المرأة تدفع ثمن أنوثتها منذ الصغر.. جرائم الشرف عفة باهظة الثمن
تعرف المجتمعات العربية بهوسها في المحافظة على جزئية صغيرة من جسد المرأة باسم الشرف أكثر من حرصها على المرأة في حد ذاتها. في المقابل تحاول بعض المنظمات الدولية والجمعيات النسائية تحدي الأعراف والنواميس العربية لإنقاذ الأنثى من مشرط الختان، الذي سافر مع الجدات والأمهات حتى إلى أشد الدول المتقدمة، رفضا له، ومن أدوات فحص العذرية ومن طقوس أشبه بالطلاسم السحرية ضمانا لقطرات دم ليلة الزفاف عوضا عن برك من دماء تقبر الأنثى دون أن تدافع عن نفسها.
“الشرف”، كلمة قصيرة في عدد حروفها لكن مدمرة من ناحية تأثيراتها اجتماعيا ونفسيا وثقافيا، في صورة تلخّص عمق تعقيداته جملة شهيرة من قصة حادثة شرف ليوسف إدريس عندما علا صوت أم جورج وهي تقول مزغردة “سليمة إن شاء الله والشرف منصان”.
قد تكون فعلا فاطمة (بطلة القصة) سليمة، من الناحية الفيزيولوجية المجتمعية المحددة لهذا الشرف (غشاء البكارة). لكنها انهارت معنويا وتغيّرت نفسيا. لم تفقد فاطمة عذريتها لكنها فقدت براءتها. لم ينتهك “شرفها” لكن انتهكت إنسانيتها. في صورة تكررت، وتتكرر آلاف المرات، في مجتمعات الشرف فيها مرادف للدم.
جاء في تعريف الشرف أنه مجموعة من القيم الأخلاقية منها العلوّ والصدق والإخلاص والتربية الحسنة، ومن معانيه ﺃﻳﻀﺎ ﺻﻴﺎﻧﺔ ﺍﻟﻌﺮﺽ ﻭﺍﺣﺘﺮﺍﻡ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ. الشرف إنسانية وسلوك لا سبب تُزوّج بمقتضاه البنت غصبا لأنها تعرضت للاغتصاب. وتُقتل ضحية والحجّة الدفاع عن الشرف. وتُختن لأن ذلك من علامات الطهارة والعفة. وتطول قائمة الممارسات التي تتعرض لها الفتاة وتحوّل هذا الشرف إلى حمل لا ينزاح عن كتفيها إلا بـ”الدخلة البلدي”.
يكشف البحث في الشرف عن مرض اجتماعي مزمن تعاني منه المجتمعات العربية. كما يكشف أن التغيير لا يأتي بترديد الشعارات والمفاهيم التحررية والتوقيع على الاتفاقيات ولا بتبني الأفكار النسوية النخبوية في مفهومها الجنسي المتمرّد، أي في صورتها المؤنّثة للمجتمع الذكوري.
إذا الموؤودة سئلت
يصف مراسل وكالة الأنباء الفرنسية عملية ختان حضرها قائلا “في إحدى قرى ناحية قلعة دزة (في كردستان العراق)، حيث تمتهن امرأة مسنة ممارسة الختان، دخلت شوين ذات الأعوام الأربعة وهي تحتضن لعبة بلاستيكية إلى الغرفة دون أن تعرف ما ينتظرها. أمسكت بها والدتها بعد أن أجلستها على بطانية قديمة، وما هي إلا لحظات حتى أخرجت العجوز موسا للحلاقة وقطعت جزءا صغيرا من جهاز الطفلة التناسلي. ثمّ قامت المرأة برش الجزء المصاب بالرماد بغية التئام الجرح بسرعة ولكي تتخثّر الدماء ولا تتعرض الطفلة للنزيف. وأوصت العجوز والدة الطفلة بغسل الجرح بالماء والصابون لثلاثة أيام وترطيبه بمرهم للعيون”.
مثل هذا المشهد المؤلم يتكرر في مناطق عديدة لا تزال تتمسك بهذه العادة العنيفة رغم التنديدات الدولية والقوانين التي تجرّمها. ووفقا لإحصائيات الأمم المتحدة يبلغ عدد النساء المختونات 200 مليون امرأة على مستوى العالم، يعيش نصفهن في مصر وأثيوبيا وإندونيسيا، كما أن أكثر من 90 بالمئة من النساء في الصومال وغينيا وجيبوتي مختونات.
مهما تقدمت المجتمعات ستبقى الممارسات والقوانين موجودة، وستبقى العائلات تختن بناتها وتزوجهن غصبا وتقتلهن ظلما، وسيبقى هناك نواب شعب يطالبون بتقنين فحوص العذرية
يزعم المدافعون عن هذه الممارسة أن ختان البنت يحميها من الانحراف ويضمن حسن أخلاقها ويحمي عفّتها. والختان يساعد على بلوغ البنات واكتمال أنوثتهن كما أنه نظافة لهن.
وترفض مجتمعات أخرى هذه الممارسة وتنتقدها، لكنها وللمفارقة تنتشر فيها ممارسات وعادات أخرى، قد تختلف في الشكل، وبعضها أقل بشاعة وضررا، لكن لها نفس الغاية والتبرير المرتبط بحماية الشرف. في تونس مثلا، هناك عادة تعرف بـ”التصفيح”. وهذه الممارسة موجودة في مجتمعات عربية أخرى لكن بتسميات مختلفة، ففي الجزائر مثلا يطلقون عليها اسم “الربيط” وفي المغرب “التقاف”.
في تونس، يتم هذا الطقس، الذي تشرف عليه امرأة مسنة ضالعة في هذه العملية، بجرح الفتاة قبل بلوغها سبع جروح على فخذها أو ركبتها اليسرى. ثم تغمس 7 حبات من الزبيب في الدم الذي ينزف من الجرح وتأكلها البنت وهي تردد “أنا حيط (حائط) وابن الناس خيط”.
وعن طريق هذه العملية يتم “غلق” البنت، بحيث تصبح غير قابلة للمعاشرة الجنسية ولا تفتح إلا ليلة الزفاف، وبطريقة مشابهة لطريقة ‘الغلق”، لكن تختلف على مستوى ما تردده البنت حيث تصبح هي “الخيط” وابن الناس “الحيط”.
الأهم في هذه العملية، التي يشترط فيها السرية، أن تبقى المرأة التي قامت بالعملية على قيد الحياة، أو تورّث الطريقة وأسرار الربط إلى امرأة أخرى، لتقوم بـ”حلّ” الفتاة قبيل الدخلة، وإلا فلن يتمكن زوجها من الاقتراب منها.
فيما يقول البعض إن هذه الممارسة تقلّصت، ولم تعد موجودة إلا في بعض المناطق الداخلية، يذهب آخرون إلى قول العكس، مشيرين إلى أن ارتفاع نسب الاغتصاب والتحرش، والتغيرات الثقافية والسكانية التي طرأت على المجتمع، أدى إلى العودة إلى مثل هذه الممارسات.
فحص العذرية في بعض المجتمعات بات شرطا مؤكدا لإتمام الزواج رغم أن الحقائق العلمية تؤكد ظلم هذا الفحص. فهناك عدة أنواع لغشاء البكارة وبعضها يسمح بحصول المواقعة الجنسية دون أن يتمزق. وعدد كبير من النساء المتزوجات لا يفقدن غشاء البكارة إلا بعد عملية الولادة. وهذا الغشاء معرض للتمزق نتيجة أيّ حادث قد يكون بسيطا. فتاة صغيرة تلعب على المرجوحة أو تركب على دراجتها الهوائية على أثر حركة ما تمزق هذا الغشاء، هل تعتبر فاقدة للشرف؟
من يتحمل المسؤولية
منذ مدة تتعالى الأصوات في تركيا ولبنان وتونس ودول عربية عديدة مطالبة بتعديل القوانين التي تجيز إسقاط التهمة عن المغتصب إذا تزوج من الضحية. كل الحملات والكتابات والشعارات التي رفعت منددة بهذه القوانين، سبق أن ظهرت في مناسبات كثيرة. ونفس العبارات تردد منذ سنوات طويلة تطالب بتعديل القوانين، لكن هل هي حقا أزمة قانون؟
|
وفرضا لو تم تعديل المادة 277 من القانون التونسي والمادة 308 من قانون العقوبات الأردني والمادة 522 من القانون اللبناني والمادة 475 من القانون المغربي، وغير ذلك من النصوص التي تقضي بسقوط العقوبة عن الجاني في حال تم الزواج بالمغتصبة، هل ستختفي هذه العادة؟
القانون الجنائي المصري ألغى المواد 290-291 المتعلقة بالإعفاء من العقوبة إذا تزوّج الجاني المعتدى عليها، منذ عام 1999، وفي عدد قليل من الدول العربية لا توجد مثل هذه النصوص القانونية، لكن ذلك لا يلغي هذه المقايضة، خوفا من الفضيحة وصونا للشرف.
يسقط الحكم على المغتصب بمجرّد أن يقبل الزواج من ضحيته التي اغتصبها، عرف وقانون يطبقان في لبنان بلد الانفتاح، ويحدث أيضا في تونس، بلد حقوق المرأة، ويحدث في مصر وفلسطين والأردن والجزائر وغيرها من الدول.
تزويج المغتصبة بمغتصبها، ليست الجريمة الوحيدة المسجلة تحت خانة الشرف، ففي بلد مثل الأردن، عاديّ أن يقتل أخ أخته. إذا شكّ فيها، يرديها قتيلة وتقيد الجريمة «جريمة شرف».
يشهد الأردن سنويا من 15 إلى 20 جريمة قتل تصنف على أنها جرائم شرف. لحظة غضب تبدد كل الحب الأخوي. ولم يعد يتردد إلا صدى صوت يقول «لا يغسل العار إلا الدم». شخص ليس لديه السلطة القانونية أو الشرعية لتنفيذ الحكم بـ«المتهمة» التي لم تتمتع بحقها في الدفاع عن نفسها وكرامتهاوحقها في الحياة. ما هي عقوبته؟ بضعة أشهر يخرج بعدها «المتهم البريء» من السجن مرفوع الرأس، لأنه دافع عن شرفه.
لكن، الأخطر من هذا القانون، في بلد مثل الأردن، هو قانون حبس الضحية. إذ يتم بمقتضى هذا القانون حبس النساء اللاتي يتعرّضن لمخاطر القتل، ولمدة غير محددة. يعني من الممكن أن تقضي المرأة المهددة حياتها سنوات في الحبس قبل السماح لها بالخروج.
ستبقى هذه الممارسات والقوانين موجودة، وستبقى العائلات تختن بناتها وتزوجهن غصبا وتقتلهن ظلما، وسيبقى هناك نواب شعب يطالبون بتقنين فحوص العذرية، وستبقى مختلف مظاهر وأد البنات مهما تقدمت المجتمعات وعلا مستوى تعليمها موجودة.
إن ما يمحو هذه الممارسات ليس النص القانوني الذي كتبه مشرّع، والذي قد يكون بدوره متأثرا بثقافة الشرف في بعدها الجنسي، بل عقلية مجتمعية الشرف عندها صدق وعمل وتربية خالية من العقد والتابوهات المتحجرة، لا فقط قطرات الدم التي تسال ليلة الزفاف، فماذا لو كان غشاء البكارة مطاطيا؟
الأمر لا علاقة له بالانفتاح والتحرر في مفهومه الجنسي المتمرد على مفهوم الشرف في المجتمعات الذكورية، بل هي مبادئ يُنشّأ عليها الأفراد، ذكورا وإناثا. مبادئ لا نتلقّاها بشكل مباشر ولكن ضمن تحذيرات مبطنة. البنت تكبر ولا تفهم مكونات جسدها، كل ما تعيه هو أنها تحمل “أمانة” يجب أن تحافظ عليها لأنها ليست ملكا لها بل ملك زوجها وإن فقدتها فإن عار جريمتها عقابه الموت. والفتيان يمارسون عاداتهم السرية والإحساس بارتكاب الخطيئة يلاحقهم. هذا يكشف أن المشكل في تربيتنا، والحل أيضا في تربيتنا.
لا يمكن أن ألوم أخي، الذي درس في جامعة فرنسية، لأنه حين أراد أن يتزوج بحث عن “بنت الحلال” بكل ما يحمله هذا التوصيف المجتمعي من دلالات يأتي “الشرف” بمفهوم العذرية في مقدمتها. بعض الناشطات في مجال حقوق المرأة يرفع الشعارات المنددة لـ”تجنيس″ الشرف، هؤلاء الأمهات سيرددن على بناتهن، وإن كان لا شعوريا، ما تعلمنه من أمّهاتهن وجدّاتهن عن شرف البنت الذي “زي عود الكبريت ما يولعش غير مرة وحدة”.
لكن حتى هذا الأمر بات من الممكن تجاوزه، وأصبح من الممكن أن “يولّع” مرة أخرى بفضل عمليات ترقيع البكارة وغشاء البكارة الصيني ولم يعد هناك مشكل، فالمال يمكن أن يشتري الشرف. ومن أجل هذا الشرف نبرر الخداع والكذب والتزييف.
التغيير يحتاج عقودا ليتحقق، وليتحقق يحتاج ثقافة وتعليما خاليين من ترسّبات القراءات المشوهة للدين والتراث ومن عقد التابوهات
ستار الشرف
يقول الباحث حسن عباس في دراسة حملت عنوان “الخطاب الشبقي عند العرب: رفعة مكانة الجسد في التراث”، “لم تكن المرأة في نظر العرب مخلوقا ثانويا مسيطرا عليه بالتمام كما يعتقد الكثيرون بل كانت لغزا يتطلّب البحث لسبر عمقه. طبعا لم يخرج هذا اللغز عن تصوّرات مجتمع بطريركي في طبيعته، لكنه مجتمع يبدو شديد الخوف من الأصل الأمومي للمجتمعات، وهذا ما تعبّر عنه الخشية الدائمة من المرأة. فالأنثى لغز يجد حلّه الدائم في إطار التصوّرات الشبقية”.
إذا أخذنا بهذه الفكرة، بالإضافة إلى متابعة سريعة في التراث العربي، ممّا قبل الإسلام، تنقلب الصورة. لم تكن المرأة في نظر العرب مخلوقا ثانويا مسيطرا عليه كما يعتقد الكثيرون. المجتمع الذكوري العارف بقوة المرأة وخطورتها، يخشى القوة، فأرسى مجموعة من القواعد المحددة للعلاقة وسجن المرأة في إطارها. وقد وجد في قصة الشرف ستارا يمكن الاحتماء به.
رغم تطور الثقافة الجنسية عبر توفّر الوسائل الرقمية وتكنولوجيات الاتصال والمعلومات، وظهور المجتمع الافتراضي، يبقى العقل العربي وتصوراته فيما يتعلق بالشرف والمرأة والعذرية على حاله.
سيأتي يوم نتخلص فيه من هذا الكبت، لكن، التغيير يحتاج عقودا ليتحقق، وليتحقق يحتاج ثقافة وتعليما خاليين من ترسّبات القراءات المشوهة للدين والتراث ومن عقد التابوهات. سيتحقق ذلك عندما تتعلم البنت الحفاظ على شرفها ليس خوفا من العار بل لأن في ذلك صون لإنسانياتها. وعندما يتعلم الولد أن الشرف عمل وإخلاص وأن الرجولة قيمة إنسانية لا جنسية.