الجزائر: علاقة الدولة الفاشلة بظاهرة فسيفساء الانقسامات
أحد أهم الإنجازات التي حققها الحراك الشعبي في الجزائر في صراعه المتواصل ضد عصابة النظام الحاكم منذ انطلاقته في 22 فبراير 2019 حتى الآن هو أنه تمكن من نزع الغطاء بشكل جزئي عن ظاهرة فسيفساء الانقسامات والفساد في الهياكل السياسية الجزائرية وعلى مستوى المكون البشري للنظام الحاكم. وهذه الفسيفساء السلبية ليست طارئا وإنما لها جذور تاريخية لم تدرس بعد دراسة علمية جادة، أما ظهورها راهنا فهو مجرد إعادة إنتاج لهذه الظاهرة فقط.
لا شك أنّ هذه الظاهرة النمطية ساهمت على مدى سنوات طويلة في تخريب المجتمع الجزائري وأخلاقياته الوطنية والمشهد الجزائري السياسي ككل. وما تزال تلعب دورا محوريا في تعميق الأزمات البنيوية التي ما فتئت تعصف بالجزائر منذ خروج آخر جندي فرنسي مستعمر من أراضيها.
وفي تقديري فإنّ ظاهرة فسيفساء الانقسامات التي تشهدها الساحة السياسية هي سمة أساسية لها ركائزها الاجتماعية والثقافية والنفسية سواء قبل الاستقلال، أو في عهد الحزب الواحد بعد الاستقلال، أو في عهد ما يسمى بالتعددية الحزبية حين سمح على مضض بإنشاء أحزاب المعارضة الشكلية.
والحال أن ظاهرة هذه الفسيفساء التقسيمية ليست سمة لأحزاب المعارضة المتقاتلة فقط، وإنما هي سمة عامة لمختلف البنيات البدائية التي يقوم عليها جزء كبير من الرأسمال الثقافي الجزائري وتقوم على أساسه المؤسسات التابعة للدولة أو للقطاع الخاص في مرحلة الاستقلال. ومن الملفت للنظر أن أوساط الحراك الشعبي نفسه لم تسلم منها، أما الوحدة التي تبدو بين صفوف هذا الحراك من بعيد فهي مجرد تخيّل لأن التشكيلات المكونة له لا يوحدها الانتماء الإثني اللغوي، أو العقيدة الأيديولوجية، أو الخيارات السياسية الواحدة ما عدا مطالب التخلص من أقطاب النظام الحاكم، ومن الفساد المالي والإداري، وكذلك القضاء على الأسلوب الارتجالي في التنمية الاقتصادية والصناعية، وعلى نهج الترقيع الانتهازي في ميادين التعليم والثقافة.
أما جوهر محتوى هذا النظام الحاكم فلم يتم الحسم فيه بشكل نهائي. ويتمثل هذا المحتوى ظاهريا في فسيفساء أطراف الصراع المزمن على الهويات الذي ما زال يطفح على السطح حتى بين أوساط الحراك الشعبي في هذا الشكل الرباعي: الأمازيغية، والعروبة، والباديسية (نسبة إلى إسلام عبدالحميد بن باديس بجمعية المسلمين الجزائريين)، والنوفمبرية (نسبة إلى ثورة نوفمبر ضد الاحتلال الفرنسي).
هذا ويبرز أيضا في مشهد فسيفساء يناقض تقاليد المجتمع الجزائري المؤسسة على التكافل الاجتماعي والإنتاج الجماعي للثروة مع خيار الرأسمالية المتوحشة المعممة في البلاد والمكرسة من طرف النظام الحاكم واستعماله لها كأداة لتقسيم المجتمع ولنشر التفاوت الاجتماعي وبؤر الفقر المدقع لدى أغلب سكان المجتمع الجزائري.
في الحقيقة فإن جوهر النظام الجزائري لا يزال قائما حيث لم يطرح كشرط من شروط تغيير النظام المهيمن وكمطلب أساسي بموجب القضاء عليه تفتح فضاءات الانتقال الديمقراطي الذي بدون تحققه لا يمكن الانتقال إلى طور بناء الدولة الجديدة للشعب الجزائري.
لا شك أن استمرار ظاهرة هذه الفسيفساء السلبية في الجزائر بكل عناصرها يعني جوهريا الإبقاء على التشكيل المتناقض لكل ما يتصل بالسياسة والممارسة في الميدان وهو دون أدنى ريب السبب المباشر الذي أنتج وما زال ينتج الفوضى العارمة في البلاد وكذا الفساد بكل أنماطه.
في هذا السياق ينبغي القول إنه يصعب اعتبار هذا النمط السلبي من الفسيفساء تنوعا فكريا صحيا أو مجموعة تيارات أو اتجاهات سياسية لها برامج متنوعة ضمن النشاط السياسي والاجتماعي في البلاد، كما يصعب أيضا النظر إليه كمركّب لتنوع من الرؤى الفكرية الإيجابية التي يهدف أصحابها إلى بناء تصورات لمشاريع وطنية يمكن أن تساعد على تحقيق النهضة في المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي والتعليمي الجزائري.
وجراء ذلك فإن أغلب التشكيلات في المجتمع الجزائري محكومة بتكرار فسيفساء التشرذم والتنافر سواء لدى الأحزاب أو لدى الحراك الشعبي، أو على مستوى أجهزة النظام الحاكم وتركيبته البشرية أيضا. وفي الحقيقة فإن للظاهرة الفسيفسائية جذورا في عمق المجتمع الجزائري وليست وافدة أو طارئة وهي تمتد إلى القيم الثقافية والاجتماعية والعقائدية التي فرّخت وما تزال تفرّخ التشظي والانقسامات في المشهد الجزائري.
ونظرا إلى ذلك فإن تغيير هذه البنية المركبة هو الشرط الضروري الأولي لإحداث تحول راديكالي في المشهد الجزائري برمته. وهكذا فإن التشظي الراهن هو استمرار للتناحرات التي شاهدتها التعددية الحزبية قبل انطلاق ثورة نوفمبر 1954 والتصفيات العقائدية والجسدية والسياسية التي شاهدتها حركة التحرر الوطني، والانقلاب العسكري في المرحلة الأولى من الاستقلال الوطني، ثم الانقلاب العسكري على التجربة الأولى للانتخابات التعددية في تسعينات القرن الماضي والذي أدخل الجزائر في دراما العشرية الدموية الخطيرة.
إن ظاهرة فسيفساء الانقسامات المنتجة للصراعات وإجهاض الانتقال الديمقراطي هي التعبير الحقيقي عن عرض وعلة إنتاج الدولة الجزائرية الفاشلة بكل المقاييس رغم توفر رأسمال الكفاح التحريري في المجتمع الجزائري، فضلا عن كونه ملتقى التجارب التاريخية والحضارية التي مرت عليه عبر التاريخ القديم والحديث والمعاصر، كما أنه يملك مختلف مصادر الثروة الطبيعية والبشرية.
ومن الملفت للنظر أن كل الذي فعله النظام الجزائري على مدى سنوات الاستقلال هو تكريس ثقافة الأزمات السياسية والاقتصادية واللغوية والاجتماعية فضلا عن ترسيخه لسياسات الانقطاع المنهجي عن تجارب التنمية الأكثر تقدما في المحيط العالمي