مستقبل أوروبا رهين بالتطورات في شمال أفريقيا

تتواصل الانتقادات الموجهة لصناع السياسات الخارجية الأميركية، بوصف أساليبهم بقيت تقليدية رغم التغيرات الحاصلة في عهد الرئيس دونالد ترامب الذي يصوغ سياساته على قاعدة المصالح ووفقا لشعار “أميركا أولا”.

ظلت سياسة واشنطن الخارجية تركز رأسا على تمركزها في منطقة الشرق الأوسط، لكن دون لعب أدوار هامة في مناطق أخرى كأفريقيا وخاصة في شمال القارة الذي قد يكون مع ظهور بوادر نزول روسيا بكامل ثقلها للتأثير في مستقبل المنطقة مولّدا لمخاطر على مصالح الولايات المتحدة وأوروبا على حد السواء.

وتتعالى في الولايات المتحدة أصوات المعارضين لبقاء السياسات الخارجية موجهة بوصلتها فحسب إلى منطقة الشرق الأوسط بما تحتويه من نزاعات وصراعات إقليمية متواترة.

ويطالب بعض الخبراء المختصين في العلاقات الدبلوماسية والسياسات الخارجية، صناع القرار في واشنطن إلى توجيه أعينهم نحو ما يحصل في شمال أفريقيا التي قد تكون إطارا مكانيا هاما سيحدد فيه مستقبل أوروبا وكذلك مصالح واشنطن.

وفي هذا الصدد، يكتب ستيفن كوك الخبير المختص في شؤون الشرق الأوسط والشؤون الأفريقية مقالا بمجلة “فورين بوليسي” الأميركية يدعو فيه واشنطن بأن توقف طرق تعاملها مع شمال أفريقيا كطرف ثانوي.

ويستحضر الكاتب أنه عندما قدم إلى واشنطن لأول مرة في التسعينات، كان عدد المختصين في شؤون شمال أفريقيا ضئيلا. ما جعله يعتبر أن المنطقة منعزلة، كما لم تستقبل واشنطن أي طرف يعمل على حل مشكلة الصحراء المغربية.

منطقة شمال أفريقيا تعتبر مهمة في تحقيق مصالح الولايات المتحدة المتعلقة بأوروبا

ويؤكّد كوك أنه عوضا عن ذلك، عملت الأطراف الفاعلة في السياسة الخارجية الأميركية على تأمين الممرات البحرية في منطقة الخليج، وعلى الكتابة حول العقيدة الوهابية الناتجة عن بيئة المنطقة القاسية، بالإضافة إلى متابعة عملية السلام الصعبة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وتبقى هذه الرؤية ضيقة، وهو ما يعتبر أمرا مؤسفا حيث تبقى منطقة شمال أفريقيا ذات أهمية أكبر لمصالح الولايات المتحدة مقارنة بسياساتها في الشرق الأوسط القديمة والجديدة.

وتبرز الخارطة الجيوسياسية أهمية منطقة شمال أفريقيا لمصالح الولايات المتحدة الأساسية، وعلى مستوى تحقيق الاستقرار في أوروبا.

وتتميز منطقة شمال أفريقيا رغم ما تعرفه من صعوبات اقتصادية وسياسية في كل من ليبيا والجزائر وتونس بعدة مميزات هامة، حيث لا تتجاوز المساحة الفاصلة بين الساحل التونسي والساحل الإيطالي 146 ميلا، وتفصل مسافة 286 ميلا ليبيا عن اليونان.

ولا تبعد الشواطئ الجزائرية سوى 469 ميلا فقط عن شواطئ فرنسا، وتعادل هذه المسافة تلك الفاصلة بين واشنطن وتشارلستون في جنوب كارولينا. كما لا يحتاج المرء أن يقطع أكثر من 9 أميال ليصل إلى إسبانيا من المغرب.

وساهم التقارب الجغرافي والتاريخ الاستعماري المشترك في تشكيل منطقة المغرب العربي لتصبح أقرب ثقافيا من جنوب أوروبا مقارنة بالنقاط التي تشترك فيها مع دول أفريقيا جنوب الصحراء.

وتغنم بعض الدول الأوروبية موارد هامة من أفريقيا. فعلى سبيل المثال، تحصل إسبانيا على 52 بالمئة من الغاز الطبيعي من الجزائر التي تصنّف كثاني أكبر مورّد للغاز في إيطاليا. وإذا وجدت الجزائر نفسها في مواجهة موجة من العنف، وهو ما يعتبر احتمالا واردا، وتعطّلت إمدادات غازها، فستواجه أوروبا مشكلة كبيرة.

وإذا حدث هذا الأمر، هل ستنجح القارة الأوروبية في تعويض النقص من خلال الاستيراد من بلدان أخرى؟ فعلى الرغم من تمتع ليبيا بموارد وفيرة من الغاز، إلا أنها في خضم حرب أهلية. كما تمتلك مصر كميات هائلة من الغاز، لكنها تبقى غير قادرة على تعويض أي نقص قد تواجهه أوروبا.

على الرغم من تمتع ليبيا بموارد وفيرة من الغاز، إلا أنها في خضم حرب أهلية. كما تمتلك مصر كميات هائلة من الغاز، لكنها تبقى غير قادرة على تعويض أي نقص قد تواجهه أوروبا

إلى جانب هذه السيناريوهات، تثير قضية الهجرة غضب زعماء أوروبا، الذين وجدوا أنفسهم بين نزعة الاتحاد الأوروبي الليبرالية العالمية والقومية العنيفة التي كان من المفترض أن تعمل القارة الأوروبية الموحدة والديمقراطية والمزدهرة على القضاء عليها.

ولم يخلق المهاجرون الذين وصلوا أوروبا عبر شمال أفريقيا الأحزاب القومية اليمينية والفاشية الجديدة، لكنهم عززوا قاعدة مؤيديها.

ومنذ عشرين عاما، ركّزت واشنطن على مكافحة القاعدة ثم تنظيم الدولة الإسلامية في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن. وعلى الرغم من اعتبار التطرف في شمال أفريقيا قضية ثانوية، فقد أثّرت مشاكل الجزائر وليبيا وتونس الإرهابية على أوروبا.

خلال التسعينات، فجّر جزائريون مترو باريس كما خطفوا طائرة تابعة لشركة الخطوط الجوية الفرنسية وحاولوا إجبار الطاقم على قيادتها نحو برج إيفل.

وتعتبر الهجمات الإرهابية التي شهدتها أوروبا مؤخرا محلية، لكن هذا لا يعني أنها في مأمن من التطرف الآتي من شمال أفريقيا.

ولا تعتبر القوى الاستعمارية القديمة في شمال أفريقيا (فرنسا وإيطاليا) الوحيدة التي تنشط في شمال أفريقيا، حيث تجمع علاقات دفاعية منذ فترة طويلة بين روسيا والجزائر. كما أصبحت موسكو حاليا أكثر نشاطا في ليبيا.

ويخلص التقرير إلى أن منطقة شمال أفريقيا تعتبر مهمة في تحقيق مصالح الولايات المتحدة المتعلقة بأوروبا. وإذا فشلت في رؤية ذلك، فعليها إعادة تفحص التغيرات الجيوستراتجية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: