باريس تخرج عن صمتها بالتصدي لأنشطة تركيا الدينية
على الرغم من نفي المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية حامي أقصوي مؤخرا افتتاح مدارس دينية مدعومة من قبل سفارة بلاده في فرنسا -وذلك في أعقاب رفض فرنسي واضح وهجوم شديد من قبل وزير التعليم الفرنسي- إلا أنّ حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم في تركيا الذي قام بتحويل النظام التعليمي في البلاد من نظام علماني مُنفتح ومُتسامح إلى منهج ديني مُتشدّد، ما زال يُصر على تعميم تجربة مدارس الأئمة والخطباء التركية في فرنسا وألمانيا وسائر دول الاتحاد الأوروبي، حسب ما أفاد به تقرير موقع أحوال تركية.
وطالبت الصحافة الفرنسية والسلطات الرسمية في باريس بنشر معلومات محقة وصادقة حول حقيقة هذه المسألة، والتصدّي لاستمرار المحاولات التركية عبر نشر التعليم الديني من خلال المساجد التابعة لحزب العدالة.
وسبق أن حذّر مركز الأبحاث الليبرالي “مونتاني” في باريس في تقرير رفعه إلى الرئيس إيمانويل ماكرون، من “مصانع إنتاج الأسلمة” التركية.
وكانت فرنسا أعلنت مرارا أنها لا ترغب في توظيف أئمة مساجد من تركيا، وقررت خصوصا تخفيض عدد الأئمة القادمين إليها من تركيا بمعدل 5 سنويا، نظرا إلى ما يقومون به من نشر للفكر المُتطرّف من بوابة التعليم الديني.
وبالتزامن مع المساعي الألمانية المُتزايدة على المستويين الرسمي والشعبي للحدّ من تغلغل مفاهيم الإسلام السياسي القادمة من تركيا في المجتمع الألماني، وعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أبريل الماضي بألا يكون هناك أيّ “تهاون” في مواجهة أولئك الذين يريدون فرض “إسلام سياسي يسعى إلى الانفصال” عن المجتمع الفرنسي، في تصريحات قويّة فسّرها مُراقبون بأنها موجهة للإسلام السياسي التركي بشكل خاص.
توظيف الدين
تتزايد المخاوف الألمانية، بسبب تبعية معظم الأئمة والمؤسسات الدينية في ألمانيا للاتحاد الإسلامي التركي (ديتيب) اليد الطولى للرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومخابراته في ألمانيا.
ويُعوّل حزب العدالة والتنمية الإسلامي التركي ورئيسه أردوغان على المساجد التابعة لتركيا في ألمانيا للتأثير على المسلمين وبث خطاب سياسي إسلامي مُتشدّد، وذلك بحجة تقديم التعليم الديني للراغبين.
وكانت مجلة “لوبوان” الفرنسية كشفت في مايو الماضي أنّ الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان يعتزم افتتاح مدارس تركية في فرنسا، وذلك بعد أن زار مسؤولون أتراك المدارس الثانوية الفرنسية في تركيا خلال شهر أبريل 2019 بقصد “الاعتراض على الأساس القانوني لتعليم الأطفال الأتراك في هذه المؤسسات”. وكلف أردوغان وفدا تركيًّا بزيارة فرنسا للاطلاع على تجربة المدارس الدولية فيها، وبحسب شخص مقرب من الملف لم تُسمّه “لوبوان”، فإنّ الفرنسيين “يتعرّضون لضغوط في إسطنبول وأنقرة من قبل سلطة أردوغان وذلك في ظلّ صمت وزارة الخارجية الفرنسية”.
وعلى إثر ذلك هاجم وزير التعليم الفرنسي جان ميشيل بلانكر مشروع إنشاء مدارس ثانوية تركية في بلاده، مُستنكرًا محاولات السلطات التركية توسيع نفوذها خارج حدود بلادها.
وحينها قال بلانكر في تصريحات لفضائية “بي.أف.أم.تي.في” الفرنسية، إنه يرفض المشروع التركي الهادف إلى إنشاء مدارس تركية في فرنسا، مُضيفًا “لدينا الكثير من بوادر سوء النية القادمة من تركيا، وهناك قلق كبير بشأن ما تفعله السلطات التركية مع الجاليات التركية في فرنسا”.
وزير التعليم الفرنسي جان ميشيل بلانكر هاجم مشروع إنشاء مدارس ثانوية تركية في بلاده، مُستنكرًا محاولات السلطات التركية توسيع نفوذها خارج حدود بلادها
ومن المعروف أن أحمد حمدي جاملي عضو لجنة التربية الوطنية وحزب العدالة والتنمية، علق على مفهوم الجهاد الذي أضيف إلى المنهج الدراسي التركي، قائلا “لا فائدة من تدريس الرياضيات لطفل لا يعرف الجهاد”.
وكانت الحكومة التركية طرحت في يوليو 2017، منهاجا دراسيا جديدا يُقدّم مفهوم “الجهاد”. وقال حينها وزير التعليم التركي عصمت يلماز إنّ “الجهاد موجود في ديننا ومن واجب وزارة التعليم ضمان أن يتم تدريس هذا المفهوم بطريقة صحيحة ومناسبة”.
واستدرك يلماز قائلا إنّ الأمر لا يتعلق بـِ”الحرب المقدسة” بل بما أسماه “الجهاد الجيد” الذي يزيد من “حبّ الوطن”. ويتميز هذا البرنامج أيضا بحذف نظرية التطور لتشارلز داروين واستبدال جزء كبير من البرنامج الذي كان مُخصّصا لمؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك وتحويله إلى الحديث عن محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو 2016.
يُذكر أنّه في صيف عام 2012، وبعد إعلان الرئيس التركي رغبته في “تدريب جيل متدين”، قامت أنقرة باستحداث ثلاثة دروس اختيارية في الدين في المدارس الابتدائية تتعلق بحياة النبي محمد وبقراءة القرآن وبالمعرفة الدينية الأساسية.
فيما بعد، قام نظام أردوغان تدريجيا باستبدال هيمنة المدارس الثانوية العامة “الكلاسيكية” بمدارس ثانوية تهدف إلى تدريب الأئمة والخطباء الإسلاميين، حيث يتم تسجيل الطلاب الذين فشلوا في امتحانات القبول في المدارس الثانوية العامة تلقائيا في هذه المؤسسات الدينية.
وتسببت آلية اعتماد نتائج نظام المرور من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الإعدادية، في فتح الباب واسعا أمام إرسال الطلاب الذين لم ينجحوا إلى مدارس الأئمة والخطباء.
مراقبة المدارس الدينية
في ظل المخاوف من الإسلام السياسي التي تروج لها تركيا، وقعت كل من أنقرة وباريس “إعلان نوايا” عام 2010 بخصوص وضع الموظفين الدينيين الأتراك في فرنسا، والذي تم بموجبه رفع عدد الموظفين من 121 إلى 151 موظفا.
وانطلاقا من ضرورة تأهيل رجال دين يتمتعون بمعرفة كافية باللغة والثقافة الفرنسيّتين، نصّ الإعلان على أهمية تأهيل المواطنين الفرنسيين من أصول تركية في كليات الشريعة بتركيا.
وبموجب الفقرة المذكورة من الإعلان، يجري تخفيض عدد الموظفين الدينيين الأتراك في فرنسا تدريجيا اعتبارا من موسم 2014-2015، لتتم الاستعاضة عنهم برجال الدين الفرنسيين من أصول تركية.
وبمقتضى قانون العلمانية في فرنسا، يحظر على الحكومة تقديم الدعم المالي للهيئات والمؤسسات الدينية، في حين يسمح للإدارات المحلية بتقديم التسهيلات عند منح الأراضي بغرض إنشاء أماكن العبادة، إلى جانب عدد من الخدمات الأخرى.
وتعتبر فرنسا الدولة الأوروبية الأولى من حيث عدد المسلمين على أراضيها، إذ يتجاوز تعدادهم الـ6 ملايين شخص غالبيتهم من دول شمال أفريقيا.