من الذي يحرك صراع القوائم والمبادرات غير الشرعية في الجزائر
اعتاد النظام الحاكم في الجزائر، على مدى سنوات الاستقلال، أن يبلع جميع الانتفاضات والتمرّدات مهما كان حجمها ومن ثم يلبس قفازات جديدة ويشرع في تلميع نفسه وبعدئذ يعود إلى عاداته القديمة في تسيير البلاد تسييرا متخلفا وإجهاض أي محاولة تهدف إلى خلق أسباب التحوّل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وهلم جرَا.
ويبدو الآن واضحا أن النظام الجزائري بصدد ممارسة كل الألاعيب لكي يتمكن من إخصاء انتفاضة الحراك الشعبي بطرق مختلفة وفي مقدمتها إطلاق أيدي قوى مضادة تتمثل في أحزاب الموالاة التي صارت تقدم نفسها في هذه الأيام على أنها تريد أن تتوب وتتجدد وتعود إلى الشعب، وفي تجنيد جهات مأجورة تحشر تعسفيا ضمن إطار المجتمع المدني وهي في الحقيقة جزء عضوي من بقايا المخابرات وعملاء النظام والباحثين عن المناصب في أعلى هرم الدولة بأي ثمن.
في هذا السياق يلاحظ راصد المشهد السياسي الجزائري المتخبط تكالب جهات متعددة ومتناقضة على تقديم المبادرات التي يروّج لها أصحابها على أساس أنها ترمي إلى إيجاد حلّ للأزمة الجزائرية.
وقدّمت عدة مبادرات حتى الآن ولكنها لم تحظ بقبول الملايين من المشاركين في مظاهرات الحراك الشعبي على مدى خمسة أشهر، وكذلك القوائم التي تضمنت مجموعة من الأسماء المرشحة من طرف أشخاص غير منتمين إلى الحراك الشعبي زاعمين أنها تملك المصداقية للقيام بقيادة الحوار مع رئاسة الدولة، ومع مؤسسة الجيش.
والعجيب في الأمر هو ادعاء أصحاب هذه المبادرات والقوائم أن المذكورين فيها هم شخصيات وطنية تمثل الشعب الجزائري ولكن هذه القوائم المغرضة قد واجهت وما زالت تواجه معارضة شديدة من طرف الرأي العام الوطني.
وفي هذا الشأن ينبغي التوضيح أن مصطلح “شخصية وطنية” الذي يلصق بالأسماء المقترحة بانتقائية مدروسة هو مصطلح مفروض فرضا ولا يوجد ما يبرره، لأن معظم الأسماء المذكورة في هذه القوائم لا ترقى إلى المرتبة التي تجعلها في مستوى الرمزية التي ينطبق عليها مصطلح الشخصية الوطنية من جهة، ومن جهة أخرى فإن أغلب هذه الأسماء كانت جزءا من ترسانة النظام الجزائري، وبعض الأسماء الأخرى هي مجرد مهنيين ليس لهم رصيد نضالي حقيقي ما عدا اللعب على الحبال داخل إطار منطق النظام الجزائري.
ولهذه الأسباب مجتمعة، افتقدت هذه القوائم المصداقية والشرعية. مثلا، فإن قائمة ومبادرة منتدى التغيير التابع لعبدالرحمن عرعار، المجهول في الساحة السياسية والجمعوية الوطنية، اصطدمت برفض جماعة مازفران التي تعتبر نفسها الممثلة الشرعية لكافة أطياف أحزاب المعارضة.
أما مبادرة الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، وزير الخارجية الأسبق، فدعا فيها النظام الحاكم إلى إعطاء اللجنة المقترحة من طرف منتدى التغيير لإدارة الحوار الاستقلالية التامة وبخلاف ذلك فإن الأزمة السياسية الجزائرية سوف تستمر علما أن الإبراهيمي رحب بوجود اسمه في قائمة هذه اللجنة المقترحة.
ومن الواضح أيضا أن موقف الإبراهيمي يتميز بالمرونة والبراغماتية ويمكن تلخيصه في أنه يريد التوفيق بين مواقف كل من الأحزاب الإسلامية المعارضة والحراك الشعبي وربما لكي يأخذ حصته في حصاد صراع الحراك الشعبي مع النظام الذي أبعده عن الحكم منذ سنوات طويلة.
إلى جانب مبادرة أحمد طالب الإبراهيمي، تقدم شخص نصّب نفسه كمنسق لـ”مبادرة النخب الأكاديمية من أجل التغيير السلمي” بمبادرة أخرى دعا فيها إلى الحوار مع السلطات من أجل تحضير الأجواء لإجراء الانتخابات الرئاسية مشترطا ألا تتعدى اللجنة التي اقترحها لتحاور السلطة عشرة أشخاص، كما اشترط أن يمثل الحراك الشعبي في هذه اللجنة شخص واحد فقط. ولكن دون أن يذكر هو، أو يعرف الجزائريون أي شيء عن علاقة الجهة الأكاديمية التي ينطق باسمها بالحراك الشعبي أو بأجهزة النظام الحاكم، ويُدعى هذا الشخص بريش عبدالقادر.
على كل حال فإن الشروط الشكلية الواردة في كل مبادرة من هذه المبادرات المذكورة آنفا ليست جوهر القضية لأنها مجرد ديباجة لتسويغ وتمرير مثل هذا النوع من المشاريع التي ترضى عنها السلطة الجزائرية وربما قد ظهرت إلى العلن بإيعاز منها بشكل سري طبعا.
إن الأمر الذي يهم النظام الحاكم في الجزائر راهنا هو عدم تجاوز أي مبادرة لحيثيات مبادرة الرئيس المؤقت وغير الشرعي عبدالقادر بن صالح، ولمضامين خطب وتعليمات نائب وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش الوطني الشعبي الجنرال قايد صالح. ويلاحظ في هذا السياق أن كل هذه المبادرات المقدمة حتى الآن تتميز بأنها صادرة عن جهات لم يفوّضها الحراك الشعبي الذي انتفض ضد النظام الجزائري وذيوله انطلاقا من 22 فبراير 2019.
ولم يتقدم هذا الحراك الشعبي حتى الآن بقائمة تضم ممثليه المختارين وذوي الشرعية للقيام بمحاورة مع السلطة خاصة -وهذا أمر طبيعي- لأنه يرفض الجلوس مع السلطات قبل طرد كل رموز السلطة من أجهزة الدولة ومحاسبتهم بما في ذلك الرئيس المؤقت عبدالقادر بن صالح والوزير الأول نورالدين بدوي وحكومته غير الشرعية مثلما يرفض بقوة تطبيق خيار السلطة المتمثل في الذهاب مباشرة إلى الانتخابات الرئاسية قبل غلق ملف النظام المرفوض بشكل تام ونهائي.
على هذا الأساس يلاحظ المتابع للشأن الجزائري أن هناك جهات تحرك الخيوط في الخفاء وأشخاصا مشبوهين ينتمون إما إلى أجهزة السلطة المختلفة وإما إلى المجتمع المدني الذي تتحكم فيه السلطة لكي يطرحوا مثل هذه القوائم والمبادرات بهدف تمييع مطالب الحراك الشعبي والسعي بكل الطرق إلى القضاء عليه.
والدليل الصريح على هذا هو الحماس المفرط الذي يبديه الرئيس المؤقت عبدالقادر بن صالح تجاه كل المبادرات التي لا تحيد عن مضمون خطب رئيس أركان الجيش الجزائري الجنرال قائد صالح، ومخطط التسوية الذي تقدم به هو شخصيا في مختلف الخطب التي توجّه بها إلى المواطنين الجزائريين بما في ذلك مباركته لمبادرة وقائمة منتدى التغيير لصاحبها عبدالرحمن عرعار.