم لماذا أتوا إلى سوريا، وما إذا كانت النساء يُردن العودة إلى أوطانهن، وكيف يعيش أطفالهن في هذا المخيّم.
بعض الخيام عليها شعار مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية. لكن المجتمع الدوليّ لم يقدم بعد إسهاماً في صيانة المخيّمات. تتولّى الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا مسؤولية العناية بعشرات الآلاف من خيام النساء والأطفال، إلى جانب ذكور من أعضاء تنظيم الدولة الإسلامية، تشير تقارير إلى أن عددهم يصل إلى 12 ألفا و500.
ويبلغ العدد الإجمالي للأسر التي تعيش في هذا المخيّم 529 أسرة، ولدى معظم تلك الأسر ثلاثة أطفال على الأقل. جاءت نسوة من تنظيم الدولة الإسلامية، ينحدرن في الأصل من تركيا، لمقابلتنا. لكنهن قررن عدم التحدث إلينا. بل إن امرأة بلجيكية من أصول تركية، كانت ترتدي حجاباً أسود اللون رفضت حتى أن تصُرّح لنا باسمها. وعلى الرغم من أنهن يدّعين أن صمتهن هدفه تجنّب ما فعله صحافيون من تحريف وتشويه من قبل، فإن السبب الحقيقي هو أنهن يعتقدن أن فرصهن في العودة ستتبدد إذا تكشّفت هوياتهن للرأي العام.
سيبقى هنا
وسط زحام شديد، تدخل امرأة طويلة إلى المكتب، مرتدية نقابا أرجوانيا ونظارة شمس على الموضة. أتت تلك المرأة إلى المخيّم بعد الاعتقاد خطأً بأنها إميلي كونيغ، سيدة المخيّم الشهيرة. تنتمي هذه المرأة إلى الكاكوز الأتراك، وتنحدر من مولدوفا. كان زوجها يعمل في نشاط بناء القصور الفخمة في إسطنبول، وما زالت أسرته تعمل في هذا القطاع. وتقول السيدة إنها تستطيع شراء كل ما تريده من مقصف المعسكر، والتمتع بحياة فيها قدر من الراحة، على الرغم من الظروف الصعبة، وذلك بفضل الدعم المالي الذي تقدّمه لها أسرتها.
تعيش هذه المرأة في المعسكر مع أطفالها الأربعة. ابنها الأكبر عمره 17 عاماً. وعندما سألها المشرف على المعسكر، ما الذي سيحدث عندما يبلغ ابنها 18 عاماً، هزّت كتفيها وردّت قائلة “سيبقى هنا”.
تقول السيدة، التي كان يُعتقد أنها إميلي، إنها تعرّفت على زوجها في إسطنبول، عندما كان عمرها 19 عاماً، وإنهما تزوجّا وعاشا حياة سريعة. وتشير إلى أنهما كانا يقضيان كل وقتهما في ملهى رينا الشهير في إسطنبول، المطل على البوسفور. أضافت “كنت امرأة عصرية، وكنت ألبس ما يحلو لي”.
بعد ذلك بدأ حموها يتحدث معها عن لباس المرأة المسلمة، وكيف يجب أن يكون محتشما. ومع استمرار الأب على نمط حياة الملاهي الليلية الذي كان يعيشه، حتى بعد أن أنجبا أطفالهما، اختارت إميلي الإسلام، متأثرة على ما يبدو بحموها. وحسبما فهمت، فإنها تمكّنت بعد ذلك من التأثير على زوجها وإقناعه بالحياة المُحافظة. استمرّت الحياة على هذا النحو، حتى عرض أحد أصدقاء زوجها –وكان شخصاً اختار طريق التطرف– خياراً جديداً.
انتقلا إلى سوريا، اعتقاداً منهما بأن حياتهما هناك من الممكن أن تكون متماشية مع صحيح الإسلام. وحالما وصلا إلى هناك، صادر تنظيم الدولة الإسلامية جوازات سفر الأسرة، كما فعل مع كل الأجانب. استقر بهم الحال في الرقّة. عندما سألناها عمّا إذا كانت غير مرتاحة لقطع الرؤوس والجلد العلني، قالت إن زوجها كان غيورا، ولم يكن يسمح لها بمغادرة المنزل، وإنها من ثم كانت تسمع بعض الأخبار فقط من جيرانها. أُلقي القبض عليهم بينما كانوا يحاولون الفرار إلى تركيا بمساعدة مهرّبين في عام 2017.
قد تكون المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية انتهت كمعركة واقعية على الأرض. لكن الأسس التي يمكن لذلك التنظيم أن يقوم عليها ويعود للمشهد من جديد ما زالت موجودة بقوة
ويقبع زوجها حالياً في السجن، بينما تعيش هي في المعسكر مع أطفالها، الذين التحقوا بمدرسة أسّستها الإدارة الكردية. بعد ذلك دخلت سيدة أخرى تُدعى يغمور كيليتش، وهي امرأة كردية شابة غادرت الدنمارك برفقة زوجها لتأتي إلى روج آفا. لدى تلك السيدة الحق في الإقامة في الدنمارك، لكنها لا تحمل الجنسية الدنماركية. أمّا زوجها، فهو دنماركي من أصل مغربي.
ولا يسع أحد إلا أن يتساءل: ماذا تفعل هذه المرأة في حركة تأسّست في البداية للقضاء على الأكراد، خاصة بالنظر إلى أن أبيها أحد قادة الفرع الدنماركي لحزب الشعوب الديمقراطي، وهو حزب سياسي في تركيا يناصر حقوق الأكراد. بدا عليها أنها تفهم الأسئلة التي تقف في حلقنا من تعبيرات وجوهنا، وقالت إن زوجها خدعها. لم تخض في تفاصيل، لكن كان من الواضح أنها ما زالت غاضبة من زوجها. بدا ذلك جلياً في عدم ذكرها اسمه وحديثها الدائم عن والدها، وكيف أنه لم يتخلّ عنها أبداً، وأنها ستعيش معه في مدينة قونيه المُحافظة في وسط تركيا.
تريد كيليتش أن تُغادر في أقرب وقت ممكن لتذهب إلى تركيا. فنظراً إلى أنها لا تحمل أي جنسية سوى الجنسية التركية، فإن هذا هو أملها الوحيد. غلبتها دموعها وهي تشرح لنا كيف أن بعض الأكراد تمكّنوا من الذهاب إلى العراق، بينما هي ما زالت عالقة في هذا المعسكر. وعلمنا منها أنهم سبحوا عبر النهر في عام 2017 وسلّموا أنفسهم لوحدات حماية الشعب الكردية بعد إجراء ترتيبات مسبقة معهم. وشأنها شأن غيرها من النسوة لم تستطع كيليتش أن تمنع دموعها، التي انهمرت في نهاية لقائنا بها، حتى أنها فارقتنا ودموعها على وجنتيها.
وهناك نسوة وأطفال أتراك في المعسكرات. وتستطيع أي دولة، إذا كانت لديها الرغبة، أن تأتي إلى المعسكر وتستعيد مواطنيها. وأوضح القائد مظلوم كوباني لنا أن الإفراج عن المواطنين الأتراك يستلزم أن تلجأ تركيا إلى القنوات الرسمية المفتوحة مع الإدارة. وأشار في هذا الإطار إلى أن تركيا “شأنها شأن كل دولة أخرى، عليها فقط أن تعبّئ النماذج الرسمية، وتتبع الإرشادات، لتستعيد مواطنيها”. لكن نظراً إلى أن أنقرة صنّفت المنطقة على أنها كيان إرهابي، فإنه من المستحيل بالطبع تلبية هذه المتطلبات.
مصير الأطفال الأتراك
إذن، ما الذي سيحدث؟ تقول سيلين يلديز، التي أتت من بلجيكا وكانت عندما التقينا بها ترتدي حجابا أسود اللون يشير إلى أنها ما زالت تتبنّى المعتقدات الراديكالية، إنها لا ترسل أبناءها إلى مدرسة المعسكر تجنباً للالتباس اللغوي. وتعللت بأنهم “يتحدثون اللغة العربية، وسيدرسون اللغة الفلمنكية أو البلجيكية”. لكن من الواضح أنها لا تريد أن يتعلّم أبناؤها اللغة الكردية.
وبالمقارنة مع الهول، فإن معسكر روج به عدد أكبر من النساء “المتحررات” بدليل أن النسوة يرتدين أحجبة أرجوانية. في المقابل، فإن امرأة خنقت ابنتها ذات مرة في الهول لأن الفتاة رفضت ارتداء الحجاب. وفي اليوم التالي لتلك الواقعة، خرجت تظاهرة بمشاركة أطفال رُفع خلالها علم تنظيم الدولة الإسلامية.
هؤلاء الأطفال تربُّوا على أيدي أمهاتهن اللائي زرعن بداخلهم فكراً مسموما ومشاعر كراهية. وكل يوم يقضيه هؤلاء الأطفال في هذه المعسكرات يجعلهم يتأثرون أكثر بفكر أمهاتهن. بمعنى آخر، فإن المعسكرات تشكّل مراكز لتنشئة وتدريب جيل جديد من مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية. ومن غير الواضح ما إذا كان هؤلاء الأطفال سيعودون في يوم من الأيام إلى بلدانهم، أو ما الخطر الذي سيشكّلونه على مجتمعاتهم إذا عادوا إليها.
والاتفاق الذي وقّعته روج آفا مع يونيسف في جنيف مهمّ في هذا الإطار. هذا الاتفاق، الذي يقدّره مظلوم كوباني لأنه شمل مشاركة ممثلين من الأمم المتحدة ومثّل نقطة تحوّل في عزلة روج آفا الدولية، من الممكن أن يُصبح خطوة مهمة على طريق إعادة تأهيل الآلاف من الأشخاص.
قد تكون المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية انتهت كمعركة واقعية على الأرض. لكن الأسس التي يمكن لذلك التنظيم أن يقوم عليها ويعود للمشهد من جديد ما زالت موجودة بقوة. وآمل أن يدرك العالم، وعلى وجه الخصوص أوروبا، هذه الحقيقة، وأن يتخذ الإجراءات اللازمة.