التوافق بين الانتساب للدين والانتماء إلى الوطن يحصّن الأقليات المسلمة
يعاني مسلمو أوروبا في السنوات الأخيرة من تصاعد ظاهرة الإسلاموفوبيا بشكل مقلق، أججتها التهديدات الإرهابية المستمرة التي تستهدف الأمن الدولي، وتغذت أيضا بفضل الأيديولوجيا التي تتبنّاها الأحزاب اليمينية المتطرفة في الغرب، والتي تعادي المسلمين واللاجئين، ما أسهم بشكل كبير في تعزيز الكراهية ضد المسلمين. ولمواجهة هذا الخطاب العدائي، يؤكد محمد البشاري الأمين العام للمجلس العالمي للمجتمعات المسلمة على أهمية خطاب التسامح والدور الذي يلعبه أبناء الجالية المسلمة في مواجهة وتصحيح الصورة المغلوطة عن الإسلام والمسلمين.
بلغ التمييز والتعصب ضد المسلمين في أوروبا أعلى مستوياته خلال نهاية عام 2018، وتفاقم العام الجاري، ولعل حادثة استهداف مصلّين في نيوزيلندا أثناء أدائهم صلاة الجمعة في مسجدين بمدينة كرايستشرش في نيوزيلندا تؤكد حجم التصاعد المخيف للإسلاموفوبيا والكراهية المعادية للمسلمين في الغرب.
وسبق أن وصف مرصد منظمة التعاون الإسلامي للإسلاموفوبيا ظاهرة كراهية المسلمين برد فعل “غير عقلاني” من جانب بعض الحكومات في مواجهتها لمسألة التطرف بسبب إلقائها اللوم بشكل واضح على المجتمعات الإسلامية كافة دون استثناء، وبأنها تعززت مع “استيلاء” شخصيات وأحزاب سياسية يمينية متطرفة ومناهضة للإسلام على الحكومات الأوروبية.
تبعا لذلك، يستدعي نمو التيارات المتطرفة من جهة وما ينجرّ عنه من مزيد العداء للمسلمين من جهة ثانية، تكثيف روابط الحوار بين أتباع الديانات والثقافات وتعزيز ثقافة التسامح والتعايش السلمي، عبر تنسيق الجهود بين المؤسسات الإسلامية والحكومات الغربية لتفعيل دور الجاليات المسلمة الغرب في مواجهة الأفكار والصورة المغلوطة وخطاب الكراهية.
وكشف محمد البشاري الأمين العام للمجلس العالمي للمجتمعات المسلمة ، عن وجود مبادرات لتفعيل الدور الحضاري للجاليات المسلمة، تعمل على تقريب المسافات مع المواطنين من أصول مختلفة، لافتا إلى أنها “مبادرات إيجابية، لكنها بحاجة لمزيد من الجهود لبلورة رؤية يمكن أن تكون استرشادية لتجاوز الصعوبات المتراكمة”.
وبيّن البشاري أن هذه المبادرات تعمل على تعزيز التعددية الثقافية، باعتبارها حقا أصيلا من حقوق الإنسان وفقا للمواثيق الدولية والوطنية، وترمي إلى تفعيل الآليات الأكاديمية والمهنية والقانونية والحقوقية والتواصل مع الحكومات لمساعدة الأقليات المسلمة لنيل حقوقها.
خطاب فقهي جديد
وأكد البشاري أن هناك حاجة لخطاب فقهي يواكب التحديات التي تواجه المسلمين في أوروبا، ويرسّخ قيم المواطنة والتسامح، ويجسّد التوافق بين متطلّبات الاعتقاد الديني والانتماء إلى الوطن. ويعزز الاندماج في المجتمعات، ما يسمح بالحد من تداعيات الخطاب العنصري المتصاعد.
وأوضح أن المكوّن المسلم يتزايد كجزء من الحل لا كجزء من المشكلة، في ظل تنامي التيارات المتطرفة والداعمة للتشدد، وعليه لا بد من تعزيز الدعوة إلى إعمال العقل والتدبّر في الواردات من أفكار ورسائل إعلامية وغيرها، من خلال رسم منهجية تتبنّى خارطة طريق مرتكزة على أسس شاملة، والتعرّف على الآخر وبناء صورة إيجابية.
وثمّن الجهود التي يقوم بها البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، للتقريب بين الشعوب وأصحاب الديانات المختلفة، وتنطوي على إشارات واقعية لتوسيع أطر التسامح، وتدفع الآخرين للقيام بتحركات مماثلة، والبناء على القواسم الإنسانية المشتركة.
ويعدّ فرنسيس أول بابا للفاتيكان تطأ قدماه منطقة شبه الجزيرة العربية، حيث زار دولة الإمارات العربية المتحدة الشهر الماضي، ووقّع وثيقة تهدف إلى تعزيز الروابط بين المسلمين والكاثوليك.
وتلعب الإمارات دورا بارزا في نشر ثقافة السلام والتعايش. وتجسّد ذلك في عقد أول مؤتمر دولي يُعنى بشؤون الأقليات المسلمة، في أبوظبي، تلاه تأسيس المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة بهدف التواصل مع الحكومات والمؤسسات في البلاد التي تقطن فيها جماعات مسلمة، وهي بمثابة خطوة استباقية للمساهمة في إنقاذ وتوعية الشباب من الانخراط في صفوف الجماعات المتطرفة.
تأسس المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة، والذي تحتضنه أبوظبي، في مايو 2018، في ختام فعاليات المؤتمر العالمي للأقليات المسلمة، ويضم في عضويته 600 مؤسسة إسلامية، وتتشكّل أمانته العامة من 17 عضوا يمثلون المسلمين في الدول غير الإسلامية.
ويتبنّي المجلس قضايا الأقليات المسلمة، ويعمل على تعزيز قيم الاعتدال والحوار والتسامح ونبذ التعصب الديني، والارتقاء بدور المجتمعات المسلمة وأفرادها في نهضة دولها، بجانب تصحيح الصورة النمطية عن الإسلام والمجتمعات المسلمة، وتعزيز الانتماء إلى الأوطان وتفعيل نظم التعايش السلمي تحت سقف دولة المواطنة.
ويعدّ أول منصة دولية تهتم بشؤون الأقليات المسلمة، ضمن جهود الإمارات في مجال ترسيخ قيم العيش المشترك والاحترام المتبادل بين شعوب العالم.
وتزامنت مبادرات المجلس الأعلى للمجتمعات المسلمة مع إعلان الإمارات العام الجاري عاما للتسامح، وتتخذ منه فرصة لتعميق قيمه بالانفتاح على الثقافات والشعوب لبناء جسر حضاري ينشر ثقافة مشبعة بالأخوة الإنسانية، بدلا مما يواجهه العالم من تيارات الكراهية والتطرف.
وأشار البشاري، إلى أن المجلس ينظم العديد من المؤتمرات في دول مختلفة، ويطلق مبادرات تحث أبناء المجتمعات المسلمة على الاندماج في البلاد التي يعيشون فيها، واحترام الحقوق والقوانين في مجتمعاتهم، منها مبادرة الميثاق العالمي للأقليات المسلمة للحقوق والحريات، والخطة الاستراتيجية للنهوض بالدور الحضاري للأقليات المسلمة.
ولفت إلى أن هناك ضرورة لتصحيح المفاهيم لدى الأقليات المسلمة، لأن الجماعات المتطرفة تسعى إلى خلق فجوة بين الدين والوطن، وهنا تكمن ضرورة توعية المسلمين المقيمين في الخارج بأن الانتماء إلى الإسلام لا يتعارض ولا يتناقض مع الولاء للوطن، وتحذيرهم من براثن التنظيمات المتشددة التي تستغل الفضاء الإلكتروني للإيقاع بالشباب في فخ الإرهاب.
تتحدث أرقام وتقارير غربية عن أن نصف جرائم الكراهية المرتكبة في أوروبا تستهدف المسلمين، ومع تواصل تهديدات الجماعات الإرهابية التي تتوعد أمن أوروبا وأمن بقية دول العالم على حد سواء، واستمرار خطر استقطاب الشباب خاصة من اللاجئين في بعض المجتمعات الأوروبية عبر وسائل التواصل وغيرها من أدوات الدمغجة، تتزايد الضغوط على الجالية المسلمة.
مواجهة خطاب الكراهية
لتغيير وجهات النظر المبنية على الحكم المسبق تجاههم وإيقاف الصورة النمطية الخاطئة عنهم. كشف البشاري عن وجود برامح وخطط لإعداد وتهيئة قيادات الشباب المسلمين في الغرب، وإدماجهم بشكل ايجابي، وتقديم النموذج الحقيقي عن الإسلام باعتباره دينَ تسامح وتعايش واعتدال.
وطالب وسائل الإعلام بالتركيز على النماذج الناجحة من أبناء الجاليات المسلمة، الذين وصلوا لمواقع صنع القرار، عبر مساهماتهم الإيجابية في تقدّم الدول التي يعيشون فيها، وانصهارهم في المجتمعات الجديدة مع الحفاظ على الهوية الإسلامية، فهؤلاء بمثابة سفراء لدولهم وعلى عاتقهم مسؤولية تغيير الصورة الذهنية التقليدية القاتمة عن المسلمين.
وشدد على ضرورة أن ينطلق الخطاب الديني من قاعدة تقول “إن دول الأقليات المسلمة ليست دار إسلام، لأن المسلمين فيها ليسوا أغلبية، وليست دار حرب، كما تروّج الجماعات المتطرفة، لأن الدول الغربية تسمح للمسلمين بأداء الشعائر التعبدية، وهناك العشرات من المساجد والمراكز الإسلامية في البلاد الغربية، وهنا تكمن قيمة العيش المشترك وفقا للعقد الاجتماعي وقبول الآخر”.
وتواجه رسالة الإسلام الداعية إلى التسامح تشويها متعمدا، بفعل إدارة بعض الدعاة الذين أثبتوا في بعض الدول قصورا حادا في أداء مهمتهم، من خلال تعطيل الاجتهاد والتجديد وما يمثلانه من جسر وحيد وطريق قويم في مواكبة التحولات الاجتماعية.
وأوضح البشاري أن مسلمي أوروبا بحاجة ملحّة لدعم المؤسسات الإسلامية الرسمية، وإيفاد الدعاة المتميزين لتصحيح المفاهيم، بجانب تأهيل الأئمة على فقه الواقع ومواجهة الفكر المتطرف والحد من نمو الإسلاموفوبيا، فضلا عن تحصين الشباب من غلوّ الجماعات المتطرفة، وتحقيق السلم المجتمعي ومحاربة ظاهرة العداء والكراهية للمخالف.
وناشد في ختام حواره أبناء الجالية المسلمة ضرورة الاندماج في مجتمعاتهم الحالية، والتعامل بمبدأ المواطنة والتفاعل الايجابي مع غير المسلمين، والعمل على تصحيح المفاهيم والرد على الأكاذيب التي يرددها المتطرفون، وإيجاد السبل المؤثرة لمواجهة الخاطب العدائي.