طالب راغب” كوميديا مغربية حافلة بالمفارقات
يوظف المسرح الاحتجاجي كل ما يمكنه من الميثولوجيا، والفلكلور الشعبي، والكوميديا الاجتماعية، والرقص والغناء، ويستخدم لغة أهل قاع المدينة في السخرية من أندادهم، كل هذا لإبلاغ رسائله إلى الجمهور. وفي هذا الإطار يمكننا أن ندرج المسرحية المغربية “طالب راغب” التي لاقت ترحيبا من جمهور الرباط مؤخرا.
نقل معاناة الفتيات في مجتمعاتنا إلى المسرح بكوميديا هادفة، يجعل ضحكات الجمهور نوعا من العقاب لما يحصل في بيوت الكثير من الضاحكين، الذين لهم بيوت تستر بجدرانها ممارسات كثيرة سيئة بحق الفتيات.
هذا ما نقلته مسرحية “طالب راغب” الكوميدية التي قدمتها فرقة مسرح المدينة بدعم من وزارة الثقافة المغربية على مسرح محمد الخامس بالرباط مؤخرا.
المسرحية من تأليف يحيى الفاندي وإخراج هشام الجباري، وتمثيل، سكينة درابيل، هشام الوالي، عدنان موحجة، يحيى الفاندي، سينوغرافيا سارة الرغاي، الملابس من إعداد ليلى إيكريماح، والإنارة والصوت لأشرف الجباري.
مسرح الاحتجاج
ثلاثة فصول من الضحك المتواصل عن العلاقات المتردية بين أخوين، وأختهما العانس هوتة، مثلت دورها سكينة درابيل. الثلاثة يعيشون في شقة متداعية، قديمة الأثاث، ويدير حياتهم طالب (مثل دوره عدنان موحجة) الأخ الأكبر، الذي تذكرنا تصرفاته وإدارته لأسرته بالأخ الأكبر في رواية “1984” للكاتب البريطاني جورج أورويل.
المسرحية تتحدث عن أحوال بعض الشباب، من الذين يعيشون في قاع المجتمع، ولم ينالوا تعليما أو رعاية أسرية، فهم بلا مهن يعتاشون منها، وبلا حاضر أو مستقبل يأملون فيه.
شخصيات تشعر أن الأرض هشة تحت أقدامها، فتنعدم لديها المشاعر السوية، ولا تبقى لديها سوى غرائز تسيطر عليها، وكل همها يتلخص في الحصول على المال، لتلبية هذه الغرائز.
وبالرغم من الطابع الكوميدي الاجتماعي (فودفيل) للمسرحية إلا أنها تذكر أيضا بطروحات مسرح “الغضب” البريطاني، أو ما تعرف عليه الوسط المسرحي العالمي في الستينات بـ”مسرح الاحتجاج”. هذا النوع من المسرح ظل يمثل تظاهرة غير مباشرة لرفض السياسات الخاطئة للحكومات بأوروبا، وما تخطه برلماناتها من قوانين خاطئة. أورثت الفقر، والانحلال الأُسريّ في المجتمعات، وقادت الكثيرين إلى سلك شتى الطرق الخاطئة لجني المال.
و”طالب راغب” المغربية، لا نجد فيها تفخيما، ولا مبالغة في التعامل بين الشخصيات بل انتقادات تصل أحيانا إلى درجة الشتيمة، وإلغاء العرف الاجتماعي.
المسرحية تتحدث عن أحوال بعض الشباب، من الذين يعيشون في قاع المجتمع، ولم ينالوا تعليما أو رعاية أسرية
ومن مزايا هذا النوع من المسرح تهديمه للجدار بين الجمهور والممثلين أثناء العرض، فالممثل يخاطب الجمهور، والجمهور يرد عليه. وهذا ما حصل بحضور الجوق الموسيقي الشعبي، ليقدم موسيقى شعبية مغربية في عرس هوتة وسط الجمهور.
وتدخل الجمهور بتعليقاتهم وتبريكاتهم للعروس. ويحتمل هذا المسرح ارتجال الممثل لعبارات أو كلمات لا توجد في النص، ولكن الممثل بحساسيته الفنية يرى أنها من المناسب قولها، لترسيخ المشهد الذي يمثله، أو ليزيد من جرعة الكوميديا في حواره.
وأخيرا فقد اعتمد هذا النوع من المسرح على الحبكة المُحكمة، والتنامي السريع في الأحداث صعودا إلى الذروة، ثم يأتي الانفراج في النهاية. وهذا ما نجده في فصول مسرحية “طالب راغب” التي تنتهي بزواج هوتة من حبيبها سعيد ساعي البريد (مثل دوره هشام الوالي) بحيلة ذكية من هوتة وحبيبها سعيد، الذي كان يرفضه أخوها طالب، لأنه فقير، ولا يمثل له الطموح الذي يحلم به.
العرس المغربي
يمتهن طالب، الأخ الأكبر، بيع المخدرات لأولاد الجيران، أما راغب الأصغر، فمهنته السرقة وقطع الطريق على الناس، وشرب الخمور إلى حدّ الإدمان، وهو يسلم ما يسرقه من مال، لأخيه الأكبر طالب لينفق على مأكلهم، وما يتطلبه العيش في شقة وسط المدينة، كتسديد كراء الشقة وفواتير الماء والكهرباء وغير ذلك.
هوتة الأخت التي تعاني من لقب العانس، الذي يطلقه عليها أخواها، فتاة مغلوبة على أمرها، في علاقتها معهما، فهي كلما يأتيها خاطب يحاول تخليصها من الحياة المذلة مع أخويها، يرفضه الأخ الكبير طالب بحجة أن مهنته متواضعة أو فقير أو أحمق. ويعاملان أختهما بقسوة طالبين منها أن تكسب المال بأي صورة من أولاد الجيران، للمساهمة في نفقات الأسرة، وفي حواراتها مع أخيها الأكبر يمكن أن يلاحظ المُشاهد تلميحات غير محترمة، للطرق التي على هوتة أن تسلكها مع شباب الحي لتكسب المال.
لا أحد من الأخوين يعامل هوتة كأنثى في البيت، وتصور المشاهد والحوارات في المسرحية كمية الظلم الذي تعاني منه الفتاة. وقد بذل المؤلف جهدا كبيرا ليجعل من معاناة الفتاة على خشبة المسرح مشاهد كوميدية تستدر ضحكات الجمهور بدل أن تثير الغضب على الأخ الأكبر، خصوصا حين ينعتها بألقاب تحط من قدرها وإنسانيتها.
وتنتقل هذه النعوت إلى لسان الطبيب النفسي ورجل الأعمال أنيس كبير السن، الذي طرق بابهم لخطبة هوتة، ولأنه غني، فهو الاختيار الصائب، الذي يوافق عليه أخوها طالب، وقد وعده هذا الخاطب الغني بمشاركته في مشروع يديرانه معا. فصار هو الآخر يناديها بالبالون، وأنه يفضل البدينات، مما جعلها تضربه ضربا عنيفا وتسقطه أرضا، وأنيس الطبيب النفسي مسرور لما تفعله به، قائلا وهو يزحف على ركبتيه، إنه بالفعل بحاجة إلى امرأة تضربه، وتهينه كل يوم مثل هوتة وإنه متمسك بالزواج منها مهما كان الثمن.
وبالرغم من حدة لسان هوتة ومقارعتها لأخويها، والخطيب المفروض عليها الحجة بالحجة، والشتيمة بالشتيمة، واللقب الساخر بما يماثله. لكنها كانت تشعر بالبؤس، وأن عليها أن تخطط للخلاص من الحياة الكابوسية التي تعيشها.
المفارقات الكوميدية تتوالى في المسرحية عند دخول الطبيب النفسي أنيس كطرف مهم في عائلة طالب وراغب بوصفه الزوج المستقبلي لأختهما هوتة والذي سيغير حياتهما من الفقر إلى الغنى، ولكونه من رجال الأعمال المعروفين، وله وضعه الاجتماعي المهم. مما جعل الأخوين يفعلان ما في وسعهما لتحسين صورتهما أمام صهرهما المستقبلي، وإبعاد تهمة بيع المخدرات عنهما والسرقة، والأعمال الدونية. وعمل ما يمكن للجيران والقريبين منهما، من أعمال الخير، والمساعدة للظهور أمام الخطيب الغني كأسرة مثالية لا غبار على سلوكاتها، وكان الأخوان يستغربان من أختهما، التي كانت كلما رمى الخطيب بالأوراق النقدية على رأسها أمام أخويها، فيجمعانه، لإنفاقه على ملذاتهما، تسرع هوتة باختطافه من أيديهما لتعيده إلى خطيبها.
وتنتهي المسرحية بزفاف هوتة من حبيبها سعيد، ساعي البريد الذي خطبها من قبل ورفضه أخوها طالب بحجة أن مهنته لا توفر الحياة الكريمة لأخته، في عرس مغربي تقليدي، وبمصاحبة جوق موسيقي شعبي، ومشاركة الجمهور. وقد أجاد “سعيد ساعي البريد” التخفي في شخصية الطبيب أنيس الغني بالاتفاق مع هوتة، لخداع أخويها، والحصول على موافقتهما على زواجها.