أهداف الثورة المضادة في المشهد السياسي الجزائري الراهن
الاختزال التعسفي للأزمة ينبئ عن شيء خطير جدا وهو أن النظام الجزائري لم يعالج نفسه بعد من مرض الانفصام الذي أصيب به طوال مرحلة الاستقلال، بما في ذلك فترة العشرية الدموية.
يشهد المشهد السياسي الجزائري حاليا توتّرا مطردا جراء الدعوات والمقترحات التي تقدمها جهات محسوبة على النظام الحاكم تحت غطاء تسريع حل الأزمة الوطنية الجزائرية، غير أن هدفها الحقيقي يتمثل في نقطتين اثنتين؛ وهما إزاحة الأزمة عن مصدرها الحقيقي الذي هو النظام الحاكم وإلصاقها بالحراك الشعبي، وتكريس هذه التهمة الموجهة إلى قطاع واسع من الشعب الجزائري المشارك في المظاهرات من أجل استخدامها كذريعة لتمرير مشروع الثورة المضادة لتقويض المطالب الشعبية التي عبر عنها الشارع الجزائري بقوة وجرأة.
في هذا السياق يمكن للملاحظ السياسي أن يدرك ببساطة أن المحاولات التي يبذلها النظام الجزائري لحصر أزمته هذه في الاختلاف حول الأساليب التي يعتقد واهما أنه بمقتضاها يمكن التوصل إلى اتفاق حول تحديد موعد الانتخابات الرئاسية والآليات التي تضمن سيرها الطبيعي، بعيدا عن الغش والتزييف، تدخل مباشرة في نطاق الثورة المضادة المقنعة التي يمارسها كرد فعل سلبي على الهزة الشعبية القوية.
وهنا ينبغي التوضيح أن هذه الثورة المضادة التي تحدث الآن في الجزائر لها استراتيجية واضحة، خاصة وأن مصدرها معروف كما أن التصدي لها وتجفيف منابعها ليس بالأمر الهين، ونظرا لذلك فإن الذي ينبغي أن يفعله النشطاء في الحراك الشعبي هو إدراك مخاطرها وفهم كيفية تنفيذها، ثم مقاومتها سلميا بواسطة تعميق نقد مواصلة النظام الحاكم لعمليات طمس المشكلات الكبرى التي أدخلت الجزائر في هذا النفق المظلم، وكذلك بتنوير الوعي الشعبي وجعله يدرك أن هذا الطمس المنهجي هو أحد الأسباب الجوهرية التي ستقضي مع الوقت على هذه الثورة المضادة.
في هذا السياق ينبغي التأكيد أن هذا النوع من الاختزال التعسفي للأزمة ينبئ عن شيء خطير جدا وهو أن النظام الجزائري لم يعالج نفسه بعد من مرض الانفصام الذي أصيب به طوال مرحلة الاستقلال، بما في ذلك فترة العشرية الدموية. علما أن هذا المرض لا يزال يشل لديه القدرة على رؤية الوقائع الموضوعية كما هي، وعلى استخلاص الدروس والعبر من شتى الانتكاسات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي عانت منها البلاد طوال 57 سنة.
وفي الحقيقة فإن المشهد السياسي الجزائري ينتج حاليا عدة أنماط من الممارسات المضادة للتغيير السلمي الذي يطالب به الشعب، ويعتقد أصحاب هذه الممارسات واهمين أن النظام سوف ينجح بذلك في ربح حرب المناورة وحرب المواقع ليضمن لنفسه البقاء في الحكم، وإجهاض أي محاولة تهدف إلى إنجاز التحول الديمقراطي. ومما يؤسف له أن النظام الجزائري ما زال أسيرا لهذا النمط المتهافت من الثقافة السياسية المتخلفة التي تشكلت لديه بفعل تعوّده على إخماد الانتفاضات التي عرفتها البلاد بسبب قضايا الهوية الثقافية واللغوية، أو أزمة السكن المتفشية، أو جراء غياب التنمية المتطورة المتوازنة بين الشمال والجنوب، أو بسبب تفاقم الغضب الشعبي من التداعيات السلبية والتسلطية للحكم الفردي أو الشللي الجهوي المكرس في البلاد، مرة باستخدام القوة، ومرة أخرى باستخدام الوعود المادية والرمزية البراقة.
وفي هذا السياق ينبغي التذكير بأن النظام الجزائري تمرّس طويلا في مجال إعادة إنتاج شخصيته القاعدية من خلال ممارساته التي نجح فيها، مثل إسقاطه لمشروع التعددية الحزبية بواسطة فرض العقم السياسي، وترسيخه لتقليد الانفراد بالحكم وإشعاله لنيران التناحر بين مختلف الفاعلين السياسيين في الحياة الوطنية، فضلا عن تبديده لطاقات المجتمع المدني وتحويله إلى بوق أجوف للسلطة الحاكمة.
الواضح أنّ هذا الإرث الثقيل يلعب الآن دورا محوريا في تدمير الجهود الساعية إلى بناء الإنسان الديمقراطي والمجتمع العصري وركائز ثقافته الوطنية المؤسسة على أخلاقيات العيش المشترك في الجزائر. ولذلك فإن الممارسات المضادة التي ينفذها النظام الجزائري تأخذ أشكالا أخرى منها على سبيل المثال تأجيل وتجزئة الاستجابة لمطالب المواطنين، واستهداف نشطاء الحراك الشعبي بمحاصرتهم والتضييق على تحركاتهم مرة، وباعتقال وسجن بعضهم بعد اتهامهم بالتحريض على التجمهر أو حمل الراية الثقافية الأمازيغية، أو الإساءة إلى المسؤولين في المحافظات والبلديات مرة أخرى.
علما أن الهدف الاستراتيجي من وراء هذا هو خلط الأوراق وخلخلة الحراك الشعبي على مراحل ثم اختراقه وتفتيت مكوناته البشرية إلى شظايا متناقضة ومتناحرة. من الملاحظ أيضا أن النظام الجزائري يعمل الآن على استثمار نتائج القضاء على العهدة الخامسة للرئيس المخلوع عبدالعزيز بوتفليقة التي توجت بفرض الاستقالة عليه وعلى بعض وزرائه والمسؤولين الكبار وخاصة جماعة تلمسان والغرب الجزائري وأولئك المحسوبين على هذه الجماعة، ويوظفها براغماتيا بهدف اكتساب الشرعية التي تمكنه من إطالة عمره في الحياة السياسية الوطنية.
ولا شك أن ممارسة النظام الجزائري لمختلف أساليب التحايل والإجهاض والمراوغة تدخل مجتمعة في صميم الثورة المضادة، وهذا يفسر الأسباب الحقيقية التي عرقلت ولا تزال تعرقل الحراك الشعبي الجزائري عن إنجاز مهامه الكبرى ومنها تحقيق المطلب الشعبي المتمثل في ضرورة الإسراع في محاسبة ومحاكمة أحزاب الموالاة التي تمثل ترسانة الثورة المضادة وتحاول بالتالي أن تبيّض وجهها بمساحيق وهمية للتغطية على دورها الفعلي في تكريس الحكم الدكتاتوري، وإفشال التعددية السياسية والمشاركة في تحطيم التنمية الوطنية.