جمال بلماضي يصحّح المسار مع الجزائر في أمم أفريقيا
شدّ المدرب جمال بلماضي الأنظار إليه في بطولة أمم أفريقيا بمصر بعدما أعاد المنتخب الجزائري إلى سالف عهده ليعزز رصيده من الإثناء والإشادة من قبل المحللين وخبراء كرة القدم الذين يجمعون على أنه في مشهد كروي أفريقي لا يعترف سوى بالنتائج، فقد ظل هذا المدرب بمثابة روح الفريق النابضة لإيصاله إلى أدوار متقدمة من البطولة.
سلك المدرب الجزائري جمال بلماضي نهجا مغايرا مع منتخب بلاده قوامه الروح الانتصارية العالية والتخطيط المسبق لكل كبيرة وصغيرة في البطولة، يعاضده في ذلك لاعبون مؤهلون لركوب التحدي والالتزام بأفكار “القائد” وخططه على أرضية الميدان، ليأتي الإنجاز منفردا عبر التغريد في سماء القاهرة وبلوغ أدوار متقدمة من البطولة.
ومن الخصال التي يوصف بها هذا المدرب كونه جادا في كل كبيرة وصغيرة، حادا إلى درجة لا تقبل الشك، وصارما حدا لا يطاق، بالمقابل يتحدث البعض عن “نعمة” حظي هذا المدير الفني دون غيره من المديرين الفنيين، وهي “نعمة” أعادت بث الروح في قلوب محاربي الصحراء ومكنتهم من بلوغ نصف نهائي كأس الأمم الأفريقية وربما أبعد.
ونادرا ما يظهر ابن الـ43 عاما ارتياحه أمام عدسات الكاميرات. ويبدو شاردا، مفكرا وغالبا ما يرد على من يسأله عن تشكيلته، بسرد تشكيلة المنافس، وبدقة.
وبفضل هذا الإدراك وغيره، عرف بلماضي كيف يتعامل مع كل الأدوار التي مر بها الفريق في هذه البطولة ليضعه في أدوار متقدمة، واستطاع أن يرسم للاعبيه مسارا ثابتا في نسخة 2019، بحثا عن لقب ثان في تاريخهم بعد 1990 على أرضهم.
وعانى منتخب “الخضر” منذ ما بعد عام 2015 حين بلغ ربع نهائي أمم أفريقيا، بعد أشهر من بلوغ دور الـ16 لنهائيات كأس العالم 2014، والخروج بصعوبة بعد التمديد أمام ألمانيا التي توجت بطلة للمونديال. وبعدها، خرجت الجزائر من الدور الأول لأمم أفريقيا 2017، ولم تتأهل لمونديال 2018.
وبعد مونديال البرازيل، ترك المدرب البوسني الفرنسي وحيد خليلودزيتش الإدارة الفنية، وتناوب على خلافته البلجيكي جورج ليكنز، الصربي ميلوفان رايفاتش، الفرنسي كريستيان غوركوف، الإسباني لوكاس ألكازار، ورابح ماجر، الاسم الأشهر من أن يعرّف في تاريخ الكرة الجزائرية.
ولم يجد أي من هؤلاء التركيبة الناجحة لمنتخب بلاد لا تبخل بالمواهب الكروية. وقد نهل رئيس الاتحاد الجزائري خير الدين زطشي من هذا المنبع، وانتقل إلى باريس حيث اتفق مع بلماضي مطلع أغسطس 2018.
ومن هنا بدأت قصة نجاح ظل بلماضي المولود في فرنسا يكتب أحدث فصولها ببراعة، حيث استطاع بفضل خبرته وجنوده المحاربين عبور الدور الأول بالعلامة الكاملة، وذلك بثلاثة انتصارات في ثلاث مباريات أبرزها على السنغال (0-1) في المجموعة الثالثة، ثم تفوق على غينيا في ثمن النهائي بثلاثية نظيفة، وتخطى ساحل العاج بركلات الترجيح في ربع النهائي. وفي خمس مباريات، لم تهتز شباك رايس مبولحي سوى مرة واحدة.
وقال النجم السابق للكرة الجزائرية لخضر بلومي في تصريحات لقناة “الهداف” بعد تخطي ثمن النهائي “المشكلة في المنتخب حلها السيد بلماضي. سبقه خمسة أو ستة من المدربين لم يتمكنوا من حل المشكلة”.
وأضاف “بلماضي عرف بطريقته الخاصة أن المشكلة هي بين اللاعبين، خلافات حول الكرة، من ينفذ الركلة الركنية، من ينفذ الركلة الحرة، ركلة الجزاء.. حل المشاكل، أبعَد من أبعَده، وضع البعض في مكانهم، أدخل الناس في الصفوف. المشكلة كانت انضباطية بين اللاعبين”.
إعادة الروح الغائبة
لطالما تكررت العديد من المفردات بين المعلقين والمحللين الرياضيين عند الحديث عن الإنجاز الجزائري في الكان، وهناك مفردة ردّدها كثيرون عن منتخب الجزائر لعام 2019، ألا وهي الروح الجماعية.
فقد عمل هذا المدرب على إعادة روح المجموعة للفريق واستطاع بفضل شخصيته القوية أن يفرض على الجميع انضباطا ومسارا يلتزم به الكل في الفريق ولا أحد يعلو على راية الجزائر أولا وأخيرا.
وفي مقابل نبرته الهادئة وصوته الخافت في المؤتمرات الصحافية، يبدو بلماضي كتلة من الحركة على خط الملعب، يوجه اللاعبين، يحتفل بالأهداف، ويصرخ نحو الحكام بعد قرار يراه غير مناسب أو خطأ قاس على لاعبيه.
وعلى المستطيل الأخضر، بدا المنتخب الأخضر صورة طبقا للأصل من مدربه، صلابة دفاعية، استحواذ في الوسط، وخط مقدمة فتاك قائم على رباعي موهوب يضم القائد رياض محرز، سفيان فغولي، يوسف بلايلي، وبغداد بونجاح.
ويجري لاعبو الجزائر خلف كل كرة، يستبسلون في استعادتها إذا ضاعت، أو انتزاعها إذا ما سنحت الفرصة لذلك، كما فعل بونجاح في ربع النهائي ضد ساحل العاج، ممهدا الطريق أمام هدف فغولي الافتتاحي.
هذه العزيمة اختصرها النجم المصري السابق محمد أبوتريكة بالقول بعد فوز الجزائر على السنغال إن “الفريق يلعب بروح، لا لاعب يقصّر، الجميع ملتزم”.
وأضاف “منتخب تشعر بأنه يبذل أقصى ما لديه، لديه إخلاص (..) لا لاعب يكسب بمفرده. المنتخب عبارة عن روح”، مضيفا أن “المدرب الذكي العبقري نعمة، وبلماضي (هو) نعمة”.
وفي مقابل كل هذه الإشادات، سواء أكانت للمنتخب أم له، لا تغيب عن هذا الرجل صفة تزيد من حب المتابعين له ألا وهي التواضع، حيث يقلل في كل مرة يسأل فيها بلماضي عن الإنجاز الذي يحققه المحاربون ويزيد من قوة وتماسك فريقه عندما يشيد بروح المجموعة.
ومنذ بداية البطولة، قلل من شأن اعتبار الجزائر مرشحة، مذكّرا دائما بالمرحلة السابقة الصعبة. وفي أحاديثه، بقيت حسرة الغياب عن المونديال الأخير حاضرة، لاسيما عندما قارن بين منتخب بلاده والمنتخبات الثلاثة الأخرى في نصف النهائي الأفريقي (تونس، نيجيريا، والسنغال)، مذكرا بأن الجزائر هي الوحيدة بينها التي غابت عن نهائيات روسيا 2018.
التواضع شيمة الكبار
على المستوى الشخصي، يحاول تفادي أي سؤال يخترق مساحته الخاصة. وقد قالها مرة “سأمرض إذا ما بدأت بالتحدث عن نفسي”، ورد مرة على سؤال عن عدم سروره رغم نتائج المنتخب “بلا، أنا مغتبط”، لكن دون أي تبدل في معالم وجهه.
وأضاف “ربما أنا متعب لاسيما وأن مباراة أخرى تنتظرنا سريعا (..) أنا لا أخفي فرحتي، لكن ثمة مباراة أخرى تنتظرنا”.
ويرى عارفون ببلماضي أن هذه المثابرة هي من أسرار نجاحه. ويوم تعاقد معه الاتحاد الجزائري، كان المدرب المتحدر من ولاية مستغانم (شمال) خارجا من تجربة قطرية. وهذا اللاعب الذي عرف في مسيرته أندية مثل باريس سان جرمان ومرسيليا الفرنسيين وساوثهامبتون الإنكليزي، دافع عن ألوان الغرافة ولخويا.
ومع الأخير بدأ مسيرته كمدرب في 2010. وحقق معه لقبا الدوري المحلي في موسميه الأولين، ووصل إلى المنتخب القطري الأول الذي فاز معه بكأس الخليج 2014، وبعدها إلى الدحيل (النادي الناشئ من دمج لخويا والجيش)، فقاده إلى ثلاثية الدوري المحلي وكأس قطر وكأس الأمير.
ويقول عنه المدير السابق للعنابي فريد محبوب الذي عاصر بلماضي، إن “جمال ابن اللعبة ولديه خبرة ودراية كاملة (..) يعمل بإخلاص، يعرف إدارة المباريات بشكل صحيح، يحضر الفريق نفسيا، ويستفز اللاعبين لإخراج قدراتهم”.