سياسة خارجية جديدة تُجهّز بريطانيا لفترة ما بعد بريكست
مع اعتلاء الحكومة البريطانية الجديدة بقيادة بوريس جونسون سدة الحكم، واقتراب موعد الحسم في ملف الخروج من الاتحاد الأوروبي حتى دون اتفاق، تلوح في الأفق البريطاني تغيرات جذرية في مستوى السياسات الخارجية، التي يرجح أن تكون متبّدلة عمّا عهدته لندن في السنوات الأخيرة وخاصة في عهد تيريزا ماي. ويرصد الكثير من المتابعين ملامح النهج الجديد لجونسون الذي يبدو أنه سيكون مبنيا بالأساس على الأخذ من روح سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب القائمة على تقسيم العالم إلى شقين، الأول يضم الأشرار والثاني يضم الأخيار.
لندن- تقدم الحكومة البريطانية الجديدة برئاسة بوريس جونسون على إرساء وتوخي سياسة خارجية جديدة تقلب القواعد الكلاسيكية التي قامت عليها سياسات لندن في السنوات الأخيرة.
وتسعى الحكومة إلى إيجاد نقطة توازن بين خياراتها الأطلسية المرتبطة بالعلاقات مع الولايات المتحدة، وخياراتها الأوروبية المرتبطة بشكل حساس بالعزم على الخروج من الاتحاد الأوروبي، حتى دون اتفاق، في أواخر شهر أكتوبر المقبل.
وعلى الرغم من الأعراض التي أظهرتها حكومة جونسون في اتخاذ مواقف حازمة من إيران، إلا أن هذه التحولات بقيت متأنية تسعى لاحتفاظ بريطانيا بمكانتها الأوروبية وبتمسكها بخيار التعويل على قوة بحرية أوروبية لتأمين الملاحة الدولية في مضيق هرمز ومياه الخليج.
ورصد المراقبون قراءة بريطانية جديدة لآليات عمل الأسطول الأوروبي في مهمته الجديدة بحيث لا تكون بعيدة عن الآليات التي تدعو إليها إدارة الرئيس دونالد ترامب في الولايات المتحدة.
وأوحت حكومة جونسون بتصاعد رأي عام بريطاني داخلي يدعو إلى تمسك لندن بالخيارات التي عبّرت عنها وزارة الخارجية ورئاسة الحكومة والبناء عليها لتأسيس سياسة خارجية جديدة تجهز بريطانيا لمرحلة ما بعد الخروج من النادي الأوروبي. وألمحت صحيفة “التايمز” البريطانية، الثلاثاء، إلى ضرورة انتهاج لندن سياسة تتسق تماما في العلاقة مع أوروبا بالنهج الذي عبرت عنه وزارة الخارجية البريطانية قبل أيام.
وقالت الصحيفة، التي جاءت افتتاحيتها بعنوان “خيارات الخليج”، إنه في مقابلة حديثة معها قال وزير الخارجية البريطاني الجديد دومينيك راب إن “بروكسل ليست الوحيدة صاحبة القرار”، وعليه أن يتصرف بموجب ذلك التصريح. والظاهر أن الرؤية البريطانية الجديدة تستوحي عناصرها من فكرة الطلاق النهائي مع الاتحاد الأوروبي والعمل من داخل القارة العجوز على أساس أن بريطانيا دولة أوروبية كبرى تنسج علاقات متميزة مع المحيط الأوروبي دون أن تكون مكبلة بقيود عضويتها في الاتحاد الأوروبي.
لكن تلك الرؤية تتأسس أيضا على العودة إلى ربط بريطانيا بالحلف التاريخي القديم مع الولايات المتحدة، خصوصا أن الرئيس ترامب يقدم العروض تلو العروض لتشجيع بريطانيا على “التحرر” من الاتحاد الأوروبي ونسج علاقات تجارية مع العالم ومتميزة خصوصا مع الولايات المتحدة.
وينمو في بريطانيا تيار رأي يواكب عمل حكومة جونسون في هذا الصدد ويدفعها إلى خيارات أميركية أكثر جرأة. وتقول الصحيفة إنه لضمان مصالح بريطانيا، فإن على جونسون العمل بطريقة أكثر قربا مع الولايات المتحدة، وأن يقيم بحرص كيفية التعاون مع الاتحاد الأوروبي بشأن الدفاع والأمن، وأن يتخذ موقفا حاسما إزاء اللاعبين “الأشرار” في الشرق الأوسط وروسيا والصين.
وتضيف أن هذه القضايا تلتقي جميعا في التعامل مع إيران، ولكن يبدو للصحيفة أن راب “يتحاشى بعض القضايا الرئيسية بينما تسعى بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي”. وتعتبر هذه اللهجة التي تعبر عنها الصحيفة اللندنية غريبة عن الأبجديات التي اتبعتها الحكومات السابقة إما لجهة التمسك بالعلاقة مع إيران والحفاظ على الاتفاق النووي، وإما لجهة استخدام تعابير تختلف عن تلك التي تستخدمها واشنطن في وصف خصومها.
ويرى مراقبون أن الدبلوماسية البريطانية قد تميل إلى النظر إلى العالم بمنظار أميركي وربما ترامبي في تقسيم العالم إلى أشرار وأخيار. وترصد مصادر دبلوماسية في هذا النهج المتعلق بإيران ابتعادا واضحا عن النهج الأوروبي الذي يسعى للعب دور وسطي متوازن داخل الصراع الجاري حاليا بين واشنطن وطهران.
وتسعى الدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق النووي الإيراني المبرم عام 2015، فرنسا وألمانيا وبريطانيا، إلى التوصل إلى آلية مالية تسمح بالتعامل التجاري مع إيران على الرغم من إعادة فرض الولايات المتحدة عقوبات على طهران. وتساهم روسيا في المساعي الأوروبية وتدفع باتجاه إيجاد سبل حتى تبيع إيران نفطها.
وتوحي “التايمز” بأن على لندن التعامل مع الحالة الإيرانية وفق المنهج الأميركي وألا تسير بريطانيا في ركب أوروبي يود التميّز عن الولايات المتحدة وربما تقويض جهودها وضغوطها لإجبار إيران على الذهاب نحو طاولة الاتفاق لإبرام صفقة جديدة وفق روحية قرار ترامب الانسحاب من اتفاق فيينا الموقع عام 2015 والشروط الـ12 الشهيرة لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو.
وتقول الصحيفة إن المساعي الرامية إلى تخطي إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لا تقدم نفعا، ولا تخدم فقط إلا إشعار طهران أنها يمكن أن تحدث انقساما داخل التحالف الأوروبي، وترى أن النظام الإيراني يتظلم لأوروبا ويعتقد أن أوروبا لا تبذل ما يكفي من الجهد لتحدي ترامب.
وليس من المستبعد أن تحذو لندن حذو واشنطن في فرض عقوبات على إيران وعلى أذرعها المسلحة في العالم. وشكل قرار حكومة تيريزا ماي السابقة اعتبار حزب الله بجناحية السياسي والعسكري منظمة إرهابية شكل مقدمة لبداية التحول الرسمي في بريطانيا بالوجهة التي تريدها واشنطن، وأن مسألة فرض عقوبات ضد الإرهابيين ورعاتهم قد تكون مسألة وقت.
وتقول التايمز في هذا الصدد، بما اعتبر تمهيدا لإجراءات بريطانية عقابية، إن العقوبات الأميركية لا تهدف إلى تجويع الإيرانيين، ولكن تزيد التكاليف والتبعات التي يتكبدها الحرس الثوري الإيراني لتسليح جيوشه بالوكالة. وترى الصحيفة أن العقوبات الأميركية بدأت تحقق النتائج المرجوة منها، فعلى سبيل المثال بدأ حزب الله اللبناني المدعوم من طهران في مواجهة مصاعب في الحصول على ما يحتاجه من مال.
قد تكون قرارات لندن بتعزيز قوتها البحرية من خلال إرسال المدمرة “دنكان” إلى الخليج أو من خلال إعلان وزير الخارجية أن لا مقايضة بين ناقلتي النفط، بداية لمسار يوقف سياسة الاسترضاء
ويتساءل المراقبون عن قدرة بريطانية على الإفصاح عن مواقف انقلابية راديكالية حيال إيران في وقت ينصبّ تركيز حكومة جونسون على التعامل مع ملف بريكست المعقد على صعيد العلاقة الداخلية مع البرلمان والأحزاب المعارضة والرأي العام الداعي إلى البقاء في الاتحاد الأوروبي، وعلى صعيد العلاقة المتوقع أن تكون أكثر صعوبة مع الاتحاد الأوروبي في بروكسل.
غير أن أصواتا في بريطانيا بدأت تعتبر أن التشدد في الموقف من إيران هو جزء من معركة بريكست أيضا من حيث تظهير بريطانيا جديدة تتعامل مع التحديات الكبرى من داخل السياق البريطاني المستقل عن أي شروط أخرى تفرضها مرحلة العضوية “السابقة” داخل الاتحاد الأوروبي. وتذهب التايمز إلى أن مهمة وزير الخارجية البريطاني الجديد ليست فقط كسب أصدقاء لبريطانيا، ولكن كشف أعدائها أيضا. وتنهي الافتتاحية قائلة إن “السياسة البريطانية إزاء
إيران تقترب من أن تكون استجداء لرضاها”.
وقد تكون قرارات لندن بتعزيز قوتها البحرية من خلال إرسال المدمرة “دنكان” إلى الخليج أو من خلال إعلان وزير الخارجية أن لا مقايضة بين ناقلتي النفط، بداية لمسار يوقف سياسة الاسترضاء التي شعرت طهران بأن عواصم العالم تعبر عنها لمنع تصعيد الأمور وللحيلولة دون انهيار الاتفاق النووي.